تبييض الأحزاب العراقية للأموال من أهم ظواهر الفساد في العراق. وكانت مفوضية الإتحاد الأوربي قد أدرجت العراق، في أيار/مايو 2020، ضمن قائمتها السوداء للدول ذات الخطورة المالية العالية، بسبب قصور أدائه في مجالي مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب.

وعاد الاتحاد الأوروبي ليعلن، مطلع العام الحالي، إنتهاء القيود المالية المفروضة على العراق، بعد سنتين من فرضها، في رسالة موجهة الى رئيس الوزراء المنتهية صلاحيته مصطفى الكاظمي، تمت تهنئته فيها على نجاحه في مكافحة غسيل الأموال.

إلا ان خروج العراق من طائلة القيود المالية الأوروبية لم يبعد الشكوك التي تحوم حول ظاهرة تبييض الأحزاب العراقية للأموال. إذ ترجع علاقة الأحزاب بظاهرة غسيل الأموال إلى العام 2003، على إثر استفحال السوق السوداء في البلاد، ولاسيما تجارة السلاح والمخدرات، وتهريب المشتقات النفطية والآثار، وهي نشاطات غير مشروعة، تدر موارد مالية ضخمة على الأحزاب السياسية، خاصة الموالية لإيران.

الزيادة الحاصلة في كمية هذه الأموال، وعدم قدرة الأحزاب على التعامل مع سيولتها، دفعها إلى زجها في إستثمارات تجارية، تدر أرباحا بصورة منظمة وشرعية عليها. ولعل المولات وشركات السفر من أهم قنوات تبييض الأحزاب العراقية للأموال.

طبيعة ظاهرة تبييض الأحزاب العراقية للأموال

ظاهرة غسيل الأموال أو تبييضها تعني إعادة تدوير الأموال، الناتجة عن نشاطات إجرامية، في الأسواق، بغرض تحويلها من أموال مجهولة المصدر الى أرباح ذات طابع شرعي.

وعلى هذا الأساس فإن “تبييض الأحزاب العراقية للأموال يتم من خلال تسجيل هذه الأحزاب أموالها بأسماء شركات تجارية وهمية، أو شخصيات مقربة منها، تقوم بتشغيلها في مشاريع استثمارية، ذات نسب ربحية عالية”، بحسب ما يؤكد مصدر في البنك المركزي العراقي لموقع “الحل نت”.

ويحدد المصدر، الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، هذه المشاريع الوهمية في “شراء العقارات؛ والاستثمار في مزاد العملة الصعبة ضمن المصارف الخاصة والحكومية المقربة من الأحزاب؛ فضلا عن المولات وشركات السياحة والسفر”.

مقالات قد تهمك: العقارات في بغداد: لماذا أصبحت المنازل في حي المنصور أغلى من الشانزليزيه في باريس؟

وكانت المصارف العراقية قد واجهت سابقا عدة اتهامات بعلاقتها بظاهرة تبييض الأحزاب العراقية للأموال، القادمة من السوق السوداء. ومن أبرز هذه المصارف “المصرف العراقي للتجارة”، و”مصرف النخيل”، وشركة “كي كارد”، التي تتولى توزيع رواتب موظفي الدولة والمتقاعدين.

“المولات” أحد أهم مشاريع تبييض الأحزاب العراقية للأموال

وتعتبر المجمعات التجارية (المولات)، التي انتشرت في العاصمة بغداد خلال السنوات الماضية، من أبرز مظاهر تبييض الأحزاب العراقية للأموال.

ويؤكد مصدر في هيئة النزاهة البرلمانية لموقع “الحل نت” أن “لدى الهيئة ملفات كاملة عن مصدر أموال هذه المولات، ولكنها عاجزة عن توجيه أصابع الاتهام، نظرا لارتباط المتورطين بالطبقة السياسية الحاكمة، وخاصة حزب الدعوة، والمجلس الإسلامي الأعلى، إضافة الى التيار الصدري”.

وينوه المصدر، الذي فضل عدم ذكر اسمه خوفا على سلامته الشخصية، إلى أن “عملية غسيل الأموال مستمرة حتى الآن داخل المولات”. ويدلل على ذلك بوجود “تفاوت كبير بين الواردات الطبيعية، التي تدرها هذه المولات، اعتمادا على قيمة الإيجارات والمبيعات وغيرها، وبين ما كشفته الهيئة من امتلاكها أموالا ضخمة، ترفض بعض المولات الكشف عن مصدرها”.

يذكر أن هيئة النزاهة قد وجهت سابقا اتهامات الى أنور عبد اللطيف، التاجر المعروف والمقرب من بعض السياسيين، على خلفية قضايا فساد وغسيل أموال في “مول بغداد” الذي يملكه.

تبييض الأموال في الشركات السياحية

مصدر في وزارة المالية العراقية، وافق على إعطاء تصريحات لموقع “الحل نت” شريطة عدم ذكر اسمه، أكد أن “عمليات تبييض الأحزاب العراقية للأموال لا تتوقف على المولات التجارية، بل تشمل بعض مكاتب القبول الدراسي، والشركات السياحية، المعروفة بتبعيتها لسياسيين بارزين”.

وأضاف أن “هذه المشاريع تدر أرباحا طائلة، تمكن الأحزاب من الاستثمار في مشاريع أخرى، مثل المشاريع السكنية، التي ازداد إنتشارها في الأونة الأخيرة، والتي يعتقد أنها تعود الى شركات رومانية ولبنانية وسورية، ولكنها في الحقيقة أموال مبيضة، تملكها الأحزاب المتنفذة”.

مختتما حديثه بالتأكيد على أن “جميع هذه المشاريع تحقق أرباحا سريعة ومضمونة، تسهّل عملية الاستثمار فيها مرة أخرى. وهكذا يستمر تدفق الأموال على المنتفعين في الأحزاب العراقية، التي تمارس تبييض الأموال بشكل واسع”.

كيف توظّف الأموال التي يتم تبييضها؟

ولكن أين توظف الأحزاب العراقية الأموال الناتجة عن تبييض الأموال؟

الباحث الأمني علي عبد الإله يجيب على هذا السؤال بالقول: “الأحزاب السياسية المتورطة تعمل على توظيف هذه الأموال من أجل توسيع دائرة نفوذها داخل العراق، من خلال تقديم الدعم المادي إلى المقربين منها، لضمان استمرار ولائهم، ودفع رواتب أعضائها والمنتسبين إليها”.

وأضاف، في حديثه لموقع “الحل نت”: “كما أن الأحزاب العراقية تستخدم جزءا من هذه الأموال في التحضير لإنتخابات البرلمان ومجالس المحافظات. إذ تزداد في فترة الانتخابات الحاجة الى عقد الصفقات والرشاوي وشراء المناصب، ما ينشّط تبييض الأحزاب العراقية للأموال”.

ويربط عبد الإله بين “ارتفاع وتيرة الصراع السياسي في العراق وظاهرة تبييض الأحزاب العراقية للأموال. فالمبالغ المالية الطائلة المتوافرة أشعلت الصراع على المناصب ومراكز النفوذ”.

نصيب إيران من تبييض الأموال

من جانب أخر يرى المحلل السياسي عمر البرزنجي أن “كثيرا من الأحزاب السياسية العراقية تدفع جزءا من أموالها للحكومة الإيرانية، لشراء الأسلحة والمستلزمات العسكرية. إضافة إلى إعطاء بعض الميليشيات الولائية نسبة من وارداتها الى المرشد الإيراني، الذي تعتبره مرجعيتها الدينية، تحت مسمى الخُمس. وكل هذا يزيد الحاجة للموارد المالية”.

وأردف، في حديثه لموقع “الحل نت”، أن “هذه الأحزاب تدفع بجزء من عائداتها إلى إيران أيضا، تحت مسمى دعم جهود المقاومة في المنطقة. وتسعى إيران بدورها، من خلال هذه الأموال، إلى تدريب المتطوعين الجدد، ودعم أذرعها العسكرية في سوريا ولبنان واليمن ودول أخرى”.

البرزنجي يؤكد أن “إيران تستخدم جانبا من الموارد المتحصلة من تبييض الأحزاب العراقية للأموال في زيادة نفوذها التجاري في العراق، وخاصة في مجال السياحة الدينية، وهي القطاع الذي يساهم في تخفيف وطأة ضائقتها الاقتصادية الحالية”.

ويجمع كثير من المراقبين على أن مواجهة ظاهرة تبييض الأحزاب العراقية للأموال تتطلب تدخلا طارئا من الدولة العراقية، يبدأ بفرض الرقابة الصارمة على كافة المصادر المالية للأحزاب السياسية والمرتبطين بها، وإعادة فتح ملفات الفساد المعلقة لدى هيئات الرقابة الحكومية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.