أزمة الديون العالمية تتفاقم يوما بعد يوم، خاصة بعد توقّع أكبر مؤسسات التصنيف الائتماني العالمية أن تشهد الفترة المقبلة مزيدا من التخلف عن سداد الديون “إفلاس”، سواء على صعيد ديون الشركات أو الديون السيادية للحكومات. فمنذ العام السابق حتى الآن ارتفع حجم الاقتراض العالمي بنسبة 349 بالمئة، بحساب نسبة الدين العالمي إلى الناتج المحلي الإجمالي، وذلك بنسبة زيادة 25 بالمئة عن مستويات عام 2007 حين كانت نسبة الدّين إلى حجم الاقتصاد العالمي عند 278 بالمئة. هذا فيما يخص إجمالي الاقتراض المرهون بشكل عام، أما الديون السيادية وحدها فوصلت نسبتها إلى الناتج المحلي الإجمالي هذا العام 2022 إلى 87 بالمئة في المتوسط، مقابل نسبة 62 بالمئة عام 2008.

في خضم هذه الأزمة، فإن الأزمات العالمية المتتالية تركت 54 دولة، والتي تضم أكثر من نصف أفقر سكان العالم في حاجة ماسة لتخفيف الديون، حسبما أعلنت الأمم المتحدة مؤخرا.

وفق تقرير لـ “ستاندرد أند بورز”، فإن كانت مشكلة الدّين السيادي عامة تقريبا في العالم، فإن مشكلة ديون الشركات تبدو أكثر خطورة خاصة في الصين. ومعظم المحللين يتفقون على أن بكين في وضع اقتصادي صعب، لكن الوضع من المحتمل أن يصبح أسوأ بكثير بسبب ديون البلاد خارج الميزانية العمومية، والتي تنطوي على مخاطر التخلف عن السداد، أو قد تحتاج تغطية من قِبل الحكومة المركزية.

أما بحسب نماذج التحليل التي اعتمدتها المؤسسة تبدو ديون الشركات في الصين ذات مخاطر أكبر من غيرها، وقد تكون الشرارة التي تشعل أزمة ديون عالمية غير مسبوقة، حسبما نقله موقع “اندبندنت“.

الاقتراض المرهون

تقرير عنوانه “ما مدى عبء الدين العالمي؟”، عزا الزيادة الهائلة إلى التوسع في الاقتراض بهذا الشكل من قبل الحكومات والشركات في فترة معدلات الفائدة شديدة الانخفاض التي استمرت لفترة طويلة، ومع بدء رفع أسعار الفائدة في كثير من دول العالم وتباطؤ النشاط الاقتصادي باتت نسبة الدّين إلى الناتج المحلي الاجمالي والقيمة السوقية للشركات مرتفعة بالشكل الذي يجعل خدمة الدّين، أي دفع الفائدة عليه وأقساطه أصعب كثيرا، وهذا ينذر بزيادة إعادة هيكلة الديون وإمكانيات الإفلاس في العامَين المقبلَين.

النسبة الأكبر للدّين هي في الإجمالي الذي يجمع الديون السيادية “ديون الحكومات” وديون الشركات المالية منها وغير المالية، وديون الأسر وغيرها ويقيسه بالنسبة إلى إجمالي حجم الاقتصاد العالمي كله، وتلك هي التي زادت بنحو الربع عما كانت عليه قبل الأزمة المالية العالمية، أما الديون السيادية وحدها فزادت بنحو الثلث تقريبا. أما الاقتراض المرهون، هو الاستثمار في الدّين على أساس زيادة عائد الاستثمار بما يحقق ربحا، إضافة إلى سداد الدّين.

تقرير لـ “ستاندرد أند بورز” يلخص إلى أن الدّين السيادي الخاضع لتصنيفها أصبح في وضع مترد، وتوقّع زيادة مشكلات الدول المصنفة “سي سي سي” وحتى أغلب الدول المصنفة “بي” وتضاؤل قدرتها على الوفاء بالتزامات خدمة الدّين، وحتى في الاقتصادات المتقدمة. لم يستبعد التقرير أن يعاني بعضها من مشكلة مديونية.

التقرير لفت إلى التخفيض الأخير الذي أعلنته المؤسسة في تصنيف الدّين السيادي لبريطانيا والتحول من نظرة مستقرة إلى سلبية. وبحسب تقديرات “ستاندرد أند بورز”، فإن معدلات خدمة الدّين، بخاصة مدفوعات الفائدة ارتفعت في الآونة الأخيرة إلى نسبة 8 بالمئة مع الزيادة المطّردة في أسعار الفائدة الأساسية من قبل البنوك المركزية.

قد يهمك: خطر الهجوم الصيني على الفلبين.. ما احتمالية تفعيل “الدفاع المشترك” لواشنطن؟

أزمة ديون الصين

منذ بداية عام 2022، انخفضت توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي في الصين إلى حوالي 3.2 بالمئة، إذ خفّضت البنوك الاستثمارية والمنظمات المالية الدولية، بما في ذلك “صندوق النقد الدولي” و”البنك الدولي”، بشكل مطّرد توقعاتها.

نسبة كبيرة من التقارير والتحليلات الاقتصادية تركز على إقراض الصين للحكومات حول العالم بطريقة تزيد من غليان فقاعة ديون سيادية، إلا أن حجم الإقراض الأكبر من جانب الصين، هو للاقتصاد الذي يتقدم عليها عالميا، الاقتصاد الأميركي، من خلال ما تشتريه من سندات الخزانة الأميركية بمئات المليارات، وفقا لـ”اندبندنت”.

بحسب الخبراء، يبدو أن المشكلة ليست في الإقراض الصيني وإنما في اقتراض الشركات المحلية في السنوات الماضية حين كانت نسبة النمو في ثاني أكبر اقتصاد في العالم فوق 10 بالمئة. والآن مع تباطؤ النمو وبدء ارتفاع أسعار الفائدة عالميا توشك مشكلة ديون الشركات الصينية على الانفجار.

ففي فترة السنوات العشر حتى حزيران/يونيو الفائت، ارتفعت نسبة دين الشركات إلى الناتج المحلي الإجمالي عالميا إلى 17 بالمئة، وفي حين كانت الزيادة في ديون الشركات في الدول الصاعدة والنامية بنسبة 25 بالمئة وفي الاقتصادات المتقدمة بنسبة ثمانية بالمئة، وصلت الزيادة في الصين وحدها إلى 20 بالمئة، وهي نسبة كبيرة حقيقة.

حجم ديون الشركات في الصين، الذي بلغ في شهر حزيران/ يونيو من هذا العام يُقدر بـ 27 تريليون دولار، ما يصل إلى نسبة 31 بالمئة من أجمالي ديون الشركات حول العالم كله.

على الرغم من أن العالم كله شهد ارتفاعا كبيرا في ديون الشركات خلال فترة أزمة وباء “كورونا”، إلا أن الدول النامية والصاعدة والمتقدمة بدأت تشهد تراجعا في اقتراض الشركات بعد أزمة “كورونا”، على عكس بكين، التي لم ينخفض فيها دين الشركات كثيرا في العام الماضي 2021 مع الانتعاش الاقتصادي العالمي، بل على العكس زادت ديون الشركات الصينية، وهو ما يُرجع إلى سياسة الحزب الشيوعي الصيني المتمثلة بـ”صفر كوفيد”، هذه السياسة التي بدورها أثّرت سلبا على عموم الاقتصاد العالمي.

قد يهمك: الصين عالقة في فخ من صنعها.. ما أثر ارتفع إجمالي حالات “كوفيد” اليومية عالميا؟

فقدان الثقة في الاقتصاد الصيني

وفق تقرير لموقع “أويل برايس” الأميركي مؤخرا، فإنه لمدة سبعة أشهر متتالية، كان الاستثمار الأجنبي يتدفق إلى خارج البلاد، وفي آب/أغسطس الماضي وحده، غادر سوق السندات الأجنبية 83 مليار دولار بسبب قلق المستثمرين الأجانب من مستقبل الصين الاقتصادي، كما وزادت الودائع المصرفية بمقدار 2.8 تريليون دولار في النصف الأول من عام 2022، كما ارتفعت ودائع الأسر وحدها بمقدار قياسي بلغ 1.42 تريليون دولار.

على إثر ذلك، انخفض الإنفاق الاستهلاكي مع تقلص الاستهلاك الإجمالي بنسبة 1.5 بالمئة على أساس سنوي، مما يجعل الانتعاش الاقتصادي مشكلة حيث يمثل الاستهلاك 40 بالمئة إلى 50 بالمئة من النمو الاقتصادي للبلاد، ويبدو أن بكين ستحاول استخدام الإنفاق على البنية التحتية لإنقاذ الاقتصاد مرة أخرى، ومع ذلك، فقد انخفض الناتج المحلي الإجمالي المعزز بهذه السياسة في السنوات الأخيرة. وفي الماضي، عندما قامت الصين ببناء الطرق والسكك الحديدية التي تربط الأجزاء المهملة من البلاد، فاقت المساهمات الناتجة في الناتج المحلي الإجمالي التكلفة بكثير.

قد يهمك: أميركا وإسرائيل تبحثان مناورات تحاكي هجوماً على إيران.. الفرص والتداعيات

أسباب الركود الاقتصادي

“صندوق النقد”، لفت في تقرير له إلى أن ضعف الاقتصاد العالمي آخذ في الازدياد وسط مخاطر الهبوط. حيث أن هناك ثلاثة عوامل أو أسباب رئيسية تُلقي بثقلها على توقعات النمو العالمي؛ أولها التضخم المرتفع والواسع النطاق بشكل مستمر ما يستلزم تشديد السياسة النقدية في العديد من الاقتصادات الكبرى.

أما السبب الثاني، أنه لا يزال زخم النمو في الصين ضعيفا وسط عمليات الإغلاق المتقطع لـ”كوفيد-19″ وتفاقم أزمة سوق العقارات، وآخر الأسباب تتعلق بالغزو الروسي لأوكرانيا والعقوبات المرتبطة به، إلى جانب تفاقم أزمة الطاقة في أوروبا الذي سيضر بشدة بالنمو ويرفع التضخم.

قد يتطلب التضخم المرتفع لفترات طويلة زيادات أكبر من المتوقع في أسعار الفائدة، وزيادة تشديد الأوضاع المالية العالمية، وزيادة مخاطر أزمة الديون السيادية على الاقتصادات الضعيفة. وبرأي “صندوق النقد الدولي”، ستستمر الأحداث المناخية الشديدة على نحو متزايد، في إلحاق الضرر بالنمو في جميع أنحاء العالم.

قد يهمك: عسكرة الملاحة الدولية.. إستراتيجية إيران لابتزاز الغرب

عبء الديون على الدول

برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، حذر في تقرير سابق، من أن عشرات الدول النامية تواجه أزمة ديون تتفاقم بسرعة، مشيرا إلى مخاطر وخيمة للتقاعس عن العمل، مبيّنة أنه من دون التخفيف الفوري لعبء الديون، فإن 54 دولة على الأقل ستشهد ارتفاعا في مستويات الفقر، مضيفا، أن “الاستثمارات التي توجد حاجة ماسة إليها في إطار التكيف مع تغيّر المناخ والتخفيف من حدته لن تحدث”.

هذا وتواجه البلدان الفقيرة المثقلة بالديون ضغوطا اقتصادية، فيما يجد عدد كبير منها أنه من المستحيل سداد ديونه أو الحصول على تمويل جديد. وقالت “الوكالة التابعة للأمم المتحدة”، إن مشكلات الديون كانت تختمر في العديد من البلدان المتضررة قبل وقت طويل من انتشار جائحة “كوفيد – 19″، وأضافت “كان يتم التقليل من أهمية التراكم السريع للديون باستمرار، على مدى العقد الماضي”، حسب ما نقلته صحيفة “الشرق الأوسط”.

بحسب البيانات المتاحة، فقد راكمت 46 من أصل 54 دولة ديونا عامة بلغت بالإجمال 782 مليار دولار في عام 2020، حسبما أفاد التقرير. وتمثل الأرجنتين وأوكرانيا وفنزويلا وحدها أكثر من ثلث هذا المبلغ. ويتدهور الوضع بسرعة مع استبعاد 19 دولة نامية الآن من سوق الإقراض، أي أكثر بعشر دول مما كانت عليه في بداية العام.

جورج غراي مولينا كبير خبراء الاقتصاد في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أفاد للصحافيين، إن “ثلث الاقتصادات النامية شهدت في هذه الأثناء تصنيف ديونها من قِبل وكالات التصنيف على أنها “مخاطرة كبيرة أو تخمينية للغاية أو تخلف عن السداد”. وأشار إلى أن الدول الأكثر عرضة للخطر هي، سريلانكا وباكستان وتونس وتشاد وزامبيا.

أيضا بيّن مولينا، أن الدائنين من القطاع الخاص كانوا حتى الآن العقبة الأكبر أمام المضي قدما في إعادة الهيكلة المطلوبة. لكنه اعتبر أن ظروف السوق الحالية يمكن أن تمهد الطريق لصفقة ديون، في الوقت الذي يرى فيه الدائنون من القطاع الخاص أن قيمة أرصدتهم تنخفض بنسبة تصل إلى 60 بالمئة. لكن مولينا اعترف بأن عدد الدائنين الراغبين ليس كافياً للتوصل إلى اتفاق لتخفيف عبء الديون، الأمر الذي تشتد الحاجة إليه.

غير أنه وبحسب تقرير لـ”بلومبيرغ“، فإن حدوث أزمة ديون عالمية على غرار ما حدث إبّان فترة الثمانينيات من القرن الماضي لا تزال مستبعدة، حيث إن قلة من البلدان معرضة لخطر التخلف عن السداد اليوم، مقارنة بأربعة عقود مضت. ورغم ذلك يمكن أن تؤدي حالات التخلف عن السداد إلى تفاقم الوضع السيئ في الدول، كما تظهر التجربة الأخيرة في لبنان وسريلانكا. وفي كلا البلدين، كانت فترات الركود عميقة، والتضخم مرتفع للغاية والوضع السياسي غير مستقر، وبالتالي احتمالية حدوث ركود عالمي وارد، وهو ما سيُدخل العالم في مرحلة أشد قسوة مما هو عليه في الوقت الراهن.

قد يهمك: خطة أوروبية لوضع سقف لأسعار الغاز.. ما النتائج؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.