“اللگمة صعبة”، عبارة تحمل من الألم ما يعجز الإنسان عن وصف عمق مأساتها. تلك اللقمة لم تعد سببا في صعوبة حياة ملايين من العراقيبن فقط، بل أضحت ركنا أساسيا بانتشار الأمية في العراق.

“كل همّي أوفر الخبزة لأهلي من يجي الليل”، يقول الشاب البغدادي، عمر أحمد، الذي لم يدخل مدرسة قط في حياته، ولا يخفي رغبته بالدراسة كما أقرانه الذين باتوا على أعتاب دخول الجامعة اليوم.

منذ 3 أيام، حلت مناسبة اليوم العالمي لمحو الأمية، وحذّرت تيارات سياسية من تفشي الأمية في العراق، وكان رئيس الحكومة، مصطفى الكاظمي، أول المتفاعلين مع تلك المناسبة، معبرا عن قلقه من بروز مجتمع أمي في بلد الحرف الآول.

يجوب عمر شوارع الكرادة داخل منذ بكارة الصباح ولا يعود لمنزله إلا مع حلول الظلام. يبيع الماء والمناديل الورقية في الطرقات، متحمّلا البرد والحر، علّه يوفّر لقمة العيش لعائلته المتعففة، فيأكلون وجبتهم الوحيدة يوميا.

أرقام

“عمري 6 سنوات ولگيت روحي المعين الوحيد لأهلي”، يقول عمر البالغ من العمر 18 عاما اليوم، ويبرر عدم تمكنه من الدراسة وتعلم القراءة والكتابة، إلى فقر عائلته -يتيمة الأب- المكونة من 4 أفراد.

مطلع هذا العام، دقّت “اليونسكو” ناقوس الخطر في العراق، عندما قالت إن هناك 12 مليون شخص أمي في العراق، وهو ضعف آخر إحصائية رسمية حكومية عراقية قبل عامين. حينها كان هناك 6 ملايين أمي.

وزارة التخطيط العراقية، هي من أوردت الرقم أعلاه في عام 2020، وقالت إن نسبة الأمية تبلغ 13 بالمئة في عموم العراق، وأنها ترتفع عند الإناث لتصل نسبتها 18 بالمئة، وتنخفض عند الذكور، حيث تبلغ النسبة 8 بالمئة.

“چنت أتمنى أدرس مثل اللي بعمري وأكبر وآتعيّن، بس موت أبوي جبرني أعوف هالحلم وأفكّر باللگمة اللي آجيبها لخواتي وأخوي وأمي”، يقول عمر، ويردف أنهم يسكنون في بيت متهالك بأطراف بغداد، ولا بأكلون سوى وجبة واحدة يوميا لقلّة المال.

لا يدري عمر الذي يدرس أقرانه اليوم في الصف الأول من المرحلة الجامعية، كيف سيكون مستقبله، لكنه يجزم أنه لن يستطيع التعلم ولا حتى القراءة البسيطة مستقبلا؛ غير أنه يقاتل من أجل عدم تكرار قصته مع أختيه وأخيه، ويسعى لدراستهم.

الانتكاسة

العراق عاش فترته الذهبية بمجال التعليم في الفترة الممتدة من التسعينيات إلى السبعينيات، وفي عام 1979 أقر برنامج مكافحة الأمية، وفي عام 1991، نجح البرنامج بإعلان خلو العراق من الأمية تماما.

بدأت الانتكاسة في البلاد بعد غزو نظام صدام حسين للكويت وما ترتب عليه من حصار اقتصادي خانق، كان نتيجته موت مليون طفل بسبب الفقر وعدم توفر مادة الحليب لإطعامهم، وازدادت الأمية بعد سقوط صدام في 2003.

“الحروب مع القاعدة والحرب الأهلية ومن ثم حرب داعش وعدم الاستقرار الأمني، سبب أساس ومهم في تفشي الأمية في العراق”. تقول ذلك فاطمة الأسدي، رئيسة مؤسسة “تراث بابل” للتنمية والتعليم.

تسبّبت الحروب بنحو 5 ملايين يتيم، وأولئك الأيتام عادة ما يعانون من الفقر بعد غياب آبائهم، الأمر الذي يقلب حياتهم رأسا على عقب، فيضطرون لعدم التعلم والدراسة، بهدف توفير لقمة العيش للبيت، لذلك تجد أن هناك علاقة وثيقة بين الفقر والأمية، وفق الأسدي.

حسب إحصاءات وزارة التخطيط العراقية، يعد العراق بلدا فتيا، إذ أن من هم أعمارهم 15 عاما وأقل تبلغ نسبتهم 41 بالمئة، لكن انتشار الفقر يهدد بمجتمع أمي في العقود الأربعة المقبلة، بحسب فاطمة الأسدي، في وقت تبلغ نسبة الفقر 39 بالمئة بعموم البلاد.

حكاية سلوى

سلمى يوسف، صبية موصلية، لا تعرف من القراءة والكتابة سوى جزء يسير جدا منها، بالكاد تقرأ وتكتب بعض الكلمات ومنها اسمها، والسبب في عدم تعلمها هو النزوح، بحسب حديثها مع “الحل نت”.

“نزحنا من ااموصل بعد ما اجتاح داعش المدينة. من ذاك اليوم واحنا بالمخيمات”، تقول سلوى وهي من إحدى الأقليات العراقية، وتعيش مع أمها فقط في مخيم بمدينة دهوك التابعة لإقليم كردستان، شمالي العراق.

كانت سلوى على أعتاب أن تدخل الصف الابتدائي الأول، لكن “داعش” هاجم نينوى قبل انطلاق العام الدراسي في 2014، وقتل والدها و2 من إخوتها، ولم تنج من قبضة التنظيم إلا هي ووالدتها، كما تقول الأخيرة، التي كانت خارج المنزل مع طفلتها حينئذ، وقت الحادثة الأليمة.

تعلّمت سلوى الجزء البسيط من القراءة والكتابة في المخيم، عندما بادر فريق تطوعي لتعليم الأطفال أساسيات القراءة، غير أنه لم يستمر طويلا لانتهاء الدعم المادي الممنوح له، على حد قول الصبية النازحة.

لا ترغب سلوى ببقائها أميّة؛ لأن ذلك سيعني عيشها في مستقبل مظلم، ولا تريد أن تقضي حياتها في المخيمات، وهي تعيش اليوم على أمل العودة لمنطقتها قريبا، بعد أن وُعدت أمها بتوفير منزل لها من قبل الحكومة، تعويضا عن منزلها الذي هدّم في وقت “داعش”.

برنامج لم يكتمل

“بس نرجع أول شي أسوي هو أدرس. أريد أكمل دراسة حتى أعمل وأعيش حياة حلوة، بسيطة، وما أخلي ماما محتاجة لشي”، بتلك الكلمات مع ابتسامة صغيرة تحاذي شفتيها، تعبّر سلوى عما يدور في أعماقها.

تقول فاطمة الأسدي، إن ما ساهم بانتشار الأمية هو عدم الجدية بتنفيذ برامج مكافحة الأمية في العراق؛ لأنها لم تستمر سوى لفترة قصيرة جدا، قبل أن تتبخر، واللوم على ااحكومة التي لم تنتبه لخطورة الوضع.

كان البرلمان العراقي، أقر في عام 2010 قانونا لمحو الأمية، وتمكن 400 ألف أمي من اجتياز المرحلة الأساسية، بعد افتتاح 500 مركز لمحو الأمية في عموم العراق، غير أن ذلك لم يستمر طويلا.

إعادة برامج مكافحة الأمية والقضاء على الفقر، وزيادة التوعية في الأمكنة المحرومة من التعليم، خاصة القرى النائية، ومخيمات النزوح، من شآنها تقنين الأمية في العراق، بحسب رئيسة مؤسسة “تراث بابل” للتنمية والتعليم، فاطمة الأسدي.

ما يجدر ذكره، أن عدم توفير الدعم المالي وقطع رواتب المحاضرين في مراكز محو الأمية، كان السبب في فشل مكافحتها، إذ امتنع معظم المحاضرين عن المتابعة في المراكز المخصصة لمحو الأمية بالمجان.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.