أشعل الغزو الروسي لأوكرانيا فتيل مواجهة أوروبية جديدة غير مسبوقة منذ نهاية الحرب الباردة، حيث تتأثر جميع الدول المجاورة لروسيا وأوكرانيا بشكل مباشر بفعل غزو الجيش الروسي. وهذا هو حال تركيا، الدولة التي لديها علاقات قوية مع كلا الطرفين، بحسب تقرير بصحيفة “لوريون لوجور”.

ووفق ما ترجم موقع “الحل نت”، تعطي معظم التحليلات أهمية كبيرة لطبيعة المواجهة والحرب التاريخية بين تركيا وروسيا، وهم يستنتجون أن العلاقات بين البلدين لا بد أن تكون متوترة. وحتى في حالة حدوث انتعاش، كما كان الحال منذ عدة سنوات، فإن ذلك لن يؤخذ على محمل الجد. فبالنظر إلى الماضي التركي الروسي الذي كان متضاربا في كثير من الأحيان، لا يمكن إعطاء التقارب التركي الروسي قيمته الحقيقية.

من الغريب أنه في مناطق الصراع الجديدة بين الروس والأتراك، في سوريا وليبيا، وليس في مناطق المنافسة القديمة، في البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى، كانت العلاقة هي الأكثر صراعا بينهما. حيث وجدت أنقرة وموسكو نفسيهما في مواجهة عسكرية. وعلى الرغم من كل شيء، فقد تمكنتا من بناء علاقات يمكن وصفها بأنها “تعاون منافس” أو “تنافس تعاوني”، واستمر قادتهم في التواصل حتى في الأوقات الصعبة، لدرجة أنه يمكن اعتبار علاقتهما الآن جيدة وسيئة في نفس الوقت، اعتمادا على طبيعة تحولات الملفات المشتركة.

ومن بين نقاط التقارب، السياح الروس الذين يزورون تركيا أكثر من غيرهم، واستثمارات تركيا الكبيرة في روسيا في مجال البناء. الأهم من ذلك، طلب تركيا من روسيا أن تبني لها محطة طاقة نووية مدنية، حيث العمل بها جار على قدم وساق. وكذلك من حيث الطاقة، لا يمكن لتركيا الاستغناء عن روسيا التي تزودها بـ 35 بالمئة من غازها. وعلى الصعيد العسكري، وعلى الرغم من كونها عضوا في حلف شمال الأطلسي، فقد اشترت تركيا نظام الدفاع المضاد للطائرات “S400″ من روسيا، مما أثار استياء الحلف الذي أدان هذا الاستحواذ و”عاقب” أنقرة بطردها من مشروع الطائرات الجديدة “F35”.

لكن العلاقات التركية الروسية لها أيضا نقاط شائكة، حيث تواجه تركيا شكلا من أشكال التطويق. فمنذ ضم شبه جزيرة القرم، تمتلك روسيا المزيد من السفن في البحر الأسود وتسيطر على مساحة بحرية أوسع. وفي سوريا، يجد الأتراك أنفسهم على اتصال مباشر مع الروس، رغم أن البلدين ما زالا يدعمان الحلول المتعارضة، على الرغم من اتفاقهما النسبي.

وفي ليبيا أيضا، هناك مواقف متباينة بين البلدين، فروسيا حليف وثيق للواء المتقاعد خليفة حفتر، عدو تركيا، التي تدعم من جانبها الحكومة المناوئة له. وكذلك هناك تنافس بين موسكو وأنقرة أيضا في ناغورنو كاراباخ، حيث تقدم تركيا دعما ثابتا لأذربيجان، في حين أن روسيا لديها سياسة أقل تفضيلا في باكو.

أما فيما يتعلق بالمسألة الأوكرانية، فإن موقف تركيا محسوب ودقيق بدرجة أكبر. ولفهم السبب، يجب أن نعود بإيجاز إلى العلاقات بين أنقرة وكييف.

جار ثمين جدا!

لتوضيح الخيار الذي ستتخذه أنقرة، أو الذي لن تتخذه، في الصراع الروسي الأوكراني، من الأهمية بمكان أن نفهم أن أوكرانيا تحتل مكانة خاصة وتلعب دورا مهما للغاية في نظر الأتراك. وفي سياق جيوسياسي شديد الاستقطاب، قامت تركيا بتعقيد العلاقات مع معظم جيرانها، إلا أن أوكرانيا هي الدولة الوحيدة التي ليس لديها نزاع معها. علاوة على ذلك، حتى لو كانت العلاقات بين البلدين موجودة منذ ثلاثين عاما فقط، أي منذ حصول أوكرانيا على الاستقلال، فإن الروابط في الواقع أقدم. بالنسبة للأتراك، فإن أوكرانيا هي أيضا شبه جزيرة القرم، وهي شبه الجزيرة التي كانت تضم الخانيات التتارية، والتي قد كانت تابعة لفترة طويلة للإمبراطورية العثمانية. وينحدر بعض سكان تركيا من أصول تترية، مثل رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو، مما يضيف بعدا “رومانسيا” للعلاقات بين البلدين. وأخيرا، بالنسبة لتركيا، تعتبر أوكرانيا مفيدة أيضا بسبب موقعها الجغرافي. فهي تشكل مع جورجيا وأرمينيا منطقة عازلة مع روسيا، وهي جار لا يؤتمن جانبه، كما يتضح من صراعات موسكو مع معظم جيرانها.

لكن أهمية أوكرانيا ليست فقط جيوسياسية. فالسياح الأوكرانيون هم من بين أكبر خمسة زوار منتظمين للشواطئ التركية. بالإضافة إلى ذلك، تزود أوكرانيا، وهي عملاق زراعي، تركيا ببعض قمحها. وأخيرا، وقبل كل شيء، في سياق سياسي، حيث لا تثق تركيا في “عدوها التاريخي” روسيا، ولا بشركائها الغربيين التقليديين، الذين تتهمهم بعدم التضامن، فإن أوكرانيا هي حليف مهم. وفي قطاع الأسلحة الحساس، تشتري كييف الأسلحة التركية، وخاصة الطائرات بدون طيار، وتسمح لأنقرة بمواجهة الحظر العسكري الذي فرضه عليها حلفاؤها في “الناتو”. ففي الواقع، لم يعد الغربيون، غير الراضين عن انتهاكات حقوق الإنسان وسياسة التدخل التركي في جوارها وعلاقتها بروسيا، يزودونها ببعض التقنيات المتقدمة اللازمة لتصنيع طائراتها بدون طيار، وكذلك دبابة جديدة وطائرة مقاتلة مستقبلية. وبالتالي بالنسبة لأنقرة، فإن العلاقة مع كييف تساعد في التخفيف من آثار هذه العقوبات.

معضلة شبه مستحيلة الحل؟

لذلك تعتبر أوكرانيا وروسيا، كل على طريقتها الخاصة، مهمتين لتركيا، حتى بالنسبة لمنتج أساسي مثل الخبز، حيث يستورد الأتراك قمحهم من كل من روسيا وأوكرانيا. وفي ظل هذه الظروف، تجد أنقرة نفسها في مواجهة معضلة واختيار صعب للغاية. ففي حين أن البلاد على علاقة سيئة مع شركائها التقليديين، أوروبا والولايات المتحدة، واحتمالات تحول سياستها الخارجية نحو الشرق والتي أدت إلى مغازلة روسيا والصين وإيران ودول أخرى ليست نموذجية ديمقراطيا، قد تجبر الأزمة الأوكرانية؛ تركيا والدول الغربية على التأقلم من أجل إعادة أنقرة إلى الحظيرة الغربية. وسيكون البديل لتركيا، خاصة في حالة انتصار روسيا، هو تعزيز رسوخها في الشرق، معتبرة أن الغرب غير قادر على الدفاع عن حلفائه.
لكن في الواقع، مهما كانت نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا، من المحتمل أن يختار القادة الأتراك طريقا ثالثا في استمرارية ما يفعلونه حاليا، وهو التنقل بين الحبال ومواصلة سياسة عدم الانحياز في البلاد، وهو ما تفعله منذ ما يقارب من عقدين.
ويمكن للمبادرات الأولى لحكومة أردوغان في الأزمة أن تعطي مصداقية للفرضية الأولى. وبالفعل فإن تركيا هي الوصي على مضيق البوسفور والدردنيل بموجب اتفاقية مونترو لعام 1936، التي تحكم حركة المرور في المضائق في أوقات السلم والحرب. وقد أعلنت تركيا بالفعل “حالة الحرب” في المنطقة القريبة من المضيق. والغرض من هذا الإعلان هو توفير الوسائل القانونية لمنع مرور السفن الحربية الروسية، وهذا يشكل شكلا من أشكال الدعم العسكري لأوكرانيا، ويمكن قراءته على أنها تقارب مع الغرب. وتجدر الإشارة أيضا إلى أن دعم تركيا لأوكرانيا سبق الغزو الروسي الحالي إلى حد كبير، فقد طورت أنقرة سياسة التعاون العسكري مع أوكرانيا من خلال بيعها أسلحة، بما في ذلك الطائرات بدون طيار. وإذا كان استخدام هذه الطائرات بدون طيار لا يغير ميزان القوى كما كان الحال في ليبيا وكاراباخ، فإنه مع ذلك يشكل ملاذا مهما للجيش الأوكراني، الأقل عددا، ضد القوة الروسية.

ومع ذلك، لا ينبغي الاستنتاج من الدعم التركي لأوكرانيا أن تركيا ستقوي علاقاتها مع الغرب، لعدة أسباب. فالدعم التركي لأوكرانيا لا يعني الالتزام بكيفية تعامل الغرب مع الأزمة الأوكرانية، ولا يعني أنه تم تبديد جميع حالات سوء التفاهم مع الغربيين. وفي الواقع، إذا استمرت تركيا في تأكيد تمسكها بوحدة أراضي أوكرانيا والتعبير عن تضامنها مع تتار القرم، الذين لا يوافقون على ضم شبه الجزيرة إلى الاتحاد الروسي، فهذا لا يعني أنها ملتزمة بالخطاب الأوكراني الموالي للغرب. كما أن أسباب الطلاق بين تركيا والحلفاء الغربيين خطيرة للغاية بحيث لا يمكن حلها فقط لصالح الأزمة الأوكرانية، وأهمها الانجراف الاستبدادي للبلاد، وسياستها في سوريا، ودعمها الأخير لأذربيجان في كاراباخ، وبالطبع سياسة التقارب مع روسيا.

غصة النزاع السوري

تحتل سوريا مكانة مهمة في خلافات تركيا مع الغرب، لاسيما مع الولايات المتحدة. حيث يمثل الوجود العسكري التركي في أجزاء من سوريا إشكالية. ومهما كانت نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا والموقف الذي اتخذته تركيا، فلن تغير أنقرة سياستها قصيرة المدى في سوريا. وحتى لو فازت المعارضة التركية في الانتخابات المقبلة، فمن المحتمل أن تتبنى الأخيرة سياسة خارجية أكثر تدخلا من الحكومة الحالية.

وفي ضوء هذه المعطيات المختلفة، ما لم يتدهور الوضع إلى صراع عام ويؤثر بشكل مباشر على تركيا، فمن غير المرجح أن تتخذ الأخيرة موقفا حاسما. وبالنسبة لأنقرة، فإن الحرب في أوكرانيا ليست بين روسيا وأوكرانيا، بقدر ما هي بين روسيا والغرب. ومع ذلك، فإن تركيا تعتمد على إحداهما أكثر من الأخرى، التي لا تأمن جانبها. فمع الغرب، لا تزال تركيا بحاجة إلى علاقة اقتصادية قوية ولفترة طويلة، وتعاون تكنولوجي وصناعي لا يستطيع شركائها الآخرين تقديمه لها بسهولة. وإذا كانت على خلاف جيوسياسي مع المعسكر الغربي، فهي لا تخشى هجوما جماعيا، بينما تعرب عن أسفها فقط، لأن مخاوفها الأمنية لم تؤخذ في الاعتبار بشكل كاف في منطقة الشرق الأوسط المضطربة.

وعلى الجانب الروسي، تخشى تركيا على أمنها. فأنقرة تشعر بالضعف الشديد في سوريا، حتى لو تفهمت روسيا مخاوفها الأمنية بشكل أفضل من حلفائها الغربيين. وإذا ما نشأ نزاع خطير بين روسيا وتركيا، يمكن لموسكو أن تفجر على الفور التهدئة النسبية في منطقة إدلب من خلال التصعيد العسكري هناك ضد القوات الحكومية السورية. الحكومة التركية في مواجهة صعوبات كبيرة في مواجهة الرأي العام، الذي لا يبدو أنه مستعد لاستقبال موجات جديدة من اللاجئين السوريين. وفي مواجهة هذه المعضلة الجيواستراتيجية، كان موقع الوسيط بالنسبة لأنقرة هو أفضل مخرج، وهو الخيار الذي اتخذته تركيا حتى الآن.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة