في خضم المتغيرات الإقليمية والدولية، لا سيما تلك التي أعقبت الغزو الروسي لأوكرانيا، تعاني العديد من دول الاتحاد الأوروبي، وخاصة ألمانيا الدولة ذات الاقتصاد الأكبر في أوروبا وأحد أهم الدول الصناعية في العالم، من أزمة طاقة بعد توقف إمدادات الغاز من روسيا.

اليوم تواجه ألمانيا تحديا عميقا يتمثل في محاولة تنويع إمداداتها من الطاقة عقب اندلاع حرب مزعزعة للاستقرار في أوكرانيا. وفي سياق واقع جيوسياسي عالمي جديد، تسعى فيه أوروبا للاستغناء نهائيا عن الغاز الروسي. إذ دخلت برلين، خلال العام الماضي في شراكات جديدة في مجال الطاقة مع عدة دول خليجية، وهي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، وذلك بعد زيارات متبادلة بين هذه الدول، وخصوصا زيارة المستشار الألماني أولاف شولتز، لعواصم هذه الدول الثلاث خلال العام الفائت 2022.

بعض التحليلات أشارت إلى أنه بالرغم من حاجة ألمانيا إلى الطاقة، فإنه لا ينبغي النظر فقط إلى دول الخليج على أنها مزوِّد للطاقة؛ في عالم متعدد الأقطاب بشكل متزايد، بل أنها تبرز كقوى سياسية عالمية ذات صلة في حد ذاتها. لذلك، فهي ذات أهمية سياسية وأمنية متزايدة لألمانيا.

إن العلاقات بين برلين وبعض دول الخليج مثل قطر تحديدا على صفيح ساخن، بعد حملة التنديد الغربية والألمانية خصوصا، بسياسة التمييز التي تنتهجها قطر ضد الأقليات الجنسية، ما يضع برلين أمام معضلة بين الدفاع عن قيم حقوق الإنسان من جهة ومصالحها الاقتصادية من جهة أخرى.

بالتالي لا بد من طرح بعض التساؤلات، فيما إذا كان على برلين التفكير في نهج استراتيجي أكثر شمولا تجاه دول الخليج يشمل قضايا استراتيجية تتجاوز إمدادات الطاقة، وكيف تسعى لتحقيق هذا الضبط، وما الذي يميز العلاقات الألمانية الخليجية، وتأثير هذه العلاقات على العلاقات الأوروبية الخليجية، بجانب التساؤل فيما إذا سيكون هناك استراتيجية ألمانية خليجية تتجاوز الجانب الأمني والعسكري إلى ما هو سياسي، بمعنى بلورة اصطفافات سياسية خليجية أوروبية.

“سوق لا غنى عنه”

تحليل نُشر بموقع “معهد الشرق الأوسط” (إم إي آي)، يشير إلى دخول الحكومة الألمانية في شراكات جديدة بمجال الطاقة مع السعودية والإمارات وقطر، وأنه على برلين التفكير في نهج استراتيجي أكثر شمولا تجاه الدول الخليجية، يركز على قضايا استراتيجية تتجاوز إمدادات الطاقة، مثل الجهود المشتركة في التكامل الإقليمي والتنمية.

في أيلول/سبتمبر 2022، اتفقت ألمانيا وقطر على الدخول في شراكة طاقة أكثر شمولا، تشمل المشتريات الألمانية من “الغاز الطبيعي المسال” (إل إن جي) من شركة قطر للطاقة المملوكة للدولة، عبر شركة “كونوكو فيليبس” الأميركية، لمدة 15 عاما، بدءا من عام 2026.

هذا التعاون شكّل نقطة تحول في علاقات ألمانيا مع دول الخليج، فحتى هذا الوقت كان الارتباط الاقتصادي الألماني بمنطقة الخليج مدفوعا بالصادرات غير المتعلقة بالطاقة بالأساس، وذلك في قطاعات السيارات أو التصنيع أو البنية التحتية أو الخدمات.

في عام 2021، بلغ إجمالي قيمة الواردات والصادرات بين ألمانيا ودول “مجلس التعاون الخليجي”، 18.9 مليار يورو، حيث ساهمت الصادرات الألمانية بـ 13 مليار يورو في الميزان التجاري.

دولة الإمارات العربية المتحدة، تُعدّ الشريك التجاري الرئيسي لألمانيا في دول “مجلس التعاون الخليجي” بحجم تجارة مقدارها 8 مليار يورو، تليها المملكة العربية السعودية بـ 6.6 مليار يورو.

قد يهمك: التعاون الاقتصادي والتنمية المشتركة.. طريق آمن لمستقبل الخليج العربي؟

إلا أن قطر تتجه للاستثمار بشكل كبير في الشركات والبنوك الألمانية، مثل “دويتشه بنك” بحصّة 8 بالمئة، و”هاباج لويد” بحصّة 13 بالمئة، أو “فولكس فاجن”، بقيمة 17 بالمئة، وترعى “الخطوط الجوية القطرية” نادي كرة القدم الأكبر في ألمانيا، “بايرن ميونيخ”.

في هذا الإطار، يرى الكاتب والباحث السياسي زاهي علاوي، المقيم في برلين، أن العلاقات الألمانية مع دول الخليج مرت بمراحل مختلفة. وهناك مصالح اقتصادية لا تستطيع ألمانيا الاستغناء عنها، سواء كانت هذه المصالح متمحورة حول تبادل مصادر طاقة أو مصالح اقتصادية أخرى مع دول المنطقة. والخليج تُعتبر دول استثمارية بشكل كبير، وسوقا لا غنى عنه بالنسبة لألمانيا.

الاستراتيجيات تتغير وفق المصالح

من ناحية أخرى، وفق حديث علاوي لموقع “الحل نت”، تتخذ ألمانيا دائما قضية حقوق الإنسان ذريعة لانتقاد سياسات هذه الدول، رغم أنها تعلم أن لهذه القضايا خصوصياتها في دول الخليج. وصحيح أن هناك ضغط في الشارع الألماني وانتقاد واسع في وسائل الإعلام، ولكن عندما تتحدث لغة المصالح تختفي كل هذه المعايير، وتبدأ برلين في التفكير فقط في مصالحها الاقتصادية والمصالح التي يمكن أن تستفيد منها لدعم الاقتصاد المحلي.

قضية الطاقة بالنسبة لألمانيا مهمة جدا، وقد اكتشفوا أن الاعتماد على دول الخليج في هذه المرحلة من أجل توفير بدائل للغاز الروسي أمر لا بدّ منه، ولذلك بدأوا في الهرولة إلى هذه الدول متجاهلين كل ما سبق من انتقادات، وترك الأمر لوسائل الإعلام والمجتمع المحلي، بخلاف ما يُقال في أروقة السياسة ولغة المصالح التي تنتهجها ألمانيا مع دول الخليج اليوم.

الشراكات في قطاع الطاقة ظلّت محدودة بين دول الخليج وألمانيا حتى 24  شباط/فبراير 2022، حيث أدى غزو روسيا لأوكرانيا إلى خلق حوافز جديدة وعاجلة لمثل هذا التعاون.

كجزء من هذا المسعى، اتجهت ألمانيا إلى الخليج، في شهر آذار/مارس العام الماضي، حيث سافر وزير الاقتصاد والعمل المناخي الألماني روبرت هابيك، إلى الإمارات ومن ثم قطر من أجل تعزيز التعاون الثنائي في مجال الطاقة. وأعقب ذلك، في أيار/مايو الماضي، زيارة أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني إلى برلين وكذلك زيارة وزير الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة الإماراتي آنذاك، سلطان أحمد الجابر، لمناقشة تعزيز التعاون في مجال الهيدروجين.

كذلك، في أيلول/سبتمبر الماضي، ركزت رحلة شولتز الأولى إلى الرياض وأبو ظبي والدوحة أيضا على أمن الطاقة والتعاون الاقتصادي.

قبل الحرب، تلقت ألمانيا 55 بالمئة، من إمدادات الغاز من روسيا، وبدوره أدى الاعتماد المفرط على مصادر الطاقة الروسية، إلى اعتماد سياسي إشكالي على العلاقات المتوافقة مع “الكرملين”. لذا، عند الغزو الروسي لأوكرانيا، قال شولتز إنه “نقطة فاصلة في تاريخ أوروبا”، حيث استلزم هذا الخطاب أن تبذل الحكومة الألمانية أخيرا جهودا مكثفة لتنويع شراكات الطاقة في البلاد.

العلاقات الأوروبية الخليجية

ألمانيا، باعتبارها أكبر اقتصاد في أوروبا وأحد أكبر الاقتصادات في العالم، لها تأثير كبير فيما يتعلق بالعلاقات الأوروبية الخليجية، ولكن في أوروبا هناك المصالح الخاصة لكل دولة على حدى، وتربط هذه الدول ببعضها البعض. على سبيل المثال، هناك علاقات تجارية بين إيطاليا ودول الخليج فيما يتعلق بالطاقة أفضل بكثير من العلاقات الألمانية الخليجية، بحسب حديث الباحث السياسي. ومع ذلك، تحاول برلين أن تكون لها استراتيجية موحّدة داخل دول الاتحاد الأوروبي للتعامل مع السياسة الخارجية عن السياسة الداخلية، وإن كانت تختلف السياسة الخارجية لدول الاتحاد الأوروبي من دولة إلى أخرى وفقا لمصالحها.

قد يهمك: أسعار الغاز في أوروبا إلى مستويات ما قبل الغزو.. بوتين خسر حرب الشتاء؟

لذلك، وبحسب اعتقاد علاوي، فإن تأثير ألمانيا على أوروبا في هذا المجال في تقييم أو حتى تقليص العلاقة بين أوروبا ودول الخليج قد يكون محدودا، لكن العلاقة المباشرة بين ألمانيا ودول الخليج يمكن أن تنعكس إيجابا، خاصة فيما يتعلق بالتبادل التجاري وتبادل الطاقة على القارة العجوز.

الاستراتيجيات الأمنية والعسكرية

في عام 2022، بلغت قيمة إجمالي صادرات ألمانيا من الأسلحة العالمية 8.4 مليار يورو، منها 50.2 مليون يورو من مبيعات الأسلحة ذهب إلى قطر و 16.7 مليون يورو إلى السعودية، على الرغم من حقيقة أن ألمانيا حظرت صادرات الأسلحة إلى الدول المشاركة في حرب اليمن، مثل الرياض، منذ عام 2018.

بعد زيارة شولتز للرياض، وافقت برلين على إمداد السعودية بمعدات عسكرية أخرى، بقيمة 36 مليون يورو، كجزء من مشروع “يوروفايتر وتورنادو” الأوروبي المشترك. تعطي مثل هذه الإجراءات الانطباع بأن الحكومة الألمانية تتصرف بشكل غير متسق وضد قيمها المعيارية.

على مستوى الاستراتيجيات الأمنية والعسكرية بين ألمانيا ودول الخليج هذه، فلا يعتقد علاوي أن يكون هناك مصالح أمنية مشتركة بينهم، باستثناء بيع الأسلحة، حيث برلين تعتبر سوق الخليج من الدول الهامة في استيراد الأسلحة منها، وبالتالي ترى فيها سوقا في هذا القطاع.

أما فيما يتعلق ببلورة استراتيجيات أمنية خليجية أوروبية مشتركة، فإن هذا صعب وذلك لعدم وجود حدود مشتركة بين هذه الدول، إضافة إلى البعد الجغرافي بين هاتين المنطقتين، وبالتالي وفق تقدير علاوي، لا يمكن بناء استراتيجيات أمنية وعلاقات سياسية مشتركة في هذا المجال، ولكن التعاون الأمني على مستوى العلاقات الدولية ولا سيما فيما يتعلق بالعلاقة في ملف إيران أو إسرائيل أو الشرق الأوسط عموما، والدور الذي يمكن أن تلعبه دول الخليج في الوطن العربي ومنطقة الشرق الأوسط، يمكن اعتباره مفتاحا لهذه العلاقات ويمكن الاعتماد عليها في وضع استراتيجيات مشتركة لآلية التعامل في هذه القضايا الشائكة، خاصة فيما يتعلق بالصراعات المتعددة والمختلفة الموجودة في الشرق الأوسط.

كما أن هناك دور لدول الخليج في الكثير من الخلافات الموجودة بين الدول العربية، وبالتالي وفق وجهة نظر علاوي يمكن لألمانيا الاعتماد على هذه العلاقة ووضع بعض الاستراتيجيات المتعلقة بالمنطقة. بمعنى أن استراتيجية برلين تجاه الخليج ربما تتجاوز نطاق التعاون الطاقي في المستقبل، ليشمل بُعدا في مجالي الأمن والسياسة الخارجية.

هذا وتعتبر منطقة الخليج حيوية للاقتصاد الألماني القائم على التصدير، والذي يعتمد بشكل كبير على طرق التجارة وسلاسل التوريد الآمنة، ولذا يظل أمن الممرات البحرية حول شبه الجزيرة العربية من الاهتمامات الرئيسية لعملية صنع القرار السياسي في برلين.

ربما يتعمق هذا الاهتمام بالمستقبل في ضوء الصفقات التي أبرمتها ألمانيا مع دول خليجية معينة لشحن الغاز الطبيعي المسال إلى المحطات الساحلية الألمانية، وفق مراقبين.

لتحقيق خطط ورؤى ألمانيا

من جانب آخر، تسعى برلين كجزء من مستهدفي تحويل الطاقة إلى تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 65 بالمئة بحلول عام 2030، وزيادة حصة مصادر الطاقة المتجددة في إنتاج الكهرباء إلى 80 بالمئة، والوصول إلى “الحياد المناخي” بحلول عام 2045. وضمن جدول أعمال أوسع، من المقرر أن يصبح الهيدروجين ركيزة أساسية لمزيج الطاقة في ألمانيا.

هذا وكانت الحكومة الألمانية السابقة قد أطلقت، في حزيران/يونيو 2020، الاستراتيجية الوطنية للهيدروجين، التي توفر إطارا لإنتاج الطاقة على أساس الهيدروجين، ولذا تعتبر الحكومة الألمانية أن دول الخليج شريك موثوق به في الحفاظ على احتياجات الطاقة الحالية وتعزيز قطاع الهيدروجين في المستقبل، وفق تحليل المعهد الغربي.

قد يهمك: الغاز المسال الأميركي.. كيف تلبي واشنطن احتياجات أوروبا؟

دول الخليج تهدف إلى ترسيخ نفسها كمراكز إقليمية لإنتاج الهيدروجين، وبالتالي فهي مهتمة بالتعاون مع كبار المستهلكين مثل ألمانيا. على سبيل المثال، وقّعت برلين والرياض حوار الطاقة الألماني السعودي في آذار/مارس 2021 من أجل تعزيز التعاون الثنائي في إنتاج ونقل الهيدروجين؛ وفي شباط/فبراير 2022، افتتحت ألمانيا “مكتب دبلوماسية الهيدروجين” في العاصمة السعودية. كما وقّعت ألمانيا شراكة في مجال الطاقة مع الإمارات عام 2017.

تعاون في مجالات أخرى؟

المراقبون، يجدون أنه نتيجة لكل ذلك ونظرا للتحول الجيوسياسي، يجب على النُّخب السياسية الألمانية التوجه نحو استراتيجية شاملة للتعامل مع قادة دول الخليج كشركاء إشكاليين لكن ضروريين لمصالح الأمن والتحول الاقتصادي الإقليمي. ويمكن أن تصبح مثل هذه الاستراتيجية جزءا لا يتجزأ من عملية صنع السياسة الخارجية لألمانيا، حيث تقوم وزارة الخارجية حاليا بصياغة أول استراتيجية للأمن القومي في تاريخ ألمانيا الحديث.

أي أنه إلى جانب الطاقة والتبادل التجاري، يمكن أن تركز العلاقة الألمانية الخليجية على مجالات سياسية أخرى، مثل المساعدة الإنمائية والدبلوماسية الثقافية، لا سيما وقد برزت كلٍّ من السعودية والإمارات وقطر والكويت كدول رائدة في تقديم المساعدات الخارجية في العقود الأخيرة. هذا بالإضافة إلى خيارات أخرى للشراكة مع ألمانيا في القطاعات ذات الاهتمام المشترك مثل التعليم، وتمكين المرأة والشباب والتغير المناخي وإدارة الهجرة أو نقل المعرفة.

لأجل ذلك كله، ووسط التغيرات الجيوسياسية والأزمات العالمية المتعددة، ونظرا لأن دول الخليج قد أتقنت السياسة الدولية جراء أزمة الطاقة الأخيرة، وأصبحت تجيد مسألة إدارة هذه السلعة بما يخدم مصالحها، والتحوط في عالم متعدد الأقطاب، يجب على ألمانيا إعادة ضبط علاقاتها وسياساتها الخارجية مع هذه الدول بما يتجاوز ملف الطاقة، على الرغم من أن رد الفعل الألماني العام والإعلامي المستمر ضد هذا النوع من التعاون الوثيق، سيمثل تحديا وعقبة أمام الحكومة الألمانية في الفترات المقبلة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.