تُدغدغ روائح الخبز المُنكّهة بـ (الفانيلا والحليب) أنوف المتزاحمين لساعاتٍ على أول رغيف ذهبي تخرجه الفرّانة الثلاثينية “نارين إبراهيم”، في مخبزها الواقع بقرية “قرة موغ”، شرقي مدينة #كوباني شمالي #سوريا، بعد وضعها أقراص العجين في قلب فرن الحجارة الملتهب، فينعكس بريقه كضوء فانوس لامع، تترقبه عيون الناظرين من أهل القرية والقرى المجاورة لها، وكأنهم يستكشفون مغارة ذهب.

رافقت عدسة (الحل نت)، “نارين” أثناء عملها وهي تتفقد جوف الفرن الذي يرسل أضواءه البرتقالية لتنعكس على وجنتيها اللتين احمرتا من وهج النار المشتعلة، فتمسح بطرف منديل جبينها المتلألئ بحبات العرق.

أرغفة الخبز البرونزية

ينعكس الضوء المنبعث من الفرن لامعاً على أسطح أرغفة الخبز المستوية، والذي يميل لونها إلى (البرونزي)، ثم تسحبها “نارين” عندما يكتمل نضجها، فينسحب الرغيف الواحد تلو الأخر، بحنية ومرونة، بواسطة ذراع خشبية طويلة تسمى (المخبز).

ويترقب القرويون خروج أرغفة الخبز التي اخترقت رائحتها الشهية أنوفهم بلا استئذان، فتطول لحظات الانتظار، ويشتد التدافع وسط المخبز الساخن، للفوز بموقع الصدارة، فتمتد الأيادي ماسكة بالقفاف وتصدح الحناجر، هاتفةً لجذب انتباه الفرّانة المبتسمة، قبل أن يقع الخبز كقطعة جمر على اللوح الخشبي.

ويتكرر مشهد الانتظار يومياً داخل مخبزها، حيث يُعد خبزاً تقليدياً متوارثاً، ورثت صناعته عن أمها والتي بدورها ورثته من الجدات.

الصعوبات

دفعت الظروف المعيشية الصعبة العديد من هذه الفئة من النساء، لمزاولة مهنة تعتقد “نارين”، أنها لن تنقرض يوماً، لأنها أساس القوت اليومي، وعن ما واجهتها من صعوبات في عملها، تقول لـ(الحل نت): «عائلتي كبيرة ومسؤولياتهم تحتاج لمصاريف كبيرة، فمردود الحقل العائد لنا لم يكد يسد أبسط الاحتياجات، بحثت كثيراً عن عمل، ولكوني غير حاصلة على أي شهادة، لم أستطع إيجاد أي وظيفة، فارتأيت إلى عمل الجدات في صناعة الخبز الذي يعتمد على مهارات ذاتية، وفتحت مخبزي بمساندة زوجي الذي يساعدني في بيع الخبز أحياناً، إن لم يكن لديه عمل في الحقل، وهذا ما أجيده، حيث استطعت من خلاله توفير ما بمقدوري لإعالة عائلتي».

احترام وإعجاب

تعود الفرّانة الأم لمنزلها بعد إنهاء عملها، فتتناول الفطور وترتب منزلها بمساعدة ابنتها، وتقول “نارين” الأم لثمانية أطفال إنها تتحمل مسؤولية رعاية بيتها وتأمين لقمة العيش للعائلة مع زوجها المزارع، الذي تعاونه بعد انتهاء بيع الخبز في الأعمال الزراعية في حقلهم الكائن في أطراف القرية، والأمر الذي يسعدها ويزيل عنها تعب يومها، هو نظرة الاحترام والتقدير التي تراها في عيون من عرفوها في قريتها والقرى المجاورة لها، كأول سيدة عاملة في القرية عملت في مهنة لطالما كانت حكراً بالرجال.

وتناقلت الألسن خبر افتتاح “نارين” لفرنها الخاص في “كوباني”، فذاع صيتها وأثار إعجاب الكثيرين كما تقول “جميلة قاسم”، مدرسة للغة الكردية في مدينة كوباني، لـ (الحل نت)، وتضيف، «تمنيت أن أزور “نارين”، التي يشهد كل من يسمع عنها بشجاعتها وقدرتها على تحمل ظروف العمل الصعبة، وأيضاً تحديها للمجتمع وعاداته وتقاليده البالية».

وتُعتبر “نارين” منافسة للرجال بعد أن اقتحمت عالمهم، فالنساء أغلبهن يخبزن في منازلهن ويبعن الخبز، إلا أنها قلبت المعادلة، بحسب ما ذكرته “جميلة” وتوضح، «لا يوجد مانع من مزاولة المرأة لجميع المهن، وهذا يعود لإرادتها، فشخصيتها القوية توفر لها الفرص للعمل في أي مهنة ترغب بها حتى إن كانت أعمالاً تُعتبر حكراً على الرجال».

المخابز التقليدية وأصناف الخبز

يقول “صلاح محمد” المنحدر من ريف “كوباني”، لـ(الحل نت) إن «لدى المخابز التقليدية أصنافاً عدة من الخبز، منه المدور بأحجام مختلفة وتُرسم عليه نقوش بالأصابع، والمستطيل ويُتسم بخفة لبابته وسهولة هضمه، علاوة على صموده لأيام وحفاظه على صلاحيته الغذائية، ما يجعله محل إقبال القرويين عليه، وعمل “نارين” وغيرها من النساء كخبّازات في مخابزهن الخاصة، واللواتي استطعن يثبتن بأن لا فرق بين الجنسين في كل مجالات الحياة ليكسبن لقمة عيشهن بالحلال، هو محط احترام وتقدير لجهدهن».


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.