عندما كان دم الحائض مقدساً وبكارة المرأة ملك عشتار 

دم الحائض.. نجاسة المرأة ونقص دينها، كان في العصور الفخارية رمز الطهارة وجزءاً من هالة الخلق التي كانت تحيط بالمرأة، فدم الحائض كان مقدسا ويرمز إلى خروج الحياة من المرأة، إلا أن المعادلة انقلبت، وأنهى الرجل عصر المرأة الذهبي..

 

كيف انتهى عصر المرأة الذهبي؟

توضح الدكتورة “ميادة مصطفى كيالي”، في التاريخ القديم، بحديثها لموقع «الحل نت»، قدسية دم الحائض في العصور القديمة من خلال الإشارة إلى أحد رموز الإلهة الأم الكبرى التي كانت مصنوعة من الفخار، والتي اعتبرت أشبه بالوعاء السحري الذي يتحول في داخله الدم إلى حليب يتفجر من فوهة الثدي، وتمثل المستودع الذي تختمر في ظلماته بذور الحياة لتنطلق من بوابة الرحم، حيث إنَّ جسد الأنثى الكونية هو الجرة الفخارية التي تحتوي على نعم الحياة وأسبابها.

وتشير” كيالي”، إلى ترنيمة للسيدة العذراء “السلام عليك يا جرة تحوي المن المحلي حواس الأنقياء، السلام عليك يا غذاءً يقدم بدل المن” في إشارة إلى أنها الوعاء الذي احتوى على الإله الكوني، وبأنها تهب البشر حياة وغذاء (فراس السواح، لغز عشتار، ص50).

وإذا كانت المرأة اليوم تطالب بمساواتها مع الرجل، فإن المعادلة كانت مقلوبة في العصر القديم، حيث عاشت المرأة عصراً أمومياً ذهبياً امتد فترة زمنية طويلة، كانت فيه المرأة أقوى مكانة، وتملك مهارات الصيد، والدفاع عن أولادها.

وتنوه الدكتورة “كيالي”، إلى أن المرأة والرجل كانا مسؤولان عن الصيد، وكانت المرأة قوية بما يكفي للدفاع عن أطفالها، إلا أن دورها الإنجابي كان يمنعها من الصيد خلال أوقات الحمل والولادة، والدورة الشهرية، لأن دماء الدورة كانت تجذب لها الحيوانات المفترسة، وتجعلها عرضة للخطر هي ومن معها.

وتضيف الدكتورة، أن المرأة كانت تشارك في القتال والحروب، لكن مع اتساع رقعة الحروب، وانخفاض متوسط الأعمار لحدود الثلاثينات، كما تخبرنا مقبرة

(كتال هيوك – Catal Huyuk )، في جنوب الأناضول، بدأ المجتمع بإبعاد المرأة عن المشاركة بالحروب لضمان حياتها واستمرارها في إنتاج النوع.

 

الرجل القديم لم يعي دوره في عملية الإنجاب! 

وتبين الدكتورة في التاريخ القديم لموقع «الحل نت»، كيف أن الاكتشافات الأركيولوجية (علم الآثار)، تفيد بأنّ التماثيل الفينوسية (الإله بهيئة الأنثى) كانت منذ العصر الحجري القديم الأعلى، وأنها عادت لتظهر بكثرة في العصر الحجري الحديث “النيوليت” في منطقة سوريا والرافدين التي سيطر فيها الدين الأمومي بامتياز، في هذا الوقت كانت السيطرة للإلهة الأنثى ولا شيء يذكر عن الإله الذكر، وكلما اقتربنا من العصر الحجري النحاسي بدأ ظهور الابن في المنحوتات، ورويداً رويداً ظهر الأب.

وتشير الدكتورة “كيالي”، إلى أن الحضارة السومرية كانت أولى الحضارات التي اكتمل فيها الدين بعناصره الثلاثة (المعتقد، والأسطورة، والطقس) في هذا الدين ومن خلال الأساطير اتضح أنّ الإلهة الأنثى هي التي كانت تحكم، وهي المسيطرة على المعتقدات، ومنها تكوّن الكون وخرجت باقي الآلهة وخلق الإنسان.

وتوضح الدكتورة، أن ظهور بعض التماثيل والرسومات التي تشير إلى ابن الإلهة ثم لزوجها ترافق مع تدجين الحيوانات، ما قبل الحضارة السومرية، حيث يبدو في حينها أنّ الرجل بدأ يعي دوره في الإنجاب، بعد أن كان يظن بأنّ المرأة تنجب بمفردها، نظراً للتباعد ما بين الجماع والحمل والإنجاب، ومن خلال مشاهدته للحيوانات المدجنة.

وبالرغم من حدوث الانقلاب الذكوري الذي رافق عصر اكتشاف المعادن، حوالي 5000 ق.م، إلا أنّ المرأة بقيت مهيمنة على المشهد الديني في أغلب الحضارات والثقافات، وفي حضارات الرافدين حافظت على تميزها ولكنها تدرجت بالهبوط في مكانتها الدينية مع بابل وأشور، وبقيت محافظة على مكانتها في الحضارة المصرية، لتبتعد تماماً عن لعب أي دور في الديانة اليهودية، ويتم إقصاؤها حتى من التعليم الديني، وثم عادت لتحضر بكامل الجلال والحضور القدسي في صورة مريم والدة المسيح في المسيحية، وتقام لها الصلوات المريمية التي تحاكي الصلوات لإنانا وعشتار، وتلقب بنفس ألقابها، فهي الأم و النور و السماء و العجلة، وبكل تسميات عشتار تمت تسمية مريم، كما عزز الدين الإسلامي صورة مريم ومكانتها لتكون سيدة نساء العالمين.

 

السلطة، النسب، وتعدد الأزواج، امتيازات سرقها الرجل من المرأة

وتشير الدكتور “ميادة”، إلى الامتيازات التي كانت تتمتع بها المرأة في الدين الأمومي، أو الديانة النيوليتية، مثل عودة النسب لها والتعدد في الأزواج، والسلطة المطلقة، ولكن مع حصول الانقلاب الذكوري بدأ الرجل يلعب دوره في المجال الديني، سيطر الإله الذكر الواحد على الدين، وتم دحر الإلهة الأم الكبرى، فتنحّت المرأة وأخضعت عن طريق الزواج الأحادي.

وتربط الدكتورة ذلك بالحروب الأولى التي ادت إلى استعباد المرأة، واجبارها على العمل في الدعارة، وقوننة الجنس تحت عنوان الزواج، فأصبحت المرأة خاضعة للرجل الذي يتزوجها.

وتشير الدكتورة كيالي إلى تأخر وصاية الرجل الكاملة على حياة المرأة الجنسية قبل الزواج، فبكارتها فكانت ملكاً للآلهة عشتار، وتشرح الدكتورة ميادة تفاصيل ذلك موضحة، أن المرأة كانت تهب عذريتها في المعبد ضمن طقوس دين عشتار وبموافقة المجتمع، فغشاء البكارة لم يكن يشكل قلقاً للمرأة، وعذريتها ليست مهمة، بل كان الإشكال الوحيد الذي تخشاه المرأة هو عدم الإنجاب.

وقانون الزواج كان يمنعها عن ممارسة الجنس إلا مع زوجها بغية التأكد من طهورية النسب للرجل.

 

كيف قلب الرجل الموازين لصالحه؟

وترجع الدكتورة “ميادة”، سبب تقهقر وضع المرأة إلى التغيرات الاقتصادية التي رافقت اكتشاف الزراعة، واستقرار المدن وحدوث الوفرة، واكتشاف المعادن واتساع  رقعة الحروب بهدف السيطرة على الأراضي الزراعية،  كل ذلك رفع من مكانة الرجل المحارب، كما الحروب زادت من نسبة استرقاق النساء، إضافة إلى أن الرجل أدرك دوره في الإنجاب وشعر بقوته الجسدية، فأراد سحب النسب لطرفه، وقونن الزواج وتأسست الدعارة بالتوازي لتفتح المجال للتعويض عن الجنس المشاع، وصارت التعددية بميزاتها للرجل بينما تم التحكم بجنسانية المرأة لضمان طهورية النسب وبالتالي ضمان أن يكون الإرث لسلالسة الرجل، ومن خلال الزواج وقوانينه وتشريعاته تمت الهيمنة على المرأة ولا تزال حتى يومنا هذا.

وتربط الدكتورة “ميادة”، بين تبدل الوضع الاقتصادي والمعتقد الديني، حيث تفاقمت رغبة الرجل في السيطرة على الثروات ووسائل الإنتاج والسلطة، وهذا في مجمله أدى إلى تغيير في نمط السلوك الديني، وبدأ التغيير يطال المعتقدات حول الإلهة والنظر إلى قوة الإله المتناسق مع الرجل المحارب.

 

تبدل دور المرأة الآلهة

وتوضح الدكتورة، كيف تبدل دور المرأة في الأساطير الدينية، كما في أسطورة الإينوما إيليش، أسطورة الخليقة البابلية، كما عكست ملحمة جلجامش حال المرأة، من خلال نظرة جلجامش لعشتار وتصويرها على أنها سيدة الغواية والمكر والدهاء، فالمرأة في تلك المرحلة باتت مصدر القلق والخديعة على الأرض، وفي الوقت ذاته حصرت الاسطورة دور المرأة بمهمتها الجنسية في ترويض الوحش أنكيدو.

وتتابع الدكتورة “كيالي”، المرأة في جلجامش تعكس ما حصل بـآلهة الكون الأنثى، وكيف أنها باتت واحدة من بين مجمع آلهة مجبرين على الطاعة لإله واحد ذكر، وبالتالي بدأت مرحلة تفريد الإله التي ترافقت مع بداية العصر البطريركي، ونشأة النظام الأبوي.

 

عقد الزواج الفرعوني أكثر انصافا للمرأة من عقد الزواج الديني الحالي!

تذكر الدكتورة في التاريخ القديم لموقع «الحل نت»،  أن المرأة في حضارات مصر القديمة حافظت  على مكانة مرموقة شبيهة بمكانة المرأة في حضارة سومر في العراق القديم، فالآلهة إيزيس حافظت على مكانتها الغالية، وهذا بسبب أنّ الإله في الحضارة المصرية كان هو نفسه الفرعون، وبالتالي زواجه من أخته كان للحفاظ على دماء الآلهة، ولذلك في كل المنحوتات نجد صورة الإلهة إلى جانب الإله، وفعلاً القوانين في الزواج الفرعوني كانت لصالح المرأة، التي كانت تستطيع الطلاق متى تشاء وتستطيع الزواج فقط للإنجاب دون استمرار العلاقة الزوجية، بل إنّ هناك اتفاقيات مالية تلزم الزوج، وفي حال أراد أن يتخذ زوجة أخرى عليه أن يؤدي لزوجته الأولى حقوقها كافة.

وتذكر الدكتورة “كيالي”، مقدمة عقد زواج يعود تاريخه إلى زمن الدولة المصرية الوسطى، ھذا النص وحده يشي بالعدید من الأمور، وتتضح من خلاله صورة العلاقة الزوجية في مجتمع لم تكن الذكوریة قد أخذت منه مأخذھا بعد، كما فعلت في باقي الحضارات في ذات الفترة.

 

جاء في صيغة العقد:

“بما أنّ مشیئة الإله قد اقتضت أن یرتبط أحدنا بالآخر برباط الزواج المقدس الصحيح وفقاً لتقالید الرجل الحر والمرأة الفاضلة، وقد وافق كل منا بمحض إرادته وكامل تصرفه وحریة اختیاره… لكي تجيئي إلى بیتي كامرأة حرة، على أني أقدّرك كأنك قطعة مني فلا أقلل من شأنك ولا أھملك ولا أھجرك إلا َّ إذا اضطرني سبب شرعي ھام. فإذا حدث ذلك فسأقوم بإعطائك حقك الشرعي الذي أمر به الإله”..

 

طمس وجه الآلهة السورية

وعن الآلهة السورية، تحكي الدكتور “ميادة”، أن الآلهة الأنثوية كانت متعددة، رغم أن الأساطير المعروفة لم تعطي- كما يشير الباحث فراس السواح في “لغز عشتار” – صورة واضحة عن الآلهة الأم الخالقة كما كان الحال في حضارات مصر والعراق.

وتتابع “كيالي”، نجد ملامح الآلهة الكبرى في  شخصية الإلهة “عشيرة”، التي يبدو أن زواجها من الإله آيل الكبير تسبب بـطمس ملامحها وعدم وضوح صورتها، إلا أنّ الخصائص المتعلقة بالخصب والتكاثر ودورة الزراعة انتقلت إلى  وريثاتها، فنجد الإلهة “عناة” في أوغاريت، و”عستارت” في بيبلوس ودويلات المدن الكنعانية الوسطى والجنوبية والتي أصبح اسمها “عشتاروت” في التوراة، و”اللات” عند الأنباط وبعدهم التدمريون، ولا ننسى أن اسم الإلهة الكبرى السورية “ديا- سوريا” هو الذي انتقل إلى إيطاليا عن طريق الجنود السوريين في الفيالق الرومانية، وانتقلت معه عبادة هذه الإلهة السورية الكبرى.

 

مقطع من ملحمة جلجامش يصف المرأة

(أنت حجر يشب يستقدم العدو ويغريه

أي من عشاقك من أحببته على الدوام؟

وأي من رعاتك من أحببته على الدوام؟

ومن ثم سرد لها كل ضحاياها..).

نلاحظ وكأننا أمام إلحاق الافتتان واللعنات بالمرأة وشيطنتها وإدانتها.. وهذا الذي انعكس تماما في جلجامش.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.