بعد سنوات طويلة من كونها تهديدا حقيقيا لدول حلف “الناتو“، لم تعد القوات الروسية التي كانت تتموقع في قواعد بعيدة بشمال أوروبا أكثر من كونها وجودا هامشيا، ما يفتح ذلك باب التوقعات حول شكل الخارطة العسكرية الأوروبية، والسؤال حول أسباب ذلك الانحسار الروسي؟

بعد أكثر من 7 أشهر على الغزو الروسي لأوكرانيا، لا تزال القوات الروسية تستعين بقواتها العسكرية المتمركزة في شمال أوروبا لتدعيم خطوطها المتداعية بفعل الخسائر الفادحة التي تكبدتها طيلة أيام الحرب، بخاصة في الأيام الأخيرة.

حيث اضطرت موسكو لسحب من أصل 30 ألف جندي روسي كانوا يواجهون دول البلطيق وجنوب فنلندا، تم تحويل ما يصل إلى 80 بالمئة منهم إلى أوكرانيا، ليبقى التواجد العسكري الروسي هناك شكليا، وفق ما تحدث به ثلاثة مسؤولي دفاع أوروبيين كبار في المنطقة لمجلة “فورين بوليسي“.

سحب روسيا لمقاتليها من الحدود الغربية مع دول “الناتو” وزجها في المعارك الدائرة ضد أوكرانيا، يكتسب أهمية بالغة لدى الأوروبيين، وهو ما وصفه مسؤول دفاعي بارز في بلدان الشمال الأوروبي في حديثه لـ “فورين بوليسي” مفضلا عدم الكشف عن هويته، بالقول إن “الانسحاب الذي شهدناه من هذه المنطقة في الأشهر السبعة الماضية مهم للغاية، حيث كان موقف القوات البرية الروسية هذه يواجهنا لعقود من الزمن وقد انتهى الآن بشكل فعال“.

الانسحاب شمل معدات عسكرية متطورة بما في ذلك أنظمة وصواريخ مضادة للطائرات، وهذا يشمل أيضا إزالة بعض أنظمة “إس 300” المضادة للطائرات من دائرة واقية حول سانت بطرسبرغ، التي تمثل إحدى أكبر المدن الروسية القريبة من الحدود الفنلندية، بحسب صور أقمار صناعية حصلت عليها وسائل إعلام فنلندية هذا الشهر.

أيضا حسب تلك الصور الصناعية، يبدو أن روسيا تخلت تماما عن إحدى مناطق قواعد الصواريخ في المنطقة التي يديرها فوج الصواريخ المضاد للطائرات رقم 500، وهذه التغييرات عزاها وزير الدفاع الليتواني أرفيداس أنوسوسكاس لـ “أسباب مزدوجة وبسيطة للغاية“، على حد تعبيره.

إذ يقول في حديث لـ “فورين بوليسي” إن “هذه القوات تم استخدامها لتوليد قوة قتالية كافية للغزو الأولي، في فبراير/شباط الماضي“، مشيرا إلى أنه “بينما كانت القوات الروسية تتكبد خسائر فادحة في مسرح العمليات، كان لا بد من استبدالها واستعادتها خلال القتال“.

اقرأ/ي أيضا: الصناعات الأوروبية تنتقل إلى الولايات المتحدة بسبب روسيا.. ماذا يحصل؟

مكاسب ضئيلة مقابل خسائر كبيرة

لكنه ومع ذلك التراجع العسكري الروسي، بقيت موسكو محافظة على قوتها الجوية في المنطقة، لاسيما وأن الأسطول الشمالي لروسيا (جوهرة التاج لقوتها البحرية) والتي تتمركز في شبه جزيرة كولا، لم يمسها نسبيا التغيير، بحسب المسؤول الأوروبي.

غير أن هذه التغييرات في شكل خارطة التواجد العسكري في شرق القارة الأوروبية، يلقي بظلاله على أهمية المعارك داخل أوكرانيا، وفق محللين سياسيين، بينوا أن ما شهدته المنطقة من تغييرات جديدة بشأن القوات البرية الروسية يؤشر إلى كيفية تأثير الغزو لأوكرانيا وخسائر روسيا الحادة على الخريطة العسكرية في أوروبا خارج حدود أوكرانيا.

وسط هذا المشهد، وفي الوقت الذي يشهد حلف “الناتو” توسعا مع انضمام سلوفاكيا يوم الثلاثاء الماضي إلى الحلف الذي وصل عدده إلى 28 عضوا، ومع انتظار فنلندا والسويد لتصويت دولتي تركيا والمجر للانضمام أيضا، يتساءل المسؤولون الدفاعيون في جميع أنحاء منطقة الشمال والبلطيق: كيف ومتى يمكن لروسيا إعادة تشكيل قواتها العسكرية على طول الجناح الشمالي الشرقي لحلف الناتو؟

أسائلة، يجيب عنها مسؤولو دفاع أمريكيون وأوروبيون حاليون وسابقون تحدثوا إلى “فورين بوليسي“، بالقول إن “روسيا لا تزال تشكل تهديد طويل الأمد للمنطقة، ولا سيما لدول البلطيق الصغيرة، ومن المتوقع أن تعيد موسكو تشكيل قوتها العسكرية في المنطقة العسكرية الغربية الروسية على المدى الطويل، بغض النظر عن كيفية سير الحرب في أوكرانيا الآن“.

على الرغم من أن إلقاء روسيا لكل ما لديها في أوكرانيا، يشير جوناتان فسيفيوف، الأمين العام لوزارة الخارجية الإستونية: إلى أنه “لا يمكن تحليل التهديدات بهذه الطريقة الضيقة للغاية“، مبينا أن “التهديد العسكري المباشر لمنطقة البلطيق منخفض في الوقت الحالي لأنه لا توجد قوات محترفة على الحدود، لكن هذا لا يعني أن روسيا ليست خطرة“.

حديث فسيفيوف عن استمرار التهديدات الروسية، ربما يؤكده إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأسبوع الماضي عن تعبئة عسكرية جزئية لنحو 300 ألف مجند، إضافة إلى إصدار تهديدات مبطنة بشأن استخدام أسلحة بلاده النووية إذا استمر الغرب في إرسال مساعدات عسكرية إلى أوكرانيا، وهذا ما تفق معه العديد من محللي الدفاع في الغرب، إن من المرجح أن يتخذ بوتين مواقفه، لكنهم يتفقون على أن التحذيرات تؤكد أن موسكو لا تزال تشكل تهديدا لدول الناتو، على الرغم من النكسات العسكرية المكلفة في أوكرانيا.

بوتين قال حينها إن “بلاده تمتلك أسلحة دمار متعددة وسنستخدم كل الوسائل المتاحة لنا، وأنا لا أخادع“. مضيفا أنه “إذا حصلوا على شيء ما كانوا يسعون إليه جزئيا على الأقل في أوكرانيا، فإننا نتوقع أوقاتا صعبة للغاية بالنسبة لنا جميعا في أوروبا“.

اقرأ/ي أيضا: أنظمة سياسية ضعيفة في إيران وروسيا لهذا السبب!

تراجع روسي كبير

يوجد عدد كبير من القوات الروسية التي انسحبت من المنطقة الغربية في الجيش الروسي السادس، والذي كان حتى وقت قريب مسؤولا عن القتال في منطقة خاركيف التي يحتلها الكرملين، والتي اجتاحها هجوم أوكراني مضاد في الشهر الماضي، وعادة ما يتم تكليف الجيش السادس بالدفاع عن حدود روسيا مع دول البلطيق وفنلندا.

وهو ما أشار إليه مستشار المخابرات بوزارة الدفاع الفنلندية ورئيس استخبارات الدفاع السابق هاري أورا آهو، في حديث لـ“فورين بوليسي“، بالقول إن “كان إعادة انتشار القوات البرية ضروريا لأن هناك نقصا يائسا في الجنود المدربين، لا علاقة للأمر بتهديد الناتو الذي لم يكن موجودا إلا في خطاب القيادة الروسية“، في حين قال وزير الدفاع الليتواني إن “عددا من الوحدات الروسية من كالينينغراد أوبلاست، المعقل الروسي الصغير بين ليتوانيا وبولندا، قد انتشروا أيضا في أوكرانيا“.

قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، كان لدى روسيا حوالي 12000 جندي بري وجوي في كالينينجراد، بالإضافة إلى 18000 جندي بري وجوي، إلى جانب مئات الدبابات والمركبات العسكرية الثقيلة الأخرى، في غرب روسيا بالقرب من حدود البلطيق وفنلندا، وفق تقييم صادر على مخابرات الخارجية الإستونية.

في حين أنه، وفق تقديرات مسؤولين دفاعيين أوروبيان، أنه “قد يكون هناك ما لا يقل عن 6000 من أصل 30,000 من القوات البرية الروسية المتبقية في كالينينجراد وبالقرب من منطقة البلطيق، وعلى الرغم من أن هذا العدد قد يتغير إذا قامت روسيا بإحضار مجندين جدد إلى الحظيرة لإعادة تعبئة قواتها في أوكرانيا، فمن المرجح أن يكون هؤلاء المجندون غير مدربين بشدة وسوء التجهيز“.

جراء ذلك، يقول الخبير في مركز أبحاث الأمن الأمريكي الجديد، وكبير سابق في وزارة الدفاع الأمريكية جيم تاونسند، إن “اليوم لم يعد التهديد الروسي لدول البلطيق كما كان قبل عام فقط بسبب مدى تدهور القوات الروسية، ولكن إذا كنت بلدا صغيرا على بحر البلطيق، فلا يمكنك أن تتخلى عن حذرك لمجرد أن أداء روسيا ليس جيدا اليوم“.

لكن في مقابل ذلك، تمتنع وزارة الدفاع الأمريكية عن الإفصاح عما إذا كانت قد رأت وحدات روسية تغادر شمال أوروبا، لكن مسؤولي “البنتاغون” يقولون إن “التعبئة المعلنة مؤخرا للمجندين الروس هي علامة أخرى على أن جهود الكرملين الحربية تخفق في مواجهة المقاومة الأوكرانية القوية والفعالة المدعومة من الأسلحة الغربية“.

الدعم الغربي وتأثيره على سير المعارك في أوكرانيا

حيث كتب المتحدث باسم “البنتاغون” روبرت ديتشي، في رسالة بريد إلكتروني لـ “فورين بوليسي“، يقول فيها إن “تعبئة القوات الروسية هي علامة أخرى على أن روسيا تكافح لإنقاذ احتلالها غير الشرعي لأوكرانيا، ونحن يستمر تركيزنا على دعم أوكرانيا بالمساعدة الأمنية وهم يدافعون عن بلادهم“.

ومنذ بدء الدورة الرئاسية للرئيس الأميركي جو بايدن في كانون الثاني/يناير 2021، أرسلت الإدارة الأميركية 15,2 مليار دولار كمساعدة أمنية لأوكرانيا، فيما أعلنت عن حزمة مساعدات عسكرية جديدة بقيمة 1,1 مليار دولار في 28 أيلول/سبتمبر الحالي بشكل منفصل، في حين كشف الكونغرس عن خطة لإرسال 12,3 مليار دولار إضافية من المساعدات العسكرية والاقتصادية إلى أوكرانيا، كجزء من مشروع قانون تمويل حكومي مؤقت من المتوقع إقراره هذا الأسبوع.

بظل استمرار تلك الإمدادات الغربية، لفتت “فورين بوليسي” في تقريرها إلى أن، النقص الحاد في القوات الروسية أجبر الكرملين، على تجميع وحدات غير نمطية للقتال البري في أوكرانيا، وبحسب العديد من مسؤولي الدفاع من دول البلطيق اشترطوا عدم الكشف عن أسمائهم، فإن أسطول البلطيق الروسي أرسل أفراده إلى أوكرانيا كوحدات قتالية برية، لأنهم يفقدون المشاة مع ارتفاع معدلات الخسائر بشكل غير عادي.

مشهد سيضع روسيا أمام خريطة جديدة لأوروبا، إذا ما عادت لتشكيل قواتها على طول حدود دول الشمال الأوروبي ودول البلطيق، حيث من المتوقع أن تنضم كل من فنلندا والسويد إلى تحالف الـ “الناتو” في الأشهر المقبلة.

وهذا ما قال عنه وزير دفاع لاتفيا أرتيس بابريكس، إن “بوجود فنلندا والسويد في الناتو، اكتسبنا عمقا استراتيجيا، ويمكننا تحويل بحر البلطيق إلى (بحيرة الناتو)، ولم يعد احتمال وقوع أي هجوم روسي من البحر من الغرب يشكل خطرا“، مؤكدا بالقول إن “فناؤنا الخلفي أكثر أمانا مع حلفاء فنلندا والسويد“.

وتأكيدا لذلك، أنوسوسكاس رئيس ليتوانيا، قال إن “إضافة فنلندا والسويد إلى حلف الناتو يغير الهندسة الكاملة لمنطقة العمليات لكل من الناتو وروسيا“، معتبرا إنه “صداع كبير لروسيا“، يأتي ذلك في وقت تتزايد حجم الخسائر الروسية إلى مستويات غير كبيرة جدا.

وفق وزارة الدفاع الأوكرانية، وحتى الربع الأول من الشهر الجاري، بلغت خسائر الجيش الروسي نحو 50 ألف شخص، إضافة إلى أعداد كبيرة من الدبابات والمعدات العسكرية والمعدات الخاصة وأنظمة الصواريخ، في الفترة منذ بداية الحرب في 24 فبراير إلى 15 أغسطس، مؤكدة أن قواتها “تستعجل” طرد الروس من كامل الأراضي الأوكرانية.

اقرأ/ي أيضا: أزمة سياسية في لبنان.. فراغ أم حل قريب؟

حجم الخسائر الروسية

كما خسر الجيش الروسي وفقا للوزارة نحو 1000 مدفع، و261 نظام إطلاق صواريخ متعدد، و136 نظام دفاع جوي، و 233 طائرة نفاثة و195 مروحية، فضلا عن 787 طائرة بدون طيار، و187 صاروخ كروز، و15 سفينة حربية وزورقا، وأكثر من 3 آلاف صهريج وقود، و92 معدات خاصة.

ولا يعترف الكرملين بخسائره العسكرية أو ينشر إحصاءات عنها عادة، ووفقا لمسؤولين أميركيين تحدثوا لصحيفة “نيويورك تايمز” الشهر الماضي، فإن الجيش الروسي يخسر نحو 500 عسكري يوميا بين قتيل وجريح.

وقتها، قال كولين كال وكيل وزارة الدفاع الأميركية، في تصريحات صحفية “أعتقد أنه من الآمن الإشارة إلى أن الروس ربما تكبدوا 70 أو 80 ألف خسارة بشرية في أقل من ستة أشهر“، في إشارة إلى الوفيات والإصابات.

وعن تلك الخسائر، قال مسؤولون في إدارة بايدن وخبراء عسكريون للصحيفة، إن “المعدل المرتفع بشكل مذهل للضحايا الروس في أوكرانيا يعني أن الرئيس فلاديمير بوتين قد لا يكون قادرا على تحقيق أحد أهدافه الرئيسية في الحرب: الاستيلاء على المنطقة الشرقية بأكملها من البلاد هذا العام“، مضيفين أنه “مع مقتل هذا العدد من الجنود، وفقا لأحدث تقديرات مسؤولي الاستخبارات والجيش الأميركيين، تباطأ المجهود الحربي الروسي إلى حد كبير“.

التوقعات الأميركية، أعقباها تراجع كبير للقوات الروسية في منطقة خاركيف التي تسيطر عليها، حيث نشرت وزارة الدفاع الروسية خرائط للمنطقة في 11 أيلول/سبتمبر الماضي، أظهرت انسحابا كبيرا للجيش الروسي من هذه المنطقة التي شنت فيه القوات الأوكرانية هجوم مضاد واسع النطاق، مع عدم اعتراف موسكو بحجم الخسائر التي تتحدث عنه كييف.

وبحسب الخرائط التي نشرت، عرضت الوزارة الخرائط في فيديو أظهر أن الجيش الروسي لم يعد يسيطر سوى على جزء صغير من الأراضي الواقعة في شرق منطقة خاركيف خلف نهر أوسكول.

اقرأ/ي أيضا: المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا.. هل تغيّرت المعادلة وما مصير التهديدات النووية؟

تراجع روسي آخر

يأتي ذلك بعدما أظهرت الخرائط المستخدمة من قبل وزارة الدفاع في إحاطتها، أن الجيش الروسي كان يحتل مناطق أكبر بكثير في تلك المنطقة، حيث أعلنت كييف اختراقات مهمة في الأيام الأخيرة في وجه القوات الروسية.

مصائب العزو الروسي لأوكرانيا لا تأتي فرادا على موسكو، إذ أن تبعات الحرب لم تقتصر على احتمالية تغيير خارطة التواجد العسكري في أوروبا ومصادر القوة والنفوذ، بل في الآونة الأخيرة كثرت التوترات في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى واللتان تعدان مناطق تواجد تاريخي لروسيا، حيث يبدو أن نفوذها يضعف جراء الصعوبات العسكرية التي تواجهها في أوكرانيا.

وهذا ما يؤشر إلى تفكك كل محيط روسيا وسط عجز روسي واضح عن السيطرة على المجريات، بحسب مصادر دبلوماسية، وهو ما اتفق معه بن دوبو، الباحث في مركز للدراسات الأميركي، قائلا إن “النفوذ الروسي يضعف في المناطق الحدودية“.

وهذا ما يجعل من رهانات موسكو كبيرة جدا في هذه المناطق المحاذية لجنوب روسيا من جانبي بحر قزوين، بين الصين شرقا وتركيا غربا، وهما لاعبان أساسيان أيضا في المنطقة، يأتي ذلك وسط سماح دول عدة في آسيا الوسطى من جهة أخرى بتظاهرات دعم لأوكرانيا.

وخلال القمة الأخيرة لمنظمة شنغهاي للتعاون في سمرقند في أوزبكستان، وجد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه تحت ضغوط شركائه، ولا سيما الصين والهند، الذين أعربوا عن قلقهم أو شكوكهم بشأن الحرب في أوكرانيا.

اقرأ/ي أيضا: لماذا تتجه أوروبا نحو دول الخليج العربي؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.