لطالما كانت قطر تحاول أن تصنف نفسها لاعبا إقليميا في الشرق الأوسط منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين واستمرت طموحاتها بالنمو في جميع أنحاء المنطقة. في العقد الماضي، أصبحت الدولة الخليجية الصغيرة منخرطة بشكل متزايد في سياسات جيرانها ليس أكثر من لبنان. لكن تتراوح طموحات الدوحة في لبنان من محاولة ممارسة التأثير في السياسة الداخلية للبلاد إلى الاستفادة من فرص الاستثمار الاقتصادي والتجارة.

على الصعيد السياسي، سعت قطر إلى تعزيز علاقاتها مع الفصائل اللبنانية المختلفة، بما في ذلك الجماعات السنية والشيعية اللبنانية. منذ عام 2013، قدمت قطر العديد من التبرعات المالية الكبيرة إلى حركات مختلفة، بما في ذلك جماعة “حزب الله”، فضلاً عن الاستثمار في مجالات مثل خلق فرص العمل والبنية التحتية. الهدف من هذه التحركات هو بناء علاقة قوية مع هذه المجموعات والتأكد من أنها تدعم الطموحات القطرية في المنطقة. كما أن لقطر عدد من الشخصيات البارزة في المشهد السياسي اللبناني، مثل وزير الخارجية جبران باسيل، الذي يُنظر إليه على أنه حليف رئيسي للبلاد.

سعت قطر أيضا إلى الاستفادة من الآفاق الاقتصادية للبلاد. استحوذت “هيئة الاستثمار القطرية”، برئاسة الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني، على حصة أغلبية في أربعة من البنوك اللبنانية الكبرى في عام 2017. بالإضافة إلى ذلك، شاركت قطر أيضا في دعم عدد من مشاريع التطوير والاستثمار في البنية التحتية في البلاد. وقد اشتمل ذلك على بناء محطة كهرباء جديدة، والتوسع المخطط لمطارات البلاد، وتطوير مركز تكنولوجي ذكي في بيروت.

لبنان أعلن الأحد الفائت، أن قطر دخلت في كونسورتيوم للتنقيب عن الغاز البحري في البحر الأبيض المتوسط ​​قبالة الساحل اللبناني. وقال مراقب سياسي إن الدولة تعول أيضا على مشاركة بعض دول الخليج الأخرى في الكونسورتيوم، حيث يأمل لبنان أن يساعد التنقيب عن النفط والغاز واكتشافهما في تجاوز أزمته الاقتصادية الحالية، إذ سيشهد الاتفاق حصول شركة “قطر” للطاقة على حصة أقلية تبلغ 30 بالمئة في كتلتين من المنطقة الاقتصادية الخالصة في لبنان. لكن ما المقابل التي تنتظره الدوحة بعد تربعها على عرش الاتفاق، وهل تسعى الدوحة إلى تغيير ديناميكيات الوضع الداخلي في لبنان لصالح أطماعها الجيوسياسية.

السيناريوهات الجيوسياسية

قطر في الصفقة الجديدة حلت محل شركة روسية بالتنقيب عن الغاز في لبنان، وبذلك تكون شركة “قطر” للطاقة انضمت إلى كونسورتيوم “توتال إنرجي” الفرنسية وشركة “إيني” الإيطالية للتنقيب عن النفط والغاز في القطاعين اللبنانيين بعد انسحاب شركة “نوفاتك” الروسية من الاتفاقية في أعقاب التوترات الناجمة عن الصراع في أوكرانيا.

حصة لبنان ستتراوح من 54 إلى 63 بالمئة بعد خصم التكاليف التشغيلية والرأسمالية في أي حالة من حالات اكتشاف النفط والغاز. حيث وقع الاتفاقية الجديدة وزير الطاقة اللبناني وليد فياض، وسعد بن شريدة الكعبي وزير الطاقة القطري والرئيس التنفيذي لشركة “قطر” للطاقة، وباتريك بويان، الرئيس التنفيذي لشركة “توتال”؛ وكلاوديو ديسكالزي، الرئيس التنفيذي لشركة “إيني”.

حفل التوقيع أقيم في مقر رئاسة مجلس الوزراء اللبناني وبحضور سفراء قطر وفرنسا وإيطاليا. وجاء الاتفاق نتيجة محادثات استمرت لأشهر وتزامن مع إجراءات عملية بدأها المشغل لتنفيذ أنشطة الاستكشاف والحفر خلال هذا العام.

الخبير في الشؤون السياسية لدول الخليج، هاني السرحان، أوضح لـ”الحل نت”، أن مقابل استثماراتها تتوقع قطر تنازلات من الحكومة اللبنانية. وتشمل هذه الوصول إلى البنية التحتية الاستراتيجية والموانئ، فضلا عن المعاملة التفضيلية فيما يتعلق بالتجارة والاستثمار. كما أن قطر تضع نصب عينيها اتفاقية تجارة حرة مع لبنان، على الرغم من عدم إحراز تقدم في هذا الشأن حتى الآن.

إلى أي مدى يمكن لقطر أن تحقق طموحاتها في لبنان يمكن النظر له بحسب السرحان خلال المدى القصيرة القادمة مع شغور المقعد الرئاسي. لكن نظرًا للانقسامات الطائفية المتعددة في البلاد والبيئة الجيوسياسية الصعبة، فمن غير المرجح أن تكون أهداف قطر قابلة للتحقيق بسهولة. ومع ذلك، فإن انخراط الدولة الخليجية في السياسة والاقتصاد والشؤون الإقليمية الأوسع في لبنان لا يمكن توقعه إلا في المستقبل القريب.

إقامة تحالفات في لبنان

باتت شركة “قطر” للطاقة شريكا في ائتلاف الشركات التي تملك الحقوق البترولية في الرقعتين 4 و9 في المياه البحرية اللبنانية، وتحظى بثلاثين بالمئة مقابل 35 في المئة لصالح الشركة الفرنسية و35 في المئة لصالح الشركة الإيطالية. وستشكل الرقعة رقم 9 حيث حقل قانا الذي يقع جزءا منه خارج المياه الإقليمية، منطقة رئيسية للتنقيب ستضطلع به الشركات الثلاث. لكن ماهو الثمن الذي دفعته قطر للحصول على هذه المكافأة.

قطر سعت إلى توسيع نفوذها في المنطقة، لا سيما في لبنان الذي انقسم في الفترة الأخيرة بشكل كبير خصوصا مع توسع مصالح “حزب الله” وانخراطه في الحرب السورية، وذلك من خلال سلسلة من التحالفات والاستثمارات، محاولة تحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية في البلاد.

الهدف الأساسي لدولة قطر من إقامة تحالفات في لبنان بحسب ما يقرأه السرحان، هو الحصول على ولاء من كافة الأطراف؛ ليكون البلد الشرق الأوسطي منفذا له، فقدمت الدولة مساعدات مالية وعسكرية كبيرة للحكومة اللبنانية على مدى العقد الماضي. وقد ساعدت هذه الأموال في تحول شخصيات متنفذة في البلد إلى الميل لتحقيق مصالح الدولة الخليجية، وأيضا مساهمتهم في تثبيط التهديدات المحتملة عليها. 

كما يمتد تدخل قطر في لبنان إلى المجال الاقتصادي. قدمت الدولة أو المؤسسات التابعة لها بشكل علني أو سري استثمارات واسعة النطاق منذ الحرب في عام 2006، في المقام الأول على شكل مشاريع البنية التحتية. تهدف هذه المشاريع إلى تعزيز الاقتصاد وخلق فرص عمل للشعب اللبناني. كما ساهمت قطر في تطوير قطاع الطاقة في البلاد، والذي كان له تأثير إيجابي بشكل خاص على الآفاق الاقتصادية للدولة. يتم تمويل العديد من هذه المشاريع من خلال قروض من هيئة الاستثمار القطرية، وهي أكبر ممولين لمشاريع البناء في الشرق الأوسط.

تحالف قطر مع قوى لبنانية بعينها يلعب دورا رئيسيا في العلاقات السياسية والدبلوماسية للبلاد. من خلال إنجاح استثماراتها، أقامت الدولة علاقة قوية مع أطراف متشعبة مما سمح لقطر بالاستفادة من هذا الموقف الدبلوماسي لصالحها. ففي الآونة الأخيرة، لعبت قطر دورا أساسيا في التوسط في اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، وأيضا لعبت دورا في تفاوضات “حزب الله” مع فصائل المعارضة السورية.

نجحت التحالفات التي بنتها قطر في لبنان بتأمين أرضية مستقرة لها وتسهيل استثماراتها الاقتصادية في جميع أنحاء المنطقة كما يفعل المد الصيني في إفريقيا. ومن خلال استثماراتها المستمرة ودبلوماسيتها، تمكنت قطر من بناء شراكة فعالة ومفيدة مع لها مع الفرق اللبنانية المتحكمة في السلطة سمحت لها بتحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية.

موازنة العلاقات مع السعودية وإيران

منذ عام 2019، وتحديدا في أعقاب القمة العربية التنموية الاقتصادية والاجتماعية في لبنان، أعلنت قطر عن خططها لشراء سندات حكومية بقيمة 500 مليون دولار لدعم اقتصاد البلد المضيف المتعثر. ومع ذلك، فمن المحتمل أن تكون هذه خطوة استراتيجية لقطر لزيادة قوتها الناعمة في البلاد. الهدف النهائي هو تحدي تأثير المملكة العربية السعودية، الراعي المالي لبيروت منذ فترة طويلة.

فشل معظم قادة المنطقة بالظهور في القمة آنذاك، وحضور أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أحد القادة العرب فقط المشاركين في الاجتماع، كان عاملا بارزا في القمة المخيبة للآمال بشكل عام. وبعث وجوده برسالة مهمة خاصة للسعودية بأن قطر مستعدة للوقوف إلى جانب لبنان في وقت لم تعرض فيه أي دولة أخرى من دول مجلس التعاون الخليجي دعمها، هذه خطوة من المرجح أنها زادت من مكانة الدوحة في عيون المتحكمين بسياسة واقتصاد بيروت.

منذ أوائل التسعينيات، سعت قطر جاهدة لتحقيق التوازن في علاقاتها مع جارتيها الكبيرين السعودية وإيران. كان هذا بالطبع يعني قطع سياسة التقارب مع الرياض، التي تبنتها بعد استقلالها في عام 1971، من أجل السعي إلى تقارب أكبر قليلاً مع إيران حتى يمكن تحقيق التوازن المنشود في هذه العلاقات. 

وتحقيقا لهذه الغاية، قامت بتسوية نزاعاتها الحدودية البحرية مع إيران وأبرمت اتفاقية أمنية معها في عام 2010. إلا أن قطر لم تتمكن من تحقيق هدفها. وبذلك استسلمت لوجود علاقات سيئة مع أحد جيرانها، لكنها حاولت تجنب وجود علاقات سيئة مع كليهما في نفس الوقت.

يمكن القول إن قطر لم يكن لديها سياسة خارجية خاصة بها حتى أوائل التسعينيات. بل على العكس من ذلك، فبعد انتهاء الحماية البريطانية عام 1971 وتبديد آثار معاهدة الصداقة التي ربطتها ببريطانيا العظمى عام 1981، اعتمدت بالكامل على السعودية في إطار مجلس التعاون الخليجي.

كما لوحظ نظرًا لوضعها الجيوسياسي الحساس، طورت قطر استراتيجية أقرب إلى ما يمكن تسميته “قانون البقاء” في سياستها الخارجية. فعندما تواجه ضغوطًا من إيران، فإنها تدفع السعودية بالقرب من حدود التحالف. وعندما تكون السعودية مصدر التهديد، ترد قطر بتقارب محسوب مع إيران. حدث الاستثناء من هذه القاعدة خلال الاحتجاجات في بعض البلدان العربية بين عامي (2011-2013)، عندما اتبعت قطر سلوكا هجوميا راهنت فيه على إمكانية تغيير هيكل النظام الإقليمي، وراهنت على انتقال ديمقراطي من قبل كل من إيران وعارضت السعودية.

لبنان ساحة أخرى تدور فيها الحرب بالوكالة بين السعودية وإيران، وهي حرب تهدد بمزيد من تصدع الدولة الهشة والمحفوفة بالمخاطر أصلا. ويوفر التزام قطر تجاه لبنان ماليا ودبلوماسيا، أرضية قوية لزيادة قوتها الناعمة في البلاد. لم يكن دعم لبنان في أزمته الاقتصادية سوى فرصة واحدة لقطر لتعزيز دورها في لبنان.

من هنا اختارت قطر اللحظة المناسبة لتوسيع نفوذها. رؤية الفراغ في لبنان الذي خلفه البُعد السعودي من غير المرجح أن تملأه الدوحة في المستقبل القريب؛ إذ لا تزال السعودية تتمتع بنفوذ كبير في جميع أنحاء المنطقة. ومع ذلك، فمن المرجح أن تلعب قطر اللعبة الطويلة، من المحتمل أن تتخذ قرارات محسوبة وتستفيد من أوجه القصور في لبنان.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.