هي أشد أزمة سياسية يمر بها عراق ما بعد صدام حسين، بدأت من البرلمان العراقي بعد إجراء الانتخابات المبكرة الأخيرة، وانتهت بتصعيد مسلح في القصر الجمهوري وسط بغداد، ولا أحد يدري كيف سيكون المشهد المقبل سياسيا، فما تفاصيل الأزمة؟ 

في 10 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، جرت الانتخابات المبكرة العراقية، وأسفرت عن فوز “التيار الصدري” بزعامة مقتدى الصدر أولا فيها بحصوله على 73 مقعدا نيابيا، وخسارة لقوى إيران، والتي تملك ميليشيات مسلحة. 

مقاعد قوى إيران مجتمعة لم تبلغ سوى 63 مقعدا، عبر تكتلها جميعها في تحالف واحد بعد الانتخابات سمّته “الإطار التنسيقي” لمواجهة الصدر، ومنعه من تمرير مشروعه الذي سعى إليه.

“تحالف الفتح” الجناح السياسي للميليشيات “الولائية” المسلحة حصد 17 مقعدا فقط، وحصل “تيار الحكمة” بزعامة عمار الحكيم على مقعدين يتيمين، ومثلهما حصد “ائتلاف النصر” بزعامة رئيس الحكومة الأسبق، حيدر العبادي، و30 مقعدا من نصيب “ائتلاف دولة القانون”، بزعامة نوري المالكي. 

بعد إعلان النتائج الانتخابية، ذهب الصدر للتحالف مع الكرد والسنة، عبر “تحالف السيادة” الجامع للقوى السنية والفائز أولا على مستوى المكون السني، وكذلك تحالف مع “الحزب الديمقراطي الكردستاني” بزعامة مسعود بارزاني، والفائز أولا على مستوى الكرد.

تحالف الصدر الثلاثي سمي بتحالف “إنقاذ وطن”، وكان هدفه تشكيل حكومة أغلبية يقصي منها “الإطار التنسيقي”، لكن “الإطار” وقف بوجه مشروع حكومة الأغلبية عبر لجوئه إلى القضاء؛ لأنه أراد أن تكون الحكومة محاصصاتية توافقية يشترك فيه الكل. الفائز والخاسر. 

القضاء يدعم “الإطار”

“التحالف الثلاثي” نجح في عقد أول جلسة برلمانية في 9 كانون الثاني/ يناير 2022، ومرر مشروعه الأول بأغلبية ساحقة، عبر تنصيب محمد الحلبوسي القيادي في “تحالف السيادة”، رئيسا للبرلمان، والقيادي الصدري حاكم الزاملي بمنصب النائب الأول، وعضو “الديمقراطي” شاخوان عبد الله، نائبا ثانيا. 

ليس ذلك فقط، بل نجح “إنقاذ وطن” بالاستحواذ على معظم رئاسات اللجان النيابية في مجلس النواب بتصويته عليها بأغلبية النصف + واحد من مجموع أعضاء البرلمان، البالغ عددهم 329 نائبا، في وقت يمتلك التحالف الثلاثي 180 نائبا، وأغلبية النصف + واحد تعني 165 نائبا. 

مع اقتراب مشروع الصدر من التحقق عبر انتخاب رئيس للجمهورية؛ كي يقوم بتكليف رئيس حكومة جديدة، تحول “الإطار” نحو القضاء لمنع تمرير المشروع، واصطف معه “الاتحاد الوطني الكردستاني”، الخاسر أيضا في الانتخابات؛ لأنه دخل بصراع مع “الديمقراطي” على رئاسة الجمهورية. 

وفق العرف السياسي في العراق، فإن رئاسة الجمهورية من نصيب الكرد ورئاسة الحكومة للشيعة، والسنة لهم رئاسة البرلمان، غير أن رئاسة الجمهورية من نصيب “الاتحاد الوطني” منذ 2006. 

يعد”الاتحاد الوطني” الحزب الحاكم في السليمانية وحلبچة، بينما يحكم “الديمقراطي” أربيل ودهوك، وتفاهم الحزبان منذ 2006 على أن تكون رئاسة الجمهورية من نصيب “الاتحاد” ورئاسة حكومة إقليم كردستان هي لـ “الديمقراطي”.

بعد الخسارة الفادحة لـ “الاتحاد” في الانتخابات الأخيرة، وفوز “الديمقراطي” أولا على مستوى الكرد بـ 32 مقعدا، أراد الأخير كسر التفاهم مع “الاتحاد الوطني” وأخذ رئاسة الجمهورية أيضا. 

هنا، وفي شهر شباط/ فبراير المنصرم، تقدم “الإطار” ومعه رئيس الجمهورية المسنود من “الاتحاد الوطني” برهم صالح، بطلب ألى “المحكمة الاتحادية العليا”، لإيضاح ما هو العدد المطلوب من النواب لحضور جلسة البرلمان الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية.

ردت “المحكمة الاتحادية” بقرار ملزم بأن حضور جلسة انتخاب رئيس الجمهورية الممهدة لتشكيل الحكومة يجب أن يكون بالأغلبية المطلقة وليست أغلبية النصف + واحد، أي بحضور ثلثي أعضاء البرلمان، وهم 220 نائبا من أصل 329 نائبا. 

استغل “الإطار” القرار القضائي، وفعّل الثلث المعطل، إذ بلغ مجموعه بعد انضمام “الاتحاد الوطني” له نحو 83 مقعدا، ومنع عقد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية يتطلب عدم حضور ثلث أعضاء البرلمان، أي 110 نواب فقط لا أكثر. 

الورقة لحسم الموقف بين “إنقاذ وطن” بقيادة الصدر و”الإطار”، كانت بيد النواب المستقلين الذين بلغ عددهم نحو 50 نائبا، غير آنهم اصطفوا مع “الإطار” مضطرين، تحت الترهيب بفقدان حياتهم وأهاليهم من قبل ميليشيات “الإطار” في حال حضورهم لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية. 

انسحاب واعتصام

فشل “إنقاذ وطن” 3 مرات متتالية في شهري شباط/ فبراير وآذار/ مارس المنصرمين من عقد الجلسة لعدم حضور ثلثي أعضاء البرلمان لها، وهنا دخلت البلاد في انسداد سياسي لم تنتهِ تداعياته حتى اليوم. 

بعد الفشل في عقد الجلسة، منح الصدر الفرصة للمستقلين بتشكيل حكومة جديدة على أن يذهب إلى المعارضة، لكنهم لم ينجحوا، ثم منحها ألى “الإطار” وأمهلهم مدة شهر واحد وذلك في أيار/ مايو الماضي لتشكيل الحكومة، وذهب للمعارضة، ولم يتمكنوا من تشكيلها. 

أصر “الإطاريون” على تشكيل حكومة توافقية بوجود الصدر فيها، لكن الصدر ونتيجة عدم تمكنه من تحقيق أغلبية الثلثين واستمرار الانسداد بلا حل، قرر الانسحاب من البرلمان العراقي في 12 حزيران/ يونيو الماضي، بتوجيهه لنوابه لتقديم استقالتهم من البرلمان، فاستقالت الكتلة الفائزة في الانتخابات. 

بعد 3 أيام من انسحاب نواب “التيار الصدري” وهم 73 نائبا، عقد البرلمان العراقي في 15 حزيران/ يونيو المنصرم جلسة لتأدية اليمين الدستورية للنواب الخاسرين من الحاصلين على أعلى الأصوات، ليكونوا بدلاء عن نواب الصدر المستقيلين، ومعظم البدلاء كانوا من “الإطار”. 

بعد ذلك، قرر “الإطار” تشكيل حكومة توافقية بأسرع وقت، ورشح في أواخر تموز/ يوليو الماضي، السياسي محمد شياع السوداني لرئاسة الحكومة المقبلة، وهو مقرب من المالكي، الخصم الرئيسي لمقتدى الصدر منذ أكثر من عقد من الزمن، لتشكيل حكومة “إطارية” قحة. 

إزاء ذلك، استشعر “التيار الصدري” خطورة الحكومة “الإطارية” التي ستتشكل؛ لأنها سترمي البلاد بحضن المالكي وبالتالي بيد إيران، فقرر التظاهر والاعتصام، وحدث ذلك بالفعل في 30 تموز/ يوليو المنصرم. 

اقتحم الجمهور الصدري المنطقة الخضراء، مقر الحكومة العراقية والبرلمان والبعثات الدبلوماسية الدولية، وسيطر على مبنى مجلس النواب، ثم أقام اعتصاما أمام البرلمان، استمر حتى، أمس الاثنين. 

مطالب الاعتصام كانت وبحسب مقتدى الصدر، تتمثل بحل البرلمان، وإجراء انتخابات مبكرة جديدة تشرف عليها حكومة تصريف الأعمال الحالية بقيادة مصطفى الكاظمي، ومنع اشتراك الوجوه السياسية التقليدية فيها. 

بحسب الدستور العراقي، يمكن حل البرلمان بطريقتين، إما أن يقوم مجلس النواب بحل نفسه أو يقدم رئيس الحكومة طلبا إلى رئيس الجمهورية من أجل حل البرلمان، غير أن الطريقة الثانية لا يمكن العمل بها حاليا.

السبب الذي يمنع العمل بالطريقة الثانية، هو أن رئيس الحكومة الحالية الكاظمي، رئيس حكومة تصريف أعمال يومية، أي بمثابة حكومة مستقيلة ناقصة الصلاحيات؛ لعدم وجود حكومة جديدة، وبالتالي لا يحق له تقديم طلب لرئيس الجمهورية بحل البرلمان. 

اعتزال الصدر ونهاية الاعتصام

الطريقة الأولى ممكنة عمليا، لكن مجلس النواب أغلب نوابه من “الإطار” بعد استقالة “التيار الصدري”، وبالتالي لا يمكن حله؛ لأن “التنسيقي” يريد تشكيل حكومة انتقالية هي من تقوم بالإشراف على الانتخابات المبكرة الجديدة التي يتفق مع الصدر على ضرورتها.

هنا نقل مقتدى الصدر الضغط نحو القضاء، وتظاهر أنصاره قبل أسبوع أمام “مجلس القضاء الأعلى”، بهدف استصدار قرار قضائي بحل البرلمان، لكن الأخير أكد أنه لا يملك أي مسوغ دستوري لإصدار مثل ذلك القرار. 

“مجلس القضاء الأعلى”، رد على تظاهر الجمهور الصدري أمام مقره في المنطقة الخضراء، عبر تعليق عمله وعمل “المحكمة الاتحادية” وعمل جميع المحاكم العراقية، ليصبح العراق بلا محاكم، ما دفع بالصدر لتوجيه أنصاره بالتراجع والعودة لاعتصامهم أمام مبنى البرلمان. 

قبل 4 أيام، غرد مقتدى الصدر بأنه هناك ما أهم من حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة جديدة، وهو عدم اشتراك كل القوى السياسية التقليدية في العملية السياسية المقبلة وبضمنهم “التيار الصدري”، وأنه على استعداد للتوقيع على اتفاقية تضمن تحقيق ذلك خلال مدة أقصاها 72 ساعة. 

48 ساعة مرت على تلك التغريدة، وجاء بيان مزلزل من المرجع الديني كاظم الحائري، أعلن فيه استقالته من المرجعية، ودعا من يتبعونه إلى تقليد المرشد الإيراني، علي خامنئي، ما أجّج الوضع في العراق. 

الحائري هو المرجع الديني الذي خلف المرجع الشيعي محمد صادق الصدر، والد مقتدى الصدر، الذي قتل على يد نظام صدام حسين نهاية التسعينيات، ويقلده الصدريون ومقتدى الصدر دينيا. 

رد الصدر على ذلك البيان بخطوة مفاجئة، عبر إعلانه اعتزال الحياة السياسية نهائيا، كردة فعل على محاولة محاصرته من قبل طهران من بوابة الدين لإنهاء مرجعية آل الصدر وجعله يتبع خامنئي دينيا. 

بعد اعتزال الصدر سياسيا، شهدت بغداد أمس الاثنين، ومعها محافظات الجنوب العراقي تصعيدا صدريا، من خلال اقتحامهم لكل بقعة في المنطقة الخضراء، وأهمها القصر الجمهوري، قبل أن يتطور المشهد لصراع مسلح.

هاجمت الميليشيات “الولائية” أنصار الصدر لتفريقهم وإخراجهم من الخضراء، فتدخل فصيل “سرايا السلام” التابع للصدر للدفاع عن المتظاهرين الصدريين، واندلعت مواجهة مسلحة داخل الخضراء منذ ليل أمس وحتى ظهر اليوم، عندما دعا الصدر في مؤتمر صحفي، أتباعه للانسحاب وإنهاء اعتصاماتهم.

استجاب الصدريون لدعوة زعيمهم، وانسحبوا خلال نصف ساعة من دعوته لهم، بعد أن سقط جراء العنف المسلح 30 قتيلا و800 جريح، وانتهت اعتصامات الحمهور الصدري بعد شهر من خروجها أمام مقر البرلمان العراقي، والآن الساحة مفتوحة أمام “الإطار” لتشكيل حكومة جديدة، إلا في حال قرر الصدر العدول عن قرار اعتزاله النهائي من الحياة السياسية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.