في خضم المحادثات الأخيرة بين واشنطن وبكين، التي جرت في الصين استعدادا لزيارة مرتقبة لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، مطلع العام المقبل، والتي تهدف إلى تخفيف حدّة العلاقات المتوترة بشأن العديد من القضايا الثنائية والإقليمية والدولية، تجري الاستعدادات لانطلاق مناورات بحرية مشتركة بالذخيرة الحية بين روسيا والصين وستستمر أسبوعا في بحر الصين الشرقي، بينما يكثّف الشريكان تعاونهما في منطقة غرب المحيط الهادئ التي تزداد توترا أصلا.

هذه ليست المرة الأولى التي تجري فيها بكين وموسكو مناورات بحرية مشتركة. ففي أواخر أيار/مايو الفائت، شاركت طائرات روسية مع المقاتلات الصينية في تدريبات مشتركة لتسيير دوريات في منطقة آسيا والمحيط الهادي، واستمرت هذه التدريبات حينذاك لمدة 13 ساعة فوق بحر اليابان وبحر الصين الشرقي، كما أن الصين شاركت في مناورات “فوستوك 2022” مع روسيا ودول أخرى بينها الهند وبيلاروسيا وطاجيكستان، في أوائل أيلول/ سبتمبر الماضي، وبالمجمل منذ العام 2012، تجري موسكو وبكين مناورات بحرية منتظمة.

من جهة أخرى، ووسط تزايد مخاطر الحزب “الشيوعي” الصيني في المحيط الهندي والمحيط الهادئ وبحر الصين الجنوبي، والتي باتت تهدد مصالح العديد من جيرانها، يبدو أن روسيا تريد تخفيف الضغط الدولي عليها مستغلة بذلك الظروف المتوترة في المحيطين، وبالتالي دفع حليفتها الصين في مواجهة إثارة التوتر في القارة الآسيوية، عبر إحداث هكذا مناورات.

كما يبدو أن قطبي المعسكر المعارضَين للولايات المتحدة الأميركية وحلفائها؛ الصين وروسيا يسعيان إلى تصوير نفسيهما كشريكين متساويين يسيران وفق خطط متكاملة، ويحاولان أن يصبحا ندّين دوليين للولايات المتحدة الأميركية.

لأجل كل ذلك، تبرز تساؤلات حول دلالات هذه المناورات المشتركة بين بكين وموسكو، وتحديدا في هذا التوقيت وسط اشتداد الحرب في أوكرانيا، وما إذا كانت هذه المناورة يمكن اعتبارها رسائل تحدٍّ ومواجهة ضد الولايات المتحدة والغرب. أيضا، إذا كان هذا التعاون يعني تغييرا في “العقيدة التسليحية” لبكين وموسكو، وسط أهمية المسرح البحري الذي تحوّل إلى مركز ثقل للصراع العالمي. وكيف يؤثر هذا الأمر على العلاقات الأميركية الصينية، حيث أعلن الجانبان مؤخرا أنهما يستعدان لترطيبها.

فتح باب “التسلح” في آسيا؟

وزارة الدفاع الروسية، أفادت يوم الإثنين الفائت، أن المناورات البحرية التي ستجري في الفترة من 21 و27 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، ستشمل إطلاق صواريخ وقذائف مدفعية، وتهدف إلى تعزيز التعاون البحري بين موسكو وبكين، والحفاظ على السلام والاستقرار في منطقة المحيط الهادي.

بحسب الوزارة الروسية، فإن روسيا ستشارك في التدريبات بـ 4 سفن بما في ذلك طرّاد صواريخ “فارياج”، بينما ستشارك 6 سفن صينية إلى جانب طائرات حربية، وطائرات “هليكوبتر” من الجانبين. كما ويشمل الجزء الرئيسي من التدريبات إطلاق صواريخ ومدفعية مشتركة ضد أهداف جوية، وإطلاق نيران مدفعية على أهداف بحرية، وممارسة إجراءات مشتركة ضد الغواصات مع استخدام عملي للأسلحة.

هذا وقد أبحرت السفن الروسية الإثنين الماضي من ميناء فلاديفوستوك في أقصى الشرق للمشاركة في التدريبات. هذا وتجرى تلك المناورات البحرية المشتركة بشكل سنوي منذ عام 2012.

كما أن موسكو سعت إلى توثيق علاقاتها السياسية والأمنية والاقتصادية مع بكين منذ غزوها لأوكرانيا، وتعتبر الزعيم الصيني شي جين بينغ، حليفا رئيسيا في تحالف مناهض للغرب. كذلك، وقّع البلدان شراكة استراتيجية “دون حدود” قبل أيام فقط من شنّ موسكو أكبر غزو لأراض في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية في 24 شباط/فبراير الفائت، لكن بكين عبّرت منذ ذلك الحين عن قلقها إزاء تصرفات روسيا في أوكرانيا.

حول دلالة هذه المناورات، يرى المحلل السياسي، زياد سنكري، خلال حديثه لموقع “الحل نت”، أن الإعلان الروسي الصيني عن إجراء مناورات بحرية يأتي في سياق تعاون عسكري يزداد متانة بعد سلسلة من الخطوات والمناورات البحرية والجوية لتعزيز التعاون العسكري المناوئ للغرب.

قد يهمك: من “صفر كوفيد” إلى بلا خطة.. ماذا عن مستقبل الرئيس الصيني؟

هذه الخطوات من شأنها أن تفتح باب التسلّح على مصراعيه في منطقة آسيا، خصوصا مع إعلان اليابان الحليف الرئيسي للولايات المتحدة عن خطة جديدة للأمن القومي، تتضمن إعادة بناء قوتها العسكرية بمعدات متطورة في سابقة هي الأولى من نوعها منذ الحرب العالمية الثانية في ظل ما تعتبره الخطوات الاستفزازية الصينية بحرا وجوا في المنطقة، كما أن طوكيو لا يمكنها تجاهل صواريخ كوريا الشمالية والتي تعتبر الحليف الأساسي لبكين، على حدّ تعبير سنكري.

كل هذا يأتي في ظل تورط موسكو في مستنقع الحرب في أوكرانيا، ولا تعرف ما الذي ستؤدي إليه، خاصة أن تداعيات هذه الحرب وضعت زعيم “الكرملين” في موقف لا يحسد عليه داخليا وخارجيا. من هنا يأتي هذا التحالف العسكري الجديد بين موسكو وبكين لخدمة مصالح البلدين لمواجهة “حلف الشمال الأطلسي” (الناتو) بجناحيه الأميركي والأوروبي وحلفائهم في المنطقة، وفق تقدير سنكري.

في حين يرى العديد من الخبراء أن هذه المناورات الصينية الروسية مجرد “مناورات اعتيادية”، يراها البعض الآخر أنها تأتي في سياق تغيير في “العقيدة التسليحية” لكل من بكين وموسكو، وسط أهمية المسرح البحري الذي تحوّل إلى مركز ثقل الصراع العالمي.

كما اعتبر المراقبون أن هذه المناورات بمثابة “مواجهة بحرية لكل من الصين وروسيا ضد الولايات المتحدة والغرب”، ذلك لأن واشنطن تتفوق عليهما بحريا، كونها تمتلك أقوى سلاح بحري في العالم، وأنها تأتي في سياق الرد على انطلاقة اليابان الجديدة ومن خلفها تعزيز أسطول البحرية الأميركية في “الباسيفك”، الذي يحمي أكثر من نصف التجارة الدولية.

الصين تستغل روسيا؟

من ناحية أخرى، منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، ظلت الصين تمسك العصا من المنتصف. ولا يزال موقفها محايدا في هذا الصراع، لأن الغزو الروسي كبّدت بكين تكاليف اقتصادية كبيرة يمكن أن تستمر لفترة طويلة في المستقبل.

فمن ناحية، عطّلت هذه الحرب التجارة الصينية التي تقدر قيمتها بمليارات الدولارات، وزادت التوترات في شرق آسيا، وعمّقت الاستقطاب السياسي داخل الصين من خلال تقسيم الناس إلى شقّين بين مؤيد ومعارض لروسيا، وفق تقرير سابق لمجلة “فورين أفيرز” الأميركية.

قد يهمك: محادثات أميركية صينية “معمّقة”.. تقليل من توترات القوى العظمى؟

على الرغم من ذلك، وبالعودة إلى المحلل السياسي زياد سنكري، فإن اليد العليا في هذا التحالف تبقى للصينيين، الذين يعتبرون الرئة الاقتصادية التي يتنفس منها الروس. ففي وقت ترزح فيه البلاد تحت حزمة من العقوبات الاقتصادية تقوم الصين بتخفيف وطأتها، إذ إن الحزب “الشيوعي” الصيني مازال يعتمد على النفط والغاز الروسي الذي يحصل عليه بأسعار مخفضة.

أيضا، بكين أخذت النسبة الأكبر من عقود شراء الغاز من قطر لكنها لم تشترِ نفس الكمية من روسيا وهذا يشير إلى أن بكين تخشى من العقوبات الدولية وتحديدا عقوبات “سويفت” المصرفية ومقاطعة الأسواق الصينية من قِبل واشنطن والدول الأوروبية. بالتالي ستواجه بكين انكماشا اقتصاديا حادا، خاصة وأن اقتصادها غير كفء أساسا وغير مستقر ومنخفض بسبب سياسة “صفر كوفيد”، لذا يبدو أن الحزب “الشيوعي” يحاول استغلال موسكو ضمن هذا المستوى.

تكوين عالم “متعدد الأقطاب”؟

موسكو وبكين، أظهرتا تعاونهما العسكري المتنامي في الأشهر الأخيرة، ففي أيلول/سبتمبر الماضي، أرسلت الصين أكثر من 2000 جندي إلى جانب أكثر من 300 مركبة عسكرية و21 طائرة مقاتلة و3 سفن حربية للمشاركة في مناورة مشتركة شاملة مع روسيا.

حينها، ذكرت وكالة “أسوشيتد برس” الأميركية، أن هذه المناورات هي المرة الأولى التي ترسل فيها الصين قوات من 3 فروع لجيشها للمشاركة في مناورة روسية واحدة، فيما وصف بأنه “استعراض لاتساع وعمق الثقة المتبادلة بين الصين وروسيا”.

بحسب تقدير سنكري، فإن لكلا البلدين أسبابه وأهدافه الخاصة التي قد تتناقض في بعض الأحيان، ولكن المؤكد أن الصين وروسيا تعملان من أجل هدف مشترك، وهو تقسيم المعسكر الغربي وإضعاف “الناتو” وتشكيل “شبه حليف جديد”، ومن هنا تأتي الوتيرة العالية للتعاون العسكري، إذ لا يمضي وقت قصير حتى يعلن البلدان عن إجراء مناورات بحرية وجوية في المنطقة.

هذا التعاون، وفق سنكري، هو زواج مصلحة بين القطبين من أجل مواجهة الولايات المتحدة، ومن هنا جاءت زيارات الرئيسين الروسي والصيني للمنطقة لتعزيز التعاون الاقتصادي والعسكري في رسالة واضحة لواشنطن في محاولتهم كسر الهيمنة الأميركية، وبناء عالم متعدد الأقطاب.

وفق العديد من التقديرات التي جاءت مؤخرا عبر وسائل الإعلام، لا يمكن نظريا بأي حال وصف العلاقة بين روسيا والصين بالتحالف الاستراتيجي، لأن الجانبين لديهما مصالح محددة لا تتداخل دائما، وليست فيها تلك التنازلات التي تستوجبها طبيعة التحالفات الدولية الأخرى، فقد حوّل البلدان علاقتهما من الخصومة خلال النصف الثاني من الحرب الباردة إلى شراكة براغماتية ذات هدف مشترك، يتمثل في مراجعة أسس النظام الدولي الذي يهيمن عليه الغرب.

البعض يرى أن العالم دخل فعليا في “حرب باردة” وهذه المرة بين الولايات المتحدة وحلفائها وبين القطبين الصيني والروسي. كل هذا سيؤثر على العلاقات الأميركية الصينية وإن كانت الدولتان تؤكدان في العلن الحرص على تحسين العلاقات ولكن واقع الأمر يؤكد أن الدولتين متجهتين إلى “المواجهة الغير المباشرة”، طبقا لتقدير سنكري.

المحلل السياسي، استدرك ذلك بالقول “الإدارة الأميركية أعلنتها صراحة أن الخطر الاستراتيجي المستقبلي هو الخطر الصيني، ومن هنا يأتي جهد البيت الأبيض لتثبيت حلفها وإعادة صياغة استراتيجية اقتصادية وعسكرية تلعب فيه أستراليا واليابان دورا أساسيا في هذا الحلف”.

تجنبا لمواجهة عسكرية

من خلال المحادثات الأميركية الصينية الأخيرة في بكين حول مناقشة سبل مواصلة التعاون وتحسين العلاقات بين الطرفي، يبدو أن الجانب الأميركي واضح تجاه الصين، لأنها لا تريد حربا ومواجهة ضد بكين، لما لها من عواقب وخيمة على العالم بأسره، وتريد التعاون مع بكين كما حصل سابقا مع الاتحاد السوفيتي مثل اتفاقيات الحد من انتشار الأسلحة النووية، وبالتالي فإن هذه الاجتماعات تتمخض أحيانا عن نوع من المساعدة لمنع الإضرار بالسلم الدولي.

كما أن الهدف الأساسي لزيارة وفد رفيع المستوى من الجانب الأميركي لبكين، يدلل مدى وضوح واشنطن في محادثاتها مع الجانب الصيني بشأن تجنب الصراع والصِّدام معها، وهذا ما أكده المسؤولون الأميركيون للصحافة عندما قالوا، إن “المحادثات مع الصين واضحة وجوهرية “، والصين من مصلحتها تحويل العلاقات بين البلدين إلى استقرار، خاصة وأن واشنطن من الدول العظمى، ولها بعض التأثير على العديد من الدول التي من شأنها أن تؤثر على مصالح الصين، وفق مراقبين.

أما سنكري، فيرى هذا الخلاف والعداء الواضح بين بكين وواشنطن يبقى حتى الساعة تحت السيطرة نوعا ما، في ظل حرص الدولتين على إبقاء قنوات الحوار قائمة، ولكن يبقى الخوف من خطوة أو حتى أي خطأ عسكري والذي يمكن أن “يشعل مواجهة لا يعرف أي أحد نتائجها”.

عليه، يبقى التعاون بين الصين وروسيا وإن كان محدودا، لصالح الحزب “الشيوعي” الصيني، خاصة مع قوته الاقتصادية والعسكرية، بينما يعاني النظام الروسي من كسر هيبته العسكرية في أوكرانيا، والذي ليس لديه استراتيجية واضحة للخروج من هذا المستنقع. أما الجانب الغربي فلديه القوة والقدرة على مواجهة أي تهديد أو خطر قد ينبثق من روسيا والصين، وستبقى نتائج المواجهة وإن كانت غير مباشرة سلبية على موسكو وبكين قبل أي دولة أخرى، رغم استبعاد هذا السيناريو.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.