منار حداد

في مطلع عام ٢٠١٧، كان النظام قد أخرج فصائل المعارضة المسلّحة من مدينة #حلب، وهجّر المدنيين منها وركّز أركان قوّته هناك، وفي مطلع عام ٢٠١٨، كان النظام يستعد لـ “طمس معالم” قبور ضحايا حملته على مدينة حلب، ويصبح الضحايا “مجهولين” أي دون قيد يمكّن ذويهم من التعرّف عليهم.

يُفاقم المشكلة عدم قدرة ذوي الضحايا على الوصول إلى مناطق النظام السوري، وصعوبة القدرة على معرفة قبور ذويهم حتّى لو تمكّنوا من الوصول إلى “المقبرة الإسلامية” الواقعة في منطقة المسلمية، والتي يعتزم النظام السوري نقل “المقابر العشوائية إليها، ما يعني منع ذوي الضحايا من زيارة قبور قتلاهم والتعرّف عليها، وهو ما يمثّل حرماناً من أبسط الحقوق الإنسانية.

 

المقابر العشوائية

يوجد في محافظة حلب، ١٥ مقبرة قديمة، ومقبرة واحدة حديثة، وهي “المقبرة الإسلامية” الواقعة في منطقة “النقارين” بمحيط حلب، أما المقابر القديمة البالغ عددها ١٥، فأبرزها مقابر “كرز دادا، القطانة، جبل العظام، محمد بك، الشيخ جاكير وغيرها”.

لكن جميع هذه المقابر، امتلأت بالقبور، إمّا بشكلٍ كلّي، أو بقيت فيها أعداد محدودة من المقابر وأسعارها مرتفعة، وهذا الواقع تعيشه محافظة حلب قبل اندلاع الثورة في سوريا، ومنذ ذلك الحين، عكف النظام السوري إلى إنشاء مقبرة جديدة في ضواحي حلب، حملت اسم “المقبرة الإسلامية”، ليتم الدفن فيها.

مع تحوّل حلب إلى ساحة معارك، واشتداد القصف عليها والاشتباكات في محيطها، عجز الأهالي عن نقل المتوفّين وضحايا الحرب إلى هذه المقبرة حتّى قبل حصار مدينتهم واشتداد الحملة العسكرية عليها، ويعود السبب في ذلك إلى أن منطقة المقبرة بقيت خط اشتباكات أول في محيط حلب طيلة سنوات سيطرة المعارضة عليها، ما جعل المدنيين غير قادرين على الوصول إليها، وفق ما يوضح محمد الخطيب، وهو صحفي وعضو في #مركز_حلب_الإعلامي، وقد عاصر الحصار على مدينة حلب.

وقال الخطيب لموقع الحل السوري: “إن عملية الدفن العشوائي في المدينة بدأت قبل حملة النظام على المدينة”، وأضاف أن الدفن كان يتم بشكلٍ عشوائي دون أي تنظيم، حيث كانت كل منطقة فيها تراب يمكن الحفر فيه هي عرضة للدفن، سواء كانت حديقة أو منصّف شارع أو دوار أو أياً كانت المنطقة، المهم أن يكون فيها تراب.

وتابع الخطيب: “بمجرّد مقتل أي مدني جراء القصف أو لأي سببٍ آخر، يتم استئجار جرّافة واختيار منطقة ترابية داخل المدينة ويتم وضع المتوفّي أسفل التراب ثم الردم فوقه، دون أن تتم تغطية الجثّة بالإسمنت ودون أي إجراءات أخرى، وحتّى دون أن يتم وضع شاهدة لمعلومات المتوفّي، لافتاً إلى أنه في بعض الأحيان يتم وضع حجرة صغيرة عليها ويُكتب عليها بطريقة يدوية اسم المتوفي وتاريخ الوفاة، وفي بعض الأحيان تُكتب هذه المعلومات على قماشة أو كرتونة، وفي أحيانٍ كثيرة لا تُكتب إطلاقاً.

 

قرار النظام السوري

في العاشر من شهر كانون الثاني/ يناير، ودون سابق إنذار، خرجت صحيفة الجماهير المحلية الحلبية التابعة للنظام، بتصريحات نقلتها عن رئيس مكتب الإعداد والثقافة والإعلام الفرعي محمد سالم شلحاوي، الذي كشف عن إعداد لجنة لنقل المقابر العشوائية، بالقرار رقم ١١١٤٥، الصادر عن محافظ حلب.

وقال شلحاوي: “إن هناك ضرورة للإسراع في نقل المقابر العشوائية في حلب إلى المقبرة الإسلامية، للحفاظ على منصّفات الشوارع والحدائق وساحات المساجد”، لافتاً إلى أن “المرحلة التي مرت بها حلب نتيجة الحرب الإرهابية على سورية اضطرت العديد من الأهالي إلى دفن موتاهم في الأماكن غير المخصصة للدفن، لكن اليوم بعد تطهير حلب من رجس الإرهاب سيتم نقل كل المقابر العشوائية إلى المقبرة الحديثة” حسب وصفه.

وأحصى شلحاوي، الذي يرأس أيضاً “لجنة نقل المقابر”، أكثر من ٥٤٢٤ قبراً عشوائياً منتشراً في “٣٨ بقعة” من مدينة حلب، وجميعها سوف يتم نقلها إلى المقبرة الإسلامية الحديثة.

من جهته قال رئيس مجلس مدينة حلب المهندس محمد أيمن حلاق: “إن الأولوية هي نقل المقابر العشوائية في حديقة المعري”.

وأضاف: “نعمل على نقل جميع القبور العشوائية إلى المكان المخصص لها”.

وسوف تكلّف هذه العملية نحو ٥٠ مليون #ليرة_سورية كدفعة أولى، أما الجهة المموّلة فهي لجنة إعادة الإعمار التي خصّصت ٤٠٠ مليون ليرة سورية حسب صحيفة الجماهير.

ويُعتبر إجراء النظام هذا ليس الأول من نوعه، حيث سبق وأن قامت الإدارات المحلية التابعة لحكومة النظام بجرف بعض المقابر في مناطق أخرى كمدينة حمص وريف حمص الجنوبي.

 

دون توثيق

اللافت في قرار نقل المقابر الذي أصدره النظام، أن المسؤولين السوريين لم يأتوا إطلاقاً على ذكر توثيق هذه القبور، أو تحديد هوية أصحابها بعد النقل إلى المقبرة الإسلامية الحديثة ليتمكن ذويهم من معرفتهم.

وفي هذا السياق، قالت مصادر متطابقة من الأهالي في مدينة حلب لـ “الحل السوري”: “إن عملية التوثيق سوف تتم في حال حضور ذوي الأموات، وتقديم دليل على قرابتهم به، وإعلام اللجنة باسم ومعلومات المتوفّي، وتقديم الوثائق المطلوبة، وفي هذه الحالة فقط يمكن التوثيق”، أما في حال عدم وجود أقرباء لتقديم معلومات المتوفّي بشكلٍ شخصي، فلا توجد طريقة توثيق مُعتمدة للأموات، وهنا تكمن مشكلة هذا القرار، حيث أن معظم مدنيي حلب الذين غادروها بالحافلات تهجيراً مع المعارضة أواخر عام ٢٠١٦، هم مطلوبون لدى النظام السوري وغير قادرين على الوصول لمدينة حلب لإجراء توثيق لموتاهم.

 

تطبيق القرار

في الخامس من شهر نيسان الفائت، أعلن “مكتب دفن الموتى” عن بدء عملية نقل الجثامين من المقابر العشوائية المنتشرة ضمن مدينة حلب، بالتعاون مع مديرية الصحة ومجلس المدينة والهلال الأحمر العربي السوري، إلى المقبرة الاسلامية الحديثة.

ونقل تلفزيون “الخبر” المحلي عن مدير مكتب دفن الموتى في حلب عدنان الحسن قوله: “إن المقابر العشوائية التي سيتم نقلها هي المتواجدة في الحدائق والعشوائيات بمركز المدينة وقطاع السليمانية والسريان حالياً، ليتم بعد الانتهاء من المناطق المذكورة إكمال باقي المقابر العشوائية في المدينة”.

وأضاف أن الجثث البالغ عددها حوالي ٥ آلاف، سيتم نقلها على مراحل، موضحاً أن  المقابر العشوائية هي: “المناطق الموجودة بالمعري وسليمان الحلبي وميسلون والجابرية ومعهد سيف الدولة، بالإضافة لأوتستراد الحمدانية”.

ودعا الحسن، أهالي المتوفين إلى مراجعة مكتب دفن الموتى بدءاً من يوم الخميس 5 – 4 – 2018، وذلك للإشراف والاطلاع على عملية النقل والمكان الذي سينقل له الجثمان، لافتاً إلى أن هدف مراجعة الأهالي، هو لمعرفة إن كانوا يرغبون بنقل الجثمان بأنفسهم وبراحتهم إلى قبر آخر مجهّز يملكونه في المقبرة الحديثة، التي “تتسع لتلك الأعداد وأكثر” حسب تعبيره.

وفيما يخص الأوراق المطلوبة من الأهالي لعملية النقل فهي “بيان الوفاة، وإحالة بفتح القبر من المحامي العام الأولي بحلب بالنسبة للمتوفى المدني، أما الشهيد فيلزم من ذويه وثيقة الاستشهاد وإحالة المحامي العام الأول نفسها”.

 

 

مباركة القرار

ما إن صدر بدء تطبيق قرار نقل الجثث، حتّى سارع مفتي حلب محمود عكّام المقرّب من النظام لإصدار فتوى شرعية مُفصّلة على قياس قرار النقل

وقال عكّام في كتابٍ خطّي موجّه إلى مكتب دفن الموتى بحلب في الخامس من نيسان: “إنه يجوز فتح القبر على المتوفى، قبل مضي المدة الشرعية وهي ثماني سنوات”.

وأضاف عكام، أن الأصل شرعاً أنه لا يجوز فتح القبر، وأن يدفن كل ميت مستقل، إلا إذا دعت الحاجة، فيشترط وقتها أن يكون جسد الميت قد بُلي، موضحاً أن مدة تحلل الجثة في سوريا هي ثماني سنوات، وأوضح أنه “إذا اشتدّت الحاجة، أي فُقدت أماكن دفن الموتى، يجوز دفن ميت فوق ميت آخر، دون اشتراط مدة، على أن يوضع ساتر بين الجثمانين، حجري أو ترابي.

 

المعارضة تناشد

ردّت المعارضة السورية على قرار النظام بنقل المقابر بحلب، وقالت “هيئة الطبابة الشرعية بحلب الحرّة” في بيانٍ نشرته على معرّفاتها الرسمية بمواقع التواصل الاجتماعي في منتصف شهر فبراير/ شباط الفائت: “إن هيئة الطبابة الشرعية في محافظة حلب الحرة تناشد كافة هيئات المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان بضرورة عدم السماح بنقل هذه القبور إلّا تحت إشراف هيئات ومنظمات حقوقية محايدة، إضافةً إلى ضرورة توثيق كل حالات النقل وفق المعايير المتبعة في عمليات التوثيق المتعارف عليها دولياً، وذلك حرصاً على حفظ الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية لهؤلاء الموتى وأسرهم”.

 

لماذا لم تدفنهم المعارضة بشكلٍ آمن؟

يبدو قرار النظام، مطابقاً للمعايير الصحّية العالمية، فهو يعمل على إبعاد الجثث عن الأحياء السكنية، كما أنّه يسعى إلى دفنها بالمعايير المعمول بها، والتي تضمن عدم تأثير انبعاثات الجثث على البيئة وصحّة الإنسان.

تواصلنا مع المدير العام للطبابة الشرعية في محافظة حلب الحرة، الدكتور محمد أبو جعفر كحيل، وسألناه عن سبب سماح هيئة الطبابة الشرعية للمدنيين، بأن يدفنوا بشكلٍ عشوائي خلال سيطرة المعارضة على مدينة حلب، وقال كحيل: “نحن كهيئة طب شرعي لسنا ضد نقل الجثث بشكلٍ آمن، وإبعادها عن الحدائق والمنصّفات، وندعم هذا الأمر”.

وأضاف أن مشكلة قانون نقل الجثث ليست بعملية النقل ذاتها، لأنّها صحيحة، ولكن تكمن المشكلة في أنّها تتم دون توثيق للجثث ما يعني حرمان ذويهم المهجّرين إذا عادوا يوماً ما، أن يعرفوا مكان قبور ذويهم.

الحل الذي اقترحه كحيل كان يقوم على دخول منظمات حقوقية محايدة، وتقوم بتصوير القبر العشوائي ورقمه، وتتابعه حتّى تتم عملية النقل إلى المقبرة الحديثة، ثم تقوم بتصويره بعد الدفن، وبهذه الطريقة يتثنّى للأهالي الذين يعرفون القبر القديم، أن يتعرّفوا على مكان القبر الجديد.

وتابع كحيل: “لنا تجارب مع النظام فيما يخص موضوع الجثث، وعندما كنّا نقوم بعملية تبادل للجثث معه، كُنّا نقوم بتوثيق جميع الجثث التي نرسلها إليه مع الوثائق الكاملة لها وشهادة الوفاة، بالمقابل كان هو يعطينا جثثاً غير واضحة المعالم دون أي توثيق”.

وعن إجراءات هيئة الطب الشرعي خلال فترة وجودها في حلب أجاب كحيل: “في منتصف عام ٢٠١٥، كان لدينا مشروع لنقل هذه القبور إلى مقبرة نظامية ودفنها وفقاً للمعايير الصحية بعد توثيقها من خلال التواصل مع ذوي الأموات” كاشفاً أنّه تم تحديد أرض فارغة بين منطقتي السكّري والأنصاري، ولكن عملية تشييد القبور المُكلفة لم تكتمل بسبب عدم وجود دعم مادي لهذا الأمر.

وأكمل: “بعد أن فشل المشروع، لجأنا إلى توزيع أكياس الجثث على الأهالي ليقوموا بعمليات الدفن”، موضحاً أن هذه الأكياس كانت تضمن عدم انتشار الأمراض من خلال الجثث.. “لولا هذا الإجراء لانتشرت الأوبئة بين المدنيين، كالطاعون والكوليرا وغيرها”.

واعتبر أنّ خطوة النظام بعدم التوثيق، “من شأنها أن تُخفي معالم جريمته، حيث أقدم النظام على اعتبار المدفونين بشكلٍ غير عشوائي، على أنّهم قتلى مدنيين، وقتلتهم المعارضة السورية بسبب ولائهم للنظام”، لافتاً إلى أنّه “لو استجابت أي لجنة أو منظمة حقوقية لمناشدات هيئة الطب الشرعي، لكان اتضح أن الجثث قُتلت بأسلحة لا يملكها إلّا النظام السوري وأنه لم تتم تصفيتها كما يزعم النظام”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.