“اللي معو فلوس بياكل بجهنم حلاوة”، ليس ما تعنيه الجملة السابقة التي قالتها ربة المنزل نسرين عبد الحق، هو معناها الحرفي، إنما هي وصف دقيق لمن يمتلك قدرة على شراء الحاجيات الأساسية في سوريا الآن، حيث انقسم المجتمع بين الطبقة الفقيرة المعدمة، وفئة “المرتاحين ماديا” كما يصفها العامية، أي من ليس لديهم مشاكل مع التضخم الحاصل في البلاد، سواء بسبب أعمالهم التجارية أو من يمول لهم الأموال من الخارج.

عدد المدخرات والقروض الاستهلاكية في سوريا، إلى جانب رغبة العوائل في الحصول على السلع والخدمات، يشير إلى انخفاض قدرتهم على الشراء.

جاء هذا الانخفاض في أعقاب اتجاه متوقع تزامن مع منذ بداية العام الجاري، عندما كانت الاضطرابات الاجتماعية واسعة الانتشار بسبب رفع الدعم الحكومي عن حوالي نصف مليون عائلة، وعكست التغيرات السياسية التي أعقبت غزو روسيا لأوكرانيا، تسارع انهيار الوضع الاقتصادي.

هذه الأسباب أدت إلى تفاقم التضخم، الذي استنزف إيرادات الأسر ومدخراتها في سوريا، وأصبح في الأشهر الأخيرة قنبلة اجتماعية موقوتة بسبب الفقر المدقع في البلاد.

هستيريا جمع الأموال

“بدك تعيش الشهر، بدك تجيب ملايين، ما معك رح تموت بالجوع”، تشير عبد الحق التي تعيل ولدين في سن التاسعة والعاشرة، إلى أن الموضوع الأساسي للمواطن السوري في الآونة الأخيرة أصبح التجييش نحو مراقبة الأسعار وجمع المال لشراء الاحتياجات الأساسية قبل ارتفاعها.

تقول عبد الحق لـ”الحل نت”، بات بيتها كالثكنة العسكرية، حيث جندت أحد أبناءها لمتابعة الأسعار على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، بينما الآخر كان نصيبه أن يذهب إلى إشارة الصحافة قرب كلية الإعلام بالعاصمة دمشق، إما لبيع عبوات الماء أو لمسح زجاج السيارات، فيما انتدبت نفسها من أجل العمل كمستخدمة تنظف عيادات الأطباء والمحامين.

في ذات الحي الذي تسكنه عبد الحق، يروي المهندس المدني، مأمون الأيوبي، لـ”الحل نت”، لماذا يصفه أهل منطقته بـالمرتاح ماديا”. فالقصة أنه يعتمد على ولديه وابنته الذين هاجروا إلى هولندا منذ خمس سنوات، إذ يقومون شهريا بإرسال 600 يورو، والتي لا تكفي بنظره مصروفه مع زوجته وابنته الصغيرة، لكن ذلك كان كافيا لأن يترك وظيفته ويخرج يوميا لشراء احتياجات منزله.

أما الحالة الثالثة من حياة بعض العوائل السورية، فهي تتجسد بما يعمله مالك طبالة، الذي يخرج يوميا نحو الجمعيات الخيرية أو المنظمات الدولية، سواء في دمشق أو بريفها، حيث يقضي يومه واقفا أمام أبواب هذه المؤسسات من أجل جني إما مبلغا ماليا زهيدا أو الظفر بكرتونة مواد غذائية.

هذا التحول الهستيري لجمع الأموال، سببه ضعف القوة الشرائية للمواطنين السوريين التي شهدت تراجعا مع ارتفاع معدل التضخم في البلاد وانخفاض قيمة العملة المحلية، وعلى الرغم من تحسن الليرة السورية فإن أسعار المواد ما زالت مرتفعة، خصوصا للمواد التي تتعلق بفصل الشتاء كالمازوت والغاز.

أرقام جديدة قبل الشتاء

القدرة الشرائية للمواطنين في سوريا ترتبط بسعر صرف العملة ومعدل التضخم في البلاد، فكلما ارتفع معدل التضخم، قل عدد السلع والخدمات التي يمكن أن تشتريها الوحدة النقدية من العملة، وكلما ارتفع سعر العملة، زادت القدرة الشرائية، والعكس بالعكس.

بالنظر للأسعار التي أوردتها صحيفة “الوطن” المحلية، اليوم الأربعاء، فإن المازوت المتوفر فقط في السوق السوداء وعلى الطرقات العامة وصل سعره إلى 130 ألف ليرة سورية لكل غالون مازوت بسعة 20 ليترا، وهذا بالحد الأدنى يفوق قدرة الموظف الحكومي، إذ يزيد عن راتبه بحوالي الثلث.

أما الغاز، فاستقر سعر كيلوغرام الغاز المنزلي في دمشق وريفها عند 15 ألف ليرة وسطيا فيما بلغ بحده الأعلى عند البعض سعر 20 ألف ليرة وأدى هذا الارتفاع لدى بعض أصحاب الطباخات الصغيرة الحجم لتعبئة طباخاتهم المنزلية بمبالغ مقطوعة وذلك حسب الإمكانية كخمسة آلاف ليرة، أو عشرة آلاف أو بالوزن كيلوغرام أو نصف كيلوغرام، فيما أصبح من النادر عند شريحة واسعة تعبئة الطباخ المنزلي كاملا.

كما وصل سعر أسطوانة الغاز في السوق السوداء إلى 210 آلاف ليرة لأسطوانة الغاز الصناعي و140 ألفا لأسطوانة الغاز المنزلي، وهذا لا يعني عدم وجود أسعار أعلى فالحاجة هي ما تحدد السعر في بعض الأحيان.

ودخلت الأسطوانة المضغوطة على خط السوق السوداء التي يصل وزن الغاز فيها إلى 14 كغ والتي يطلق عليها في بعض الأماكن باسم “اللبنانية” محققة سعر 180 ليرة كحد أدنى للأسطوانة.

وحلقت أسعار الأسطوانات الفارغة في السوق السوداء أيضا ليصل سعر أسطوانة الغاز الصناعي لـ350 ألف ليرة وأسطوانة الغاز المنزلي لسعر 175 ألفاً علماً أن سعرها الحكومي لا يتجاوز 119 ألف ليرة.

السفرة “بهديك الحسبة”

لا تنكر عبد الحق، أن وجبتها الرئيسية مع أولادها ليلا لا تتعدى سوى طبق واحد، فحسب قولها فإن السفرة السورية المعتاد عليها سابقا، حاليا تكلفتها بأدنى حد 170 ألف ليرة سورية.

أسعار بعض أصناف الخضار والفواكه ارتفعت حوالي 100 بالمئة في دمشق، منذ بداية شهر تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، فسعر كيلو البندورة ارتفع من 800 ليرة سورية إلى 1600 ليرة، بينما حافظ كيلو البطاطا على سعره الذي بين 2700 لـ 3000 ليرة سورية، وبلغ سعر كيلو الخيار الأرضي نحو 2900 ليرة سورية بفارق قدره نحو 500 ليرة سورية عن بداية الشهر.

وارتفع سعر كيلو البصل الفرنسي إلى 2600 ليرة سورية، وكيلو الملفوف نحو 800 ليرة سورية، علما أن سعره كان 500 ليرة منذ نحو 10 أيام.

واستقرت معظم أسعار الفواكه على أسعار قياسية، حيث وصل سعر كيلو الموز المستورد إلى 13500 ليرة، وتراوح سعر كيلو التفاح بين 2000 لـ5000 ليرة سورية حسب النوع والصنف، كما استقر سعر البرتقال عند مستوياته التي دخل فيها الأسواق منذ نحو أسبوع، إذ بلغ سعر الكيلو من البرتقال (أبو صرة) 3500 ليرة سورية. 

أيضا، استهلاك منتجات الحليب بالنسبة للسوريين تراجع إلى نسب وصلت إلى 50 بالمئة، منذ بداية العام الجارية فقط، وسط تحذيرات بتهديد ذلك لقطاع إنتاج الحليب ومشتقاته، وعجز الحكومة عن تأمين المواد بسعر أقل أو دعم المنتجين في هذا القطاع، من أجل استمرارهم في العمل.

كيف ننجو؟

فيما لا شك فيه، أن الأسر السورية الضعيفة تحتاج إلى دعم مالي عاجل للنجاة من الأزمة الاقتصادية المنهكة في البلاد، إذ تُظهر النتائج الجديدة الصادرة عن المجلس النرويجي للاجئين اليوم، كيف تكافح العائلات في جميع أنحاء سوريا للتكيف مع انخفاض دخلها سريعا في مواجهة تضخم الأسعار المتصاعد. 

أجبر ذلك الناس على ابتكار استراتيجيات جديدة للبقاء على قيد الحياة مثل تناول كميات أقل، وبيع مساعدات الوقود لشراء الطعام، وحرق الأحذية القديمة للتدفئة، وتخطي الإجراءات الطبية العاجلة.

الخبير الاقتصادي، ماجد الحمصي، يعتقد في حديثه لـ”الحل نت”، أن الإرادة السياسية الدولية يمكن أن توقف معاناة السوريين المستضعفين الذين يواجهون عاما آخر من الصعوبات، مشيرا إلى أنه يجب على المانحين والحكومات الذين ألا ينسوا التزامهم تجاه سوريا.

بحسب برنامج الغذاء العالمي، ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 107 بالمئة خلال عام واحد في سوريا، متأثرة بالأزمة المالية في لبنان، وتفشي جائحة فيروس “كورونا”.

وفقا للحلول التي ذكرها الحمصي، فإن المزيد من الوظائف التي يتم توفيرها وتقديم المساعدة النقدية، إلى جانب المساعدات الغذائية لتعويض ارتفاع أسعار المواد الغذائية، يمكن أن تخلق مجالا اقتصاديا جديدا يساهم في كبح جماح التضخم، وخصوصا في موسم الشتاء الذي ترتفع فيه احتياجات الأسر في سوريا.

وعليه، فإن المبادرات الدولية الحالية لتخفيف الأزمة الاقتصادية في سوريا من خلال تسهيل عمليات المساعدات الإنسانية وتوفير بعض الكهرباء غير كافية للتخفيف من دوامة الانحدار الاقتصادي في سوريا، حيث تكمن جذور الأزمة في كيفية التعاطي مع الأزمة من الناحية المحلية والحكومية والإقليمية، ولذلك يبقى في سوريا من يلهث وراء جمع ليرات من أجل شراء قوت يومه، و”المرتاحين ماديا” الذين يعتمدون على ذويهم في إرسال الأموال لهم، أما الطبقة المخملية فلا ذكر لها بين هؤلاء، كونها تعيش في عالم آخر.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة