في خضم التعثر السياسي في تونس، خاصة بعد الانتخابات البرلمانية التونسية الأخيرة التي شهدت إقبالا ضعيفا من الناخبين، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة التي أثّرت بشكل كبير على مفاصل الحياة اليومية في البلاد، ثمة توقعات من الاقتصاديين أن تشهد الأزمة الاقتصادية التونسية حلحلة تدريجية، خلال العام الجاري 2023، وفق عدة شروط وأطر محددة مطلوبة من الحكومة والجهات المعنية، فيما أشارت بعض التقارير الصحفية الغربية إلى أن البلاد على حافة الانهيار والإفلاس.

من هنا تبرز عدة تساؤلات حول مدى فرص إنعاش الاقتصاد التونسي في العام الجاري، وكيفية حل هذه الأزمة الاقتصادية، من العوامل والمحددات إلى الخطط الاستراتيجية الملائمة، بالإضافة إلى التساؤل الأهم وهو، إذا لم يكن هناك انفراجة للاقتصاد التونسي وكانت البلاد على وشك الإفلاس، فما تبعات ذلك على التونسيين وعلى المنطقة ككل، أي هل يدفع هذا الانهيار الاقتصادي بالعديد من الناس للهجرة إلى أوروبا.

“انفراجة مشروطة”

مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، نشرت تقريرا تضمن أهم التوقعات والأحداث المرتقبة في القارة الإفريقية في العام الحالي، وأشار التقرير إلى الوضع السياسي المتأزم في تونس “التي تحوّل نظام الحكم فيها إلى الديكتاتورية، في ظل حكم الرئيس قيس سعيّد”، وقالت المجلة إن تونس على وشك الإفلاس، وهو ما يدفع بالعديد من الناس للهجرة إلى أوروبا.

كما أشار التقرير إلى أن الوضع الاقتصادي مرشّح للتفاقم في 2023، وقد أرجأ “صندوق النقد الدولي” اجتماعا لمجلس إدارته للنظر في منح قروض لتونس، كان من المقرر عقده في 19 كانون الأول/ديسمبر الفائت؛ لأن ميزانية البلاد والإصلاحات الاقتصادية لعام 2023 لم تجهز بعد.

خبراء اقتصاديون يتوقعون أن “حالة الاستقرار السياسي التي من المفترض أن تشهدها البلاد بعد انتخابات مجلس النواب في آذار/مارس المقبل، أن تعزز فرص تحسين الاقتصاد، وتنعكس بشكل إيجابي على جهود الحكومة لحل الأزمة وكذلك ستساهم في دعم المفاوضات مع صندوق النقد، فضلا عن مدى قدرة الحكومة التونسية على تنفيذ إجراءات اقتصادية وإصلاحات اقتصادية طارئة، بجانب ضبط الأسواق وخفض الأسعار، وإعادة هيكلة المؤسسات والتنمية بالتوازِي مع إجراءات مكافحة الفساد وإصلاح المناخ السياسي”.

غير أن الكاتبة والخبيرة الاقتصادية التونسية، جنات بن عبد الله، لا ترى أي معطيات أو مؤشرات تدل على وجود انفراجة في الأزمة الاقتصادية التونسية، حيث بدأت الحكومة العام الجاري بقانون مالي يعكس صعوبة تعبئة الموارد المالية لهذه السنة، سواء داخلية كانت أم خارجية، وهو ما يصعب بوجود بوادر انفراج أو حلحلة.

قد يهمك: مبادرة “إنقاذ تونس من الانهيار“.. مأزق سياسي مرتقب؟

بحسب حديث بن عبد الله، مع موقع “الحل نت”، فقد قُدرت احتياجات تونس للاقتراض الخارجي بنحو 15 مليار دينار تونسي و3.9 مليار دينار للاقتراض الداخلي. وهذا الوضع، وفق تقديرها جعل من الحكومة تركز على الموارد الجبائية، لا سيما الموارد غير المباشرة، من خلال زيادة قيمة الأداة على القيمة المضافة، وإحداث معاليم جديدة، والترفيع في العديد من المعاليم، مثل معاليم التسجيل والطابع الجبائي.

رفع الدعم الحكومي

في المقابل، في العام الجاري وتحديدا في الربع الثاني، ستشهد تونس مرحلة حاسمة وفاصلة في ملف دعم المواد الأساسية والمحروقات بالشروع بصفة رسمية في الرفع التدريجي عن دعم مواد الحليب والسكر والزيت النباتي وزيادة أسعارها، الأمر الذي يزيد معاناة التونسيين، بينما تعتزم الحكومة مواصلة التخفيف من عبء الدعم في 2024 بتحريك أسعار الخبز، أحد أهم المكونات الغذائية للمواطنين، إضافة إلى مشتقات الحبوب والمعجنات إلى حين بلوغ حقيقة الأسعار العالمية في 2026.

وزيرة التجارة وتنمية الصادرات، فضيلة الرابحي، كشفت عن ملامح أو الخطوط الكبرى لمسار إصلاح منظومة الدعم الذي سيتم الشروع في تطبيقه بداية من الربع الثاني من 2023.

الرابحي قالت في تصريحات لـ “اندبندنت عربية“، مؤخرا، “مع بداية الربع الثاني من 2023 سيتم رفع الدعم عن بعض المواد الغذائية الأساسية على غرار السكر والزيت النباتي المدعّم”، مضيفة أنه “سيتواصل في 2024 الرفع التدريجي عن الدعم الموجه للخبز ومشتقات الحبوب”.

الرابحي أوضحت أن “البرنامج محدد ومضبوط في قانون المالية بتوجيه الدعم لمستحقيه”، مؤكدة “ليست هناك نية لرفع الدعم بصفة نهائية على اعتبار أن الدعم في تونس مكسب اجتماعي ومن ثوابت البلاد”.

هذا التوجه قوبل برفض واسع من قبل جميع فئات المجتمع التونسي، سواء من المواطنين أو القطاعات المهنية والمنتجة، وهذا الرفض تحول بالنسبة للبعض، مثل المحامين، إلى الدعوة للإضراب تحت شعار “العصيان الجبائي”، طبقا لحديث بن عبدالله.

قد يهمك: 2023.. تحديات اقتصادية تواجه الجزائر للانضمام إلى “بريكس”

بن عبدالله، تقول من جانبها، أن خطط وقانون حكومة تونس لسنة 2023، يعتمد بشكل أساسي على قرض “النقد الدولي”، وهو سيناريو أصبح حظوظ تحقيقه ضعيفة، في ظل عدم الاستقرار الاجتماعي والضبابية التي يتسم بها المشهد السياسي.

انتفاضة شعبية؟

في ظل المؤشرات الحالية، مثل تفاقم نسبة التضخم والفقر والبطالة، ونسبة النمو مقدرة لهذه السنة في حدود 1.8 بالمئة، وتراجع الاحتياطي من العملة الصعبة بسبب تراجع الصادرات وتفاقم عجز الميزان التجاري، وتراجع قيمة الدينار أمام النقد الأجنبي، لا يمكن الحديث عن فرص للإنعاش الاقتصادي، لا سيما وأن برنامج الإصلاحات التي توجهت به الحكومة إلى “النقد الدولي” هو برنامج للتقشف للصندوق، أي برنامج يقوم عن تخلي الدولة عن دورها الاقتصادي والاجتماعي والتنموي، وهذا التخلي يُترجم من خلال رفع الدعم عن المواد الأساسية والمحروقات ويترجم أيضا من خلال التفويت في المؤسسات العمومية للشركات الأجنبية، من خلال عقود وشراكات عدة، وهي عمليات ستساهم في ارتفاع قيمة الخدمات العمومية، على حد تقدير بن عبدالله.

بن عبدالله أضافت أن “محافظ البنك المركزي التونسي، خرج على المواطنين، وشكك في حصول تونس على قرض النقد الدولي، وقال إن تونس ستواجه سنة صعبة، مما يعني أن هناك المزيد من المعاناة للتونسيين، وهذا الأمر بات مرفوضا من قبلهم، الذي راكم المعاناة دون نتائج ملموسة، فبات الشعب التونسي يتفاجأ بفقدان مواد أساسية حياتية، مثل الحليب والزيوت والأدوية، فضلا عن تراجع جدوى خدمات المرفق العمومي، مثل خدمات النقل والتربوية والصحية، وبالتالي تونس اليوم على شفى انتفاضة شعبية تحاول الحكومة احتواءها من خلال إجراء لقاءات صورية مع الأطراف الاجتماعية”.

مؤخرا، قال الأمين العام للاتحاد التونسي العام للشغل نور الدين الطبوبي، إن الاتحاد، الذي يتمتع بنفوذ في البلاد، سينظم احتجاجات حاشدة وسيحتل الشوارع قريبا لإظهار الرفض لميزانية التقشف للعام المقبل، في أقوى تحد لحكومة الرئيس قيس سعيّد حتى الآن.

الاتحاد الذي يضم في عضويته أكثر من مليون عضو، أثبت أنه قادر على شل العجلة الاقتصادية بالإضرابات. وساند في بعض الأحيان سعيّد بعد أن استحوذ على معظم السلطات والصلاحيات العام الماضي، لكنه أبدى أيضا المعارضة لتحركاته في حالات أخرى.

من المتوقع أن تخفّض موازنة 2023 العجز المالي إلى 5.2 بالمئة العام الحالي من توقعات بلغت 7.7 بالمئة من العام الماضي، بدفعة من إصلاحات لا تحظى بشعبية لكنها يمكن أن تمهّد الطريق للتوصل إلى اتفاق نهائي مع “صندوق النقد الدولي” بشأن حزمة إنقاذ مالي.

هذا وسترفع تونس الضرائب على شاغلي عدد من الوظائف مثل المحامين والمهندسين والمحاسبين من 13 إلى 19 بالمئة. وقال الطبوبي “هذه حكومة ضرائب، الحكومة تتحايل على شعبها، وقانون المالية يزيد معاناة التونسيين”، وفق تقارير صحفية.

يُشار إلى أنه وخلال العام 2023، قال عنها وزير الاقتصاد سمير سعيد، إنها ستكون سنة صعبة جدا، ستخفّض الحكومة أيضا الإنفاق على الدعم بنسبة 26.4 بالمئة وذلك بالأساس في مجالي الطاقة والغذاء.

اقتصاد مأزوم

مؤشرات الاقتصاد التونسي أنبأت منذ بداية العام الماضي أنه مقبل على أزمة، تستوجب حلولا طارئة، فنسبة التضخم كبيرة حيث وصلت إلى 9.8 بالمئة، خلال تشرين الثاني/نوفمبر الماضي وهي أعلى نسبة تسجلها تونس منذ تسعينات القرن الماضي.

قد يهمك: الأزمة السياسية التونسية.. دفع نحو زيادة هجرة المواطنين؟

من جانب آخر، توقّع “صندوق النقد الدولي” في بياناته “تباطؤ النمو في تونس على المدى القريب، بينما سيؤدي ارتفاع أسعار السلع الأساسية الدولية، إلى الضغط على التضخم وكذلك على الميزان الخارجي والمالي لتونس”.

بن عبدالله، ترى في هذا الجانب، أن انهيار الدينار التونسي هو من العوامل التي ستعمق أزمة المديونية، فالدينار التونسي تراجع بحوالي 9.6 بالمئة مقابل الدولار الأميركي، وبنسبة 1.8 بالمئة مقابل اليورو الأوروبي خلال سنة 2022، وبالتالي تداعيات خطيرة على حجم الدين العام وعلى حجم خدمة الدين لسنة 2022، حيث أن تونس مطالبة بتسديد 21 مليار دينار، وسط عجز تجاري سيصل إلى 38 مليار دينار خلال العام الحالي 2023 واحتياطي من العملة الصعبة لا يتجاوز 22 مليار دينار خلال العام الحالي.

بالإضافة إلى ذلك، فإن استمرار الوضع الاقتصادي المأزوم في البلاد، وسياسات التقشف التي تنتهجها الحكومة، سيكون لها تداعيات سلبية أخرى على المستويين المحلي والدولي، مثل لجوء الناس إلى الهجرة إلى أوروبا، الأمر الذي سيُلحق الضرر بدول الاتحاد الأوروبي، وسط سياساته الجديدة في تقييد حالات الهجرة.

محافظ “البنك المركزي التونسي” مروان عباسي، قال يوم أمس الأربعاء، إنه من المتوقع أن يبلغ معدل التضخم 11 بالمئة في المتوسط في 2023 ارتفاعا من 8.3 بالمئة في 2022، مضيفا، أن الوضع سيكون صعبا ما لم تتوصل تونس لاتفاق مع “صندوق النقد الدولي”، بحسب وكالة “رويترز”.

هذا وتحتاج تونس قروضا خارجية بمقدار 12.6 مليار دينار “4.05 مليارات دولار” لتعبئة عجز ميزانية 2022، مقارنة بـ 12.1 مليار دينار ” مليارات دولار” في قانون المالية التكميلي لعام 2021. ووفق قانون الموازنة لعام 2023، تخطط الحكومة لتعبئة موارد خارجية بقيمة 14.8 مليار دينار “4.7 مليارات دولار”، مقابل قروض داخلية بقيمة 9.5 مليارات دينار “3 مليارات دولار”.

الاقتصاد التونسي طيلة العام 2022، شهد العديد من المحطات، في وقت يواجه فيه أزمة هي الأسوأ منذ استقلال البلاد في خمسينيات القرن الماضي. هذه الأزمة زاد من وتيرتها عدم الاستقرار السياسي منذ ثورة 2011، التي أطاحت بالرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وتداعيات جائحة “كورونا”، فضلا عن تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا.

عليه، فإذا تم تحقيق الاستقرار السياسي بالبلاد، وإتمام المباحثات مع “صندوق النقد الدولي”، ونجاح الإجراءات الحكومية في تحفيز وتعافي الاقتصاد ومكافحة الفساد، فضلا عن التراجع عن سياسات رفع الدعم أو تمريرها من دون حصول ارتدادات اجتماعية قوية، ربما ينقذ كلّ ذلك الاقتصاد التونسي من “الإفلاس”، أما في حال فشلها في ذلك، فإن الأمر سيزداد سوءا وبالتالي إدخال البلاد إلى دوامة أكبر وأكثر تعقيدا ومرارة مما سيزيد من احتمالية خروج التونسيين إلى الشوارع للاحتجاج والاعتراض على هذه السياسات والخطط، وبالتالي تهديد للاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وانهيار المالية العامة وعدم قدرة الدولة على الإنفاق داخليا وسداد ديونها الخارجية، وهو ما سيدخل البلاد في مرحلة أكثر تعقيدا ومرارة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.