“الترحال مستمر، خمسين متر ملك صار حلم”، هذا حال خليل مداح المنحدر من مدينة دوما بريف دمشق، إذ تثير أزمة السكن استياء شعبيا في سوريا، في حين لا تزال المساكن حتى تلك المنخفضة الأسعار، أغلى ثمنا من قدرة كثيرين، ما يمثل تحديا رئيسيا أمام مشاريع الحكومة السكنية التي لم تُبصر النور منذ سنوات.

لا تزال مشكلة الإسكان تشكل سحابة ثقيلة على جداول السكان المنهكين، فحتى مع كل البناء الجديد في سوريا، يصعب إيجاد مكان للعيش فيه. وتتضاءل تطلعات الناس لملكية المنازل، حتى ولو كانت مساحة المسكن 50 مترا مربعا فقط، في مواجهة التكاليف المرتفعة واتجاه الشراء الراكد.

وفي ظل هذه القضية المستمرة، بدأ المواطنون بالاستفسار عن السكن المناطقي، مما دفع بالإشارة إلى قرار رئاسة مجلس الوزراء الصادر في تموز/يوليو 2015، حيث تم تكليف المؤسسة العامة للإسكان بتنفيذ الوحدات السكنية في محافظتي طرطوس والسويداء، على أمل أن تلتزم مجالس المدن والوحدات الإدارية فيها بتأمين الأراضي اللازمة للمشروع، وأن تعمل مع هيئة تخطيط الدولة على اتخاذ جميع الخطوات اللازمة، ولكن على الرغم من مرور سبع سنوات على صدور القرار، إلا أن الوقائع تبيّن أن المشروع لم يكتمل أبدا، فلماذا هذه الحالة وعلى من يقع عليه اللوم.

حق السكن مرتهن!

“حتى الانتقال من محافظة إلى أخرى لا ينفع، جميع مشاريع الإسكان محجوزة”، يشرح مداح الذي فضل الانتقال إلى مدينة طرطوس من البقاء في ريف دمشق بسبب الكثافة السكانية العالية فيها، كيف بات الوضع الحالي، فرغم التوسع العمراني الجديد؛ إلا أن هناك معادلة غير مفهومة.

يقول مداح لـ”الحل نت”، عندما تعلن الحكومة عن مشروع سكني خاص بالمدنيين، فإن الاستكتاب على المشروع ينفد خلال أيام، أما استلام المشروع قد يتراوح بين عشر إلى 15 سنة، أما المشاريع الخاصة فسرعان ما تنجز ولكن أسعارها لا تناسب حتى بعض الأحيان أصحاب الطبقة المخملية.

من جانبها تضيف سمية التركماني، لـ”الحل نت”، أن العثور على سكن في كل المحافظات السورية، بمثابة كابوس، فأقل مواطن حتى الآن منذ عشر سنوات تكيف بالتنقل إلى عشرة منازل بسبب طمع ملّاكها والمكاتب العقارية في تحصيل مزيد من العمولات ومبالغ التأمين، حسب قولها.

التركماني، التي اضطرت إلى البحث عن حل دائم في مدينة الحارة بسبب أزمة السكن وقصر مدة عقود الإيجار، وجدت مرادها بعد تفتيش طويل. لكن صاحب العقار لم يمدد عقد الإيجار للمرة الثالثة، لذا كان عليها أن تغادر في فصل الشتاء مع أطفالها، في حين أنها منذ عام 2007 وقّعت عقدا مع مديرية الإسكان بمحافظة درعا للحصول على شقة، لكن المشروع لم يُباشر فيه حتى اليوم.

أزمة التنقل والانتظار العقيم فضلا عن جنون أسعار العقارات وقلتها في ذات الوقت وضع العديد من العوائل السورية بين مطرقة تجار العقارات ومقصلة مشاريع مؤسسة الإسكان التي لم تنجز دون ضابط أو رادع، وهو ما أكده مدير فرع المؤسّسة العامة للإسكان بطرطوس، المهندس معمر أحمد، الذي كشف في حديثه لـصحيفة ”البعث” المحلية، أمس الخميس، أن ملف الإسكان المناطقي برمته أصبح في المحافظة منذ أكثر من خمس سنوات ولا علاقة للمؤسّسة به.

ضحايا الأحلام

قطاع العقارات في سوريا يشهد اضطرابا منذ نحو سنتين، حيث تتراوح بين الركود، والحركة في البيع والشراء وذلك نتيجة لارتفاع الأسعار غير المسبوق، الذي بات يصل إلى مليار وأكثر في بعض الأحيان، وخاصة في العاصمة دمشق والمحافظات الرئيسية، ودائما المبرر يكون بارتفاع الأسعار عالميا، علما أن ارتفاع الأسعار لم يقتصر على تجار مواد البناء فقط، وإنما انسحب إلى عدد من أصحاب المكاتب العقارية، الذين اتبعوا المثل الشعبي “ما حدا أحسن من حدا”، الذين لعبوا الدور الكبير في عملية البيع والشراء.

عضو المكتب التنفيذي المختص بالمحافظة، إبراهيم محمد، والذي ترك مهامه منذ أيام بموجب النتائج الجديدة لانتخابات المجالس المحلية، أكد أن محافظة طرطوس الوحيدة التي تطبق قانون عام 2015 للسكن، والذي ينصّ على أن أي معاملة إفراز يؤخذ منها 5 بالمئة من مساحة العقار كحدّ أدنى للسكن الشعبي، وبالمقابل تنقل الوحدة الإدارية الملكية إلى ملكها، مشيرا إلى أنه وفي المستقبل يمكن لجميع الوحدات أن تقوم بتشييد مشروع السكن المناطقي كما يمكن أن تعطيه للمنذرين بالهدم أو لعائلات الشهداء.

إلا أن التأخر في البدء بالمشروع الذي كان من المفترض البدء به منذ إقراره، وجّه أصابع الاتهام بحسب المستكتبين للوحدات الإدارية كون المشروع لا يحتاج لأي موافقات، لا سيما أنه على الوحدات الإدارية التي أمّنت مقاسم من الإفراز للسكن الشعبي أن تتوجه وتقوم بتشييد المشروع دون تأخير.

قبل عام 2011، كان امتلاك منزل في سوريا بمثابة حلم لأصحاب الدخل المحدود والمتوسط الذي يمكن تحقيقه بعد سنوات من العمل الشاق. الآن أصبح حلما بعيد المنال، إن لم يكن مستحيلا. ويرجع ذلك إلى الارتفاع الهائل في أسعار العقارات بسبب ارتفاع وندرة مواد البناء، وضعف التنفيذ لمشاريع الإسكان الحكومية.

انتشار المخالفات

ليس هناك شك في أن الأبنية المخالفة كانت منتشرة طوال السنوات السابقة، ولم تتمكن السلطات من وقف جميع المخالفات، كما لم يطلب من السكان المحليين وقف مشاريع البناء غير القانونية، وهذا دليل على أن الأزمة مرتهنة بين القدرة الحقيقية اتخاذ إجراءات واضحة وصريحة ضد المخالفات وتوفير المساكن للمواطنين الذي لا حول هم ولا قوة.

هناك العديد من العوامل التي تساهم في تباطؤ سوق العقارات، ولكن الخبراء يتفقون على أن ارتفاع سعر الصرف، وارتفاع أسعار كل مواد البناء، وانخفاض مؤشر أسعار المستهلك إلى أرقام سلبية، كل هذا أدى لتحول السكان نحو الاستئجار لأنه البديل الوحيد لهؤلاء الذين ما زالوا ليال نهار يسعون لضمان لقمة العيش تحت سقف مستعار، في حين أن شراء الشقق بأسعار باهظة يصبح حكرا على المغتربين الذين يغادرون البلاد.

في هذا الإطار، يؤكد الخبير العقاري عمار يوسف، أن مخالفات البناء اليوم “بالجملة”، وأنها ناتجة عن البناء بمواد غير مناسبة وغياب دراسات البناء اللازمة، لدرجة أن أكثر من 80 بالمئة من المباني مخالفة، فيما تشير التقديرات إلى أن أكثر من 30 بالمئة من المباني التي شيّدت خلال السنوات الثالث الماضية، ينبغي هدمها، فإذا ضرب المنطقة زلزال بلغت قوته 3.5 ريختر سيؤدي إلى كارثة حقيقية.

ولفت الخبير العقاري، إلى أن ما يحصل اليوم هو انخفاض للقدرة الشرائية بالليرة السورية وليس ارتفاع للعقارات، فسعر العقارات بالنسبة لسعر الدولار قبل عام 2011 لا زال كما هو، بالتالي ما يحصل هو انخفاض قيمة العملة المحلية وعدم قدرتها على شراء عقار ببضع الملايين كما كانت سابقا، منوها إلى عدم استطاعة أي أحد على التنبؤ بعودة الحركة إلى سوق العقارات، خاصة وأن الطلب اليوم يقتصر على الإيجارات التي ارتفعت إلى حد غير طبيعي وبشكل استغلالي على عيون البلديات والمعنيين بالأمر.

الملايين مقبرة المنازل

كان سعر المنزل الذي تبلغ مساحته 100 متر مربع، في دمشق يتراوح بين أربعة وخمسة ملايين ليرة سورية، في ذلك الوقت كان الدولار الواحد يساوي حوالي 50 ليرة، بينما كان سعره في المناطق العشوائية المحيطة بالمدينة. بين مليون ونصف ومليوني ليرة، أي ما يعادل حوالي ست سنوات من أجر العامل السوري، حوالي 30 ألف ليرة في الشهر.

في ذلك الوقت، كان يتحتم على ذوي الدخل المحدود إمضاء قرابة 15 إلى 20 عاما، في العيش ضمن حياة التقشف والمعيشة الأساسية من أجل شراء أحد هذه المنازل في المناطق العشوائية حول العاصمة، لكن مع قلة المساحات الآمنة، أدى ذلك إلى ارتفاع الأسعار والتضخم، وخلق تفاوت كبير بين الطلب والدّخل.

حاليا، وبحسب خبراء اقتصاديين، فإن المنزل بمساحة 100 متر مربع، يكلف ما لا يقل عن 80 مليون ليرة، مما يجعل تكلفة المتر المربع الواحد من المبنى 600 ألف ليرة، مع السقف والأعمدة، وما يصل إلى 800 ألف ليرة مع الإكساء الخارجي، وذلك من دون الأخذ في الاعتبار كلفة الأرض التي يحددها السوق العقاري المحلي، والتي قد تصل في منطقة أبو رمانة، مثلا إلى 25 مليون ليرة، للمتر المربع.

التقارير الصحفية المحلية تشير إلى أن الأسعار في العاصمة دمشق، تصل إلى مليوني دولار، أي ما يقارب 3 مليارات ونصف المليار ليرة سوريا، والحديث هنا عن منازل في منطقتي المالكي، وكفرسوسة، في حين تقل بنسبة قليلة في المهاجرين والروضة، والقيمة تنخفض شيئا فشيئا.

وعلى الرغم من توالي الحديث والإعلانات حول تَبني حكومة دمشق بناء منطقة عصرية ضخمة، وتعد بأن تشمل مجمعات كالتي تظهر في المسلسلات والأفلام الأجنبية، لكن بالنسبة إلى مئات آلاف المواطنين من أمثال مداح والتركماني، يبقى امتلاك منزل صعب المنال.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.