الأزمات العالمية الأخيرة، بما فيها جائحة “كوفيد -19” وتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، أثّرت على اقتصادات العالم بأسره، لا سيما البلدان ذات الاقتصادات الهشة والمتوسطة. ومن بين الدول التي تأثرت بهذه الأزمات دولة المغرب، حيث ارتفع معدل التضخم فيها إلى حوالي 8.3 بالمئة في عام 2022، وسجل هذا التضخم في المغرب أعلى مستوى منذ عام 1995، وهذا مؤشر سلبي إلى حد ما.

تداعيات أزمة “كورونا” وباقي الأزمات أثرت بشكل كبير على نسيج ريادة الأعمال، وامتد تأثير هذه الأزمات العالمية طوال العامين الماضيين، مما أدى إلى زيادة ملحوظة في حالات الإفلاس المعلنة من قِبل الشركات المغربية، وهو أمر غير معتاد نسبيا. اللافت أن هذه الأزمات ما زالت تطارد الشركات في المغرب.

عدد حالات فشل الأعمال في البلاد عام 2022 ارتفع بنسبة 17.4 بالمئة مقارنة بعام 2021. حيث كشف مكتب الدراسات الفرنسي “إنفوريسك”، في آخر دراسة حول تعثّر المقاولات بالمغرب سنة 2022 أن عدد الشركات التي أعلنت إفلاسها بلغ أكثر من 12397 شركة، وهو ما يطرح أسئلة حول الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذا الفشل لعدد كبير من الشركات في الرباط.

كذلك، توقعت شركة “التدقيق” (بيي دبليو سي) الأميركية، أن يزداد عدد حالات فشل الأعمال في عام 2023، وبالتالي وجِب طرح بعض الأسئلة هنا، وهي فرص وأسباب ذلك، وانعكاساته على اقتصاد البلاد، ومستقبل الشركات في المغرب.

محددات وراء الفشل

مع تداعيات جائحة “كوفيد-19″، والأزمة العالمية الحالية من تضخمٍ وارتفاع في الأسعار، وتأثير ذلك على الشركات في المغرب، ارتفعت حالات فشل الأعمال في البلاد في عام 2022، وكشفت بيانات “إنفوريسك”، أن أكثر من 99 بالمئة من الشركات الفاشلة كانت عبارة عن مؤسسات صغيرة جدا “في إس إي”، في حين أن الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي تخلفت عن السداد “إس إم إي إس”، تشكّل 0.7 بالمئة من الإجمالي. وفي الوقت نفسه، شكلت الشركات الكبيرة التي فشلت العام الماضي 0.1 بالمئة من الشركات الفاشلة، وفق ما نقله موقع “أخبار المغرب العالمية“.

الدراسة عزت الارتفاع المفاجئ في حالات فشل الأعمال إلى الاستخدام المنخفض للترتيب الطوعي للشركات، وهو إجراء يمكّن الشركات من تسوية الديون من خلال دفع جزء فقط من الدائنين مما يدينون به لهم، مشيرة إلى أن الشركات المغربية لا تزال على دراية سيئة بالإجراءات الوقائية المتاحة التي يمكن أن تختارها لحماية نفسها من الإفلاس.

ضمن هذا الإطار، يقول الباحث الاقتصادي المغربي في “معهد الشرق الأوسط” بواشنطن، الدكتور رشيد أوراز، إن أسباب فشل الشركات متعددة، لكن السبب الأكبر يتعلق بالصعوبات المالية التي تعاني منها مقاولات كثيرة. وكانت أعوام 2020 و2021 شديدة الصعوبة على المقاولات المغربية، وأدى تراجع الطلب المحلي وتراجع دخل المواطنين إلى كساد بعض الأسواق. كما كان الإغلاق الاقتصادي بدوره عاملا ضاغطا على نشاط المقاولات في البلاد.

الباحث الاقتصادي في “معهد الشرق الأوسط” بواشنطن، يردف لموقع “الحل نت”، أن هناك أسباب أخرى أدت إلى فشل بعض الأعمال المقاولاتية المغربية، وهي أسباب ذاتية ومرتبطة بفشل بعض مسيّري المقاولات في تسيير مقاولاتهم، وهو ما يؤدي إلى فشلها ومن ثم إفلاسها التام.

قد يهمك: تقلبات حادة بأسواق المال في 2023.. الأسباب وكيفية التعافي

كذلك، ثمة أسباب أخرى تكمن وراء إفلاس المقاولات خلال السنة الماضية، وتتمثل في إيقاف المساعدات العمومية التي تقدمها الحكومة المغربية، والمتمثلة خصوصا في الآليتين التمويليتين “ضمان إنعاش” و”ضمان أكسجين”، اللتين تم إطلاقهما بهدف إنعاش المقاولات المغربية، لاسيما المقاولات الصغيرة جدا والصغرى والمتوسطة. كما توقفت تعويضات “الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي” وغيرها من التسهيلات، وفق بعض التحليلات السابقة.

فشل أكبر في عام 2023؟

شركة “بيي دبليو سي” الأميركية، توقعت أن يزداد عدد حالات فشل الأعمال في عام 2023، وهو ما يتفق معه الباحث الاقتصادي، رشيد أوراز، ويعتقد أن هذا الفشل سيستمر خلال العام الجاري، والسبب هو العوامل الجديدة التي أضيفت لعامل تداعيات “كوفيد-19″، ولعل أبرز هذه العوامل، هو تداعيات الحرب في أوكرانيا، وحقيقة الأمر أن هذان عاملان رئيسيان يساهمان في زيادة فشل الشركات في المغرب خلال عام 2023 الجاري، ولا سيما آثار الحرب الروسية الأوكرانية المستمرة وكذا عامل الجفاف الذي أضر بالنشاط الاقتصادي، وخصوصا الطلب والاستهلاك.

بحسب تقدير أوراز، فإن  تراجع القدرة الشرائية بسبب عامل التضخم وارتفاع الأسعار العالمية والركود العالمي المتوقع، في هذه الفترة، سيؤدي ويساهم أيضا إلى معاناة المقاولات المغربية في السوق المحلية. أيضا، مع سعي الحكومة في الرباط للحصول على إيرادات إضافية لخفض عجزها المالي وتمويل برامج الحماية الاجتماعية، من خلال زيادة الضرائب على البنوك والشركات الكبرى، وآثار تشديد السياسة النقدية التي من المرجح أن تدفع البنوك إلى تشديد شروطها لمنح التمويلات، بالتالي قد يساهم في زيادة فشل أعداد الشركات.

بالنظر إلى العجز الذي حصل في ميزانية المغرب، قالت وزيرة المالية المغربية، نادية فتاح العلوي مؤخرا، إن بلادها وضعت مسودة موازنة 2023 التي تستهدف زيادة الضرائب على البنوك والشركات الكبرى مع سعي الحكومة للحصول على إيرادات إضافية لخفض عجزها المالي.

الوزيرة أبلغت المشرعين، وفق تقرير لقناة “العربية”، بأن مسودة الموازنة تستهدف زيادة ضريبة الشركات على مدار السنوات الأربع المقبلة إلى 20 بالمئة للشركات التي تقل أرباحها السنوية عن 100 مليون درهم، أي ما يقارب تسعة ملايين دولار، وإلى 35 بالمئة للشركات التي تزيد أرباحها على 100 مليون درهم، بينما ستدفع البنوك وشركات التأمين ضريبة تبلغ 40 بالمئة، وأن الضرائب على عائدات الأسهم ستنخفض خلال السنوات الأربع المقبلة من 15 إلى 10 بالمئة، كما تعتزم الحكومة خفض ضرائب الدخل. الأمر الذي يؤدي إلى خلق بيئة غير مواتية لزيادة الأعمال المقاولاتية في البلاد.

مستقبل الشركات المغربية

بالعودة إلى دراسة “إنفوريسك”، فإن الشركات التي فشلت خلال عام 2022، تقع في عدة مناطق، ومنها الدار البيضاء والرباط وطنجة 41 بالمئة من الشركات الفاشلة، تليها مراكش 7 بالمئة وفاس 6 بالمئة وأكادير 6 بالمئة. وأشارت الدراسة إلى أن 33 بالمئة من الشركات الفاشلة تعمل في قطاع التجارة، بينما 21 بالمئة تعمل في قطاع العقارات.

في الوقت نفسه، كانت 15 بالمئة من الأعمال الفاشلة تعمل في قطاع البناء والأشغال العامة، بينما كانت 8 بالمئة في مجال النقل. وفي مقياس الإفلاس للربع الأول من عام 2023، توقعت شركة “بيي دبليو سي” الأميركية، أن تأثير الأزمة الاقتصادية سيزيد بشكل كبير من عدد الشركات الفاشلة في عام 2023 مقارنة بالعام الماضي.

كين تيريل، شريك استعادة الأعمال في الشركة الأميركية، قال “مع استمرار الرياح الاقتصادية المعاكسة مدفوعة بالتضخم المرتفع وتكاليف الطاقة وأسعار الفائدة، من وجهة نظرنا، سيستمر الضغط الكبير على الربحية والتدفق النقدي للعديد من الشركات خلال الجزء الأول من عام 2023 على الأقل”.

توقعات رسمية حديثة، قالت إن استثمارات الشركات المغربية ستشهد تراجعا خلال العام الجاري، في الوقت الذي تراهن فيه الحكومة على زيادة حجم الاستثمار العمومي والخاص للمساهمة بشكلٍ أكبر في رفع النمو الاقتصادي للبلاد.

في حين، يعتقد أوراز، أن هناك شركات قادرة من الناحية المالية وأيضا من حيث قدراتها البشرية على تجاوز هذه الفترة والظروف الاقتصادية الصعبة. وفي المقابل، ثمة شركات ستعاني وتتجاوز الأزمة، أي التجاوز والاحتواء بشق الأنفس، بينما هناك شركات ستذهب إلى الإفلاس، وهذا طبيعي في منطق السوق، وفق تقدير أوراز.

لكن بحسب “المندوبية السامية والتخطيط المغربية”، وهي هيئة حكومية مكلفة بالإحصاء، فإن الشركات ستكون أكثر حكمة من حيث الاستثمار بتفضيل تحسين وضعها المالي الداخلي لتكون أقل اعتمادا على التمويل المصرفي. وتحاول المملكة المغربية زيادة الاستثمارات لدعم اقتصادها الذي شهد تباطؤا حادا في النمو خلال الربع الثاني من عام 2022 الماضي، بلغ 2 بالمئة فقط. فبعد أن أقرّت البلاد ضخ استثمارات حكومية بـ22 مليار دولار في موازنة 2022، خصص مشروع موازنة 2023 استثمارات بـ27 مليار دولار، وهي الأعلى على الإطلاق، وفق تقرير لـ”الشرق بلومبيرغ”.

التقرير ذاته، توقع أن “الشركات العاملة في قطاعات التجارة، والخدمات، والبناء، والفلاحة، والصناعة التقليدية، تأثرت بشكل كبير خلال السنوات الثلاثة الماضية، وسيستمر تأثرها خلال العام الجاري لتكابد فقط من أجل الاستمرار دون التفكير في الاستثمار”.

قد يهمك: التكيف مع الانتقاد السياسي.. دور للأحزاب في الاصلاحات والإنعاش الاقتصادي بالجزائر؟

الاستثمار الخاص في المغرب يمثل نحو ثلث إجمالي الاستثمارات التي يتم ضخها في البلاد، واعتمدت الحكومة مؤخرا ميثاقا يُتيح حوافز مالية وضريبية لمستثمري القطاع الخاص بهدف الوصول بنسبة استثماراتهم إلى الثلثين. وتوقعات عدم الإقدام على الاستثمار من قِبل فئة كبيرة من الشركات المغربية خلال العام الجاري مرتبطة أيضا بغياب الرؤية على المدى المتوسط بالنظر للوضع الدولي المتقلب، وبالتالي الإحجام عن الاقتراض من أجل الاستثمار.

إفلاس المزيد من الشركات؟

أما تداعيات ذلك فهي بلا شك ستؤثر بشكل كبير على اقتصاد الدولة ومن ثم على السوق المحلي وكذلك على السكان المحليين، خاصة وأن هناك عددا لا يمكن التغاضي عنه من العاملين في هذه الشركات  وإفلاس هذه الشركات يعني زيادة في معدل البطالة ومن ثم الفقر والضعف المالي.

إذاً، لا بد من اتخاذ بعض الإجراءات والتدابير لتفادي إفلاس المزيد من الشركات، مثل دعم الحكومة، من خلال استقطاب العديد من الاستثمارات للداخل المغربي، سواء استثمارات أجنبية أو خليجية، فضلا عن دعم الشركات الناشئة، وخاصة وأن المنطقة تُعدّ بيئة خصبة للاستثمار في قطاع التكنولوجيا المالية والشركات الجاذبة للتمويل، فضلا عن موقع المغرب الجغرافي الاستراتيجي، ما بين القارة الإفريقية وأوروبا، بالإضافة إلى الاستقرار السياسي للرباط، وهو من العوامل المهمة لخلق بيئة مناسبة لجذب الاستثمارات الخارجية عموما.

في تشرين الأول/أكتوبر 2022، أطلق المغرب مبادرة تهدف لضخ استثمارات إضافية بـ 550 مليار درهم، أي نحو 50 مليار دولار، في الدولة خلال 5 سنوات بالتعاون بين الحكومة والقطاعين الخاص والمصرفي، بهدف خلق 500 ألف فرصة عمل في الفترة بين 2022 و2026.

كذلك، من أجل تحفيز الاستثمار الخاص، فعّل المغرب صندوق الاستثمار الاستراتيجي الذي استُحدث عام 2021، وتلقى مساهمة أولية قدرها 15 مليار درهم، أي حوالي 1.4 مليار دولار، من ميزانية الدولة، على أن يتم جمع تمويلات أخرى من جهات وطنية ودولية ليبلغ إجمالي موارده المستهدفة 4.5 مليار دولار لتمويل المشاريع الاستثمارية الكبرى في إطار شراكات مع القطاع الخاص.

بالمثل، أعلن صندوق “المغرب الرقمي الثاني” ( إم إن إف 2) مؤخرا، عن توسيع استراتيجيته الاستثمارية لتشمل الشركات الناشئة التي أسسها مغاربة العالم خارج المغرب، وذلك إدراكا منه للإسهام الهام لهذه الفئة في تطوير مجال الشركات الناشئة في المغرب. الحكومة المغربية تتطلع عبر مشروع موازنة 2023 لتحقيق نمو 4 بالمئة مقابل 1.5 بالمئة فقط خلال عام 2022 الماضي، وألا يتجاوز العجز المالي 4.5 بالمئة.

في العموم، عانى الاقتصاد المغربي مثل بقية العالم بشكل كبير بسبب جائحة “كورونا” وتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا والتضخم العالمي والأزمات العالمية الأخرى، ومع استمرار الرباط في الإبحار في عالم ما بعد “كوفيد –19″، واحتواء تداعيات الحرب الأوكرانية وغيرها، ومحاولة حلحلة ومعالجة اقتصادها، يجب أيضا مراعاة والجهوزية للتهديدات الجديدة حيث تستمر القضايا البيئية والتغيرات المناخية والصراعات الجيوسياسية في التأثير على الاقتصاد العالمي ككل. وستبلغ ذروتها في العام الحالي 2023.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة