مع اكتساب دول “مجلس التعاون الخليجي” نفوذا متزايدا في الشؤون العالمية، وخاصة التجارة، تنتظر دول أمثال المملكة المتحدة والصين والهند وروسيا وسنغافورة والبرازيل وإندونيسيا وكوريا الجنوبية اتفاقيات التجارة الحرة مع اقتصادات الخليج. كما إنه شيء تسعى إليه المملكة المتحدة باهتمام شديد منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتنضم دول أخرى أيضا إلى السباق.
في الآونة الأخيرة، قال متحدث باسم وزارة الخارجية الصينية: “نحن مستعدون للعمل عن كثب مع دول مجلس التعاون الخليجي لتعزيز تنميتنا المشتركة”. وأعقب هذا البيان بإعلانات مماثلة من الهند وسنغافورة وكوريا الجنوبية، والتي لا يزال “مجلس التعاون الخليجي” يناقش معها اتفاقيات التجارة الحرة الممكنة.
في كثير من الحالات، كانت المفاوضات بين دول “مجلس التعاون الخليجي” ودول أخرى مستمرة منذ سنوات، ولكن دون تحقيق اختراقات كبيرة. ويرجع ذلك إلى محاولة بعض الدول إدخال قضايا غير تجارية في المفاوضات، كما حاول الاتحاد الأوروبي، مما أدى إلى تعليق المفاوضات لعقود دون ذرة من التقدم.
هناك أسباب أخرى لها علاقة بالجوانب التي لم يتم حلها في العمل الخليجي المشترك. كشف اجتماع لجنة التعاون المالي ولجنة التعاون التجاري لدول “مجلس التعاون الخليجي”، المنعقد في كانون الثاني/يناير الماضي، عن وجود تباين في الآراء الفنية وعدم الاتفاق على صلاحيات الفريق التفاوضي وآلية العمل فيما يتعلق باتفاقية تجارية مع الصين. وهذا يعني بوضوح أن هناك تباينا في تقييم هذه الاتفاقيات. لكن هل مع وجود المزيد من اتفاقيات التجارة الحرة، ستستفيد اقتصادات الخليج بالتساوي من الاتحاد الجمركي، وكيف يمكن أن تندفع البنوك في الإمارات العربية المتحدة للاستفادة من ازدهار سوق الثروة الخاصة.
الخليج والتكتلات الاقتصادية
الحقيقة التي لا تنكر، هي أن الخليج العربي يعد مركزا تجاريا رئيسيا في الشرق الأوسط، حيث تشارك دول مثل الإمارات العربية المتحدة وقطر والبحرين السعودية بنشاط في متابعة أنشطة التجارة الدولية. هذه الدول لديها حافز كبير لاستكشاف إمكانيات تشكيل اتفاقيات تجارة حرة مشتركة، لتحفيز وتسهيل نمو التجارة العالمية والتجارة في المنطقة.
المختص في نظام التجارة الدولية والاقتصادات الصناعية الحديثة، جون أودل، أوضح لـ”الحل نت”، أنه من المعتقد أن صياغة هذه الاتفاقيات لن تفيد الدول المشاركة فحسب، بل ستدعم أيضا نمو الاقتصاد العالمي. إذ ستخلق هذه الاتفاقيات فرصا أكبر لتوسيع السوق، وتمكين التعريفات المنخفضة، وسهولة الوصول إلى التمويل، وتعزيز الإجراءات الجمركية، مما يجعل الأنشطة التجارية أكثر كفاءة وفعالية من حيث التكلفة. كما يُنظر إلى اتفاقيات التجارة الحرة على أنها مفيدة من حيث أنها يمكن أن تقلل الحواجز أمام الاستثمارات الأجنبية وتعزز الاستقرار الإقليمي.
الكاتب متخصص في شؤون الطاقة والاقتصاد الخليجي، محمد العسومي، من جهته يرى أن بيان لجنة التعاون المالي والتجاري كشف عن خلل فادح في عملية التفاوض في الخليج. خصوصا أن التفاوت في تقييم الاتفاقيات للعديد من دول “مجلس التعاون الخليجي” دفعهم إلى الانخراط في مفاوضات ثنائية واتفاقيات تجارة حرة مع الآخرين. ويمثل هذا خطوة استراتيجية لهذه البلدان لأنها تتطلع إلى الاستفادة من طرق جديدة لتعزيز مركزها التجاري.
إلا أنها تتطلب مثل هذه الاتفاقيات مستوى عالٍ من الخبرة الفنية ليتم تنفيذها بسلاسة، وقد يكون غياب مثل هذه الصلاحيات لفريق المفاوضين الخليجي عائقا في المفاوضات مع فرق الدول الأخرى المجهزة تجهيزا جيدا. لكن قد يؤدي التسويف إلى انقسام متزايد في العلاقات التجارية بين دول “مجلس التعاون الخليجي”، مما يؤدي إلى مزيد من التأخير في استكمال الاتحاد الجمركي الخليجي. بعد تأجيلات متعددة من عام 2003، من المتوقع أن تؤتي ثمارها في العام المقبل. ومع ذلك، فإن أي تأخيرات أخرى قد تكون بمثابة نكسة كبيرة.
في المقابل، يؤكد أودل أنه لإنشاء اتفاقيات تجارة حرة مشتركة داخل منطقة الخليج العربي، تحتاج الدول المشاركة إلى تحديد مجالات الاهتمام المشتركة وصياغة شروط وأحكام الاتفاقية وفقا لذلك. وسيتطلب ذلك مفاوضات مكثفة بين الدول من أجل ضمان نتائج مفيدة للطرفين. بالإضافة إلى ذلك، تحتاج الدول إلى بناء الثقة فيما بينها من أجل تقليل المخاطر السياسية والاقتصادية للاتفاقية. هذا مهم بشكل خاص بالنظر إلى تعقيد المنطقة ومشهدها الجيوسياسي.
الاتحاد الجمركي الخليجي
في عام 2018، دخلت السوق الخليجية المشتركة حيز التنفيذ في الخليج العربي، مما سمح للبضائع بالتحرك بحرية داخل دول المنطقة. ومع ذلك، لا تنطبق هذه الاتفاقية إلا على عدد محدود من السلع والخدمات، وبينما فتحت أسواقا جديدة وسمحت للسلع بالسفر بسهولة أكبر بين البلدان، فقد يكون من الضروري التوصل إلى اتفاق أكثر شمولا من أجل تعظيم التأثير المحتمل للمنطقة الحرة الإقليمية والاتفاقيات التجارية.
هناك مسألة رئيسية أخرى يجب مراعاتها عند صياغة اتفاقيات التجارة الحرة الإقليمية بحسب أودل، وهي إمكانية الحمائية داخل البلدان المشاركة. يتمثل جزء أساسي من ضمان نجاح مثل هذه الاتفاقيات في الحد من احتمالية انخراط الدول في الحمائية التجارية، لأن هذا يمكن أن يضر بإمكانيات الاتفاقية من خلال جعل من الصعب على الشركات الاستفادة منها.
أيضا مع توقيع الاتفاقيات الثنائية، يصبح إنشاء الاتحاد الجمركي مستحيلا، لأنه يؤدي إلى عدم المساواة في معاملة البضائع المستوردة. سيتم إعفاء البضائع التي تدخل البلدان التي لديها اتفاقيات تجارة حرة من الرسوم الجمركية، في حين أن السلع نفسها ستخضع لرسوم جمركية أعلى في البلدان الأخرى.
معالجة هذا التفاوت يجب أن يكون برأي المختصين الاقتصاديين من خلال المفاوضات الجماعية لإنشاء مناطق التجارة الحرة. وقد اكتسبت هذه الاتفاقيات أهمية مع توقيع المزيد من الدول والتكتلات الاقتصادية عليها سعيا منها لزيادة المكاسب وتعزيز القدرة التنافسية لصادراتها. ومع ذلك، فإن الفشل في إبرام هذه الاتفاقيات يمكن أن يؤدي إلى انخفاض القدرة التنافسية، مما يؤدي إلى ضياع فرص النمو.
عودة الثروة تتيح الفرص؟
لا يخفى على أحد أن الإمارات كانت منذ فترة طويلة وجهة شهيرة للأثرياء. ومع ذلك، يبدو أن عدد الأثرياء القادمين إلى البلاد في تصاعد. تتوقع دراسة حديثة، نُشرت في مركز “هنلي جلوبال” للدراسات، أن الإمارات العربية المتحدة يمكن أن تجتذب أكبر عدد من أصحاب الملايين هذا العام.
فيليب أمارانت، الشريك الإداري في المركز، قال “تجاوزت الإمارات توقعاتنا لعام 2022 لتدفق صاف من أصحاب الملايين، حيث بلغ الرقم الفعلي النهائي بحلول نهاية كانون الأول/ديسمبر 5200”. “نتوقع أن نشهد اتجاها مماثلا في العام المقبل حيث يختار المزيد من مديري صناديق التحوط الانتقال إلى دبي، بالنظر إلى البنية التحتية الجيدة للإمارة، والضرائب المنخفضة، والقواعد التنظيمية الخفيفة”.
نظرا لوفرة مزايا أسلوب الحياة، تجذب الإمارات المقيمين الذين ربما اختاروا سابقا الانتقال إلى بلدان مثل المملكة المتحدة أو أستراليا أو سويسرا. ويضيف أمارانت: “هناك العديد من الأسباب التي تجعل الأفراد الأثرياء ينتقلون إلى الدولة الخليجية، فهي مركز أعمال دولي يتمتع باقتصاد مرتفع الدخل ويشتهر بكونه واحة آمنة في الشرق الأوسط وإفريقيا، البلد قوي في العديد من القطاعات الرئيسية بما في ذلك الخدمات المالية والنفط والغاز والعقارات والسياحة والتكنولوجيا، مع نظام رعاية صحية من الدرجة الأولى”.
وفقا لمسح أجراه بنك “لومبارد أودييه” العام الماضي، فإن تسعة من كل عشرة أثرياء يمتلكون ثرواتهم في الشرق الأوسط، ومن المتوقع أن يستمر هذا خلال السنوات القليلة المقبلة.
لذلك، على الرغم من النمو الاقتصادي الفاتر بشكل عام في جميع أنحاء العالم، وبعض القطاعات المصرفية تمر بأوقات عصيبة، لا تزال الخدمات المصرفية الخاصة في المنطقة تشهد طلبا.
أدى تدفق الأثرياء إلى الإمارات العربية المتحدة إلى زيادة الطلب على الخدمات المالية المتخصصة وحلول إدارة الثروات. كما أدى إلى جذب أفضل المواهب من جميع أنحاء العالم، مما أدى إلى تسريع الاستثمار في رأس المال البشري من قبل البنوك الخاصة ومديري الثروات لتلبية الاحتياجات المتطورة المتزايدة للأثرياء.
منطقة التجارة العربية الحرة الكبرى
لدى دول “مجلس التعاون الخليجي” 12 اتفاقية تجارية حرة موقعة مع عدة دول، جميعا تتسم بمزايا أبرزها تخفيض الرسوم الجمركية مما يتيح زيادة حجم التبادل التجاري، وزيادة حجم الاستثمارات مما يضمن إيجاد فرص عمل أكبر، وتعزيز فرص نفاذ المنتجات المحلية والمنتجات الخدمية إلى الأسواق.
أيضا تسمح الاتفاقيات بضمان أكبر لحقوق المستثمرين ومقدمي الخدمات والشفافية في المعاملات، وضمان حقوق الملكية وبراءات الاختراع والعلامات التجارية. فضلا عن أنها تعزز موقع المنطقة كمركز عالمي وكوجهة رئيسية جاذبة للاستثمار، وتتطلع من خلال ذلك إلى زيادة الصادرات الخليجية وتحسين التنافسية في الأسواق الخارجية، وتنظيم المنافسة وخفض المعوقات التجارية التي تواجه منتجاتها.
تشمل الدول التي تم توقيع اتفاقيات التجارة الحرة لـ “مجلس التعاون الخليجي” معها كلا من نيوزيلندا، وسنغافورة، ودول الإفتا وبعض الدول العربية كلبنان والعراق والمغرب والسودان. ويتم حاليا التفاوض مع مجموعة من الدول والمجموعات التجارية، وتشمل الاتحاد الأوروبي، واليابان، والصين، وكوريا، وأستراليا، وباكستان، والهند، وتركيا، ودول الميركسور التي تضم كل من جمهورية الأرجنتين، جمهورية البرازيل الفدرالية، جمهورية باراغواي وجمهورية أوروغواي.
المنطقة هي موطن لبعض أكبر منتجي النفط في العالم ومورد رئيسي للمنتجات البترولية إلى العالم. كما أنها باتت خلال العقد الأخير موطن للعديد من المنظمات السياسية والاقتصادية الإقليمية المكرسة لتحقيق الاستقرار والنمو الاقتصادي الإقليمي. كما أصبحت منطقة الخليج ذات أهمية متزايدة في التجارة العالمية، نتيجة لتحرير الممارسات التجارية في المنطقة والانفتاح المتزايد للأسواق الإقليمية على التجارة الدولية.
“منتدى منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى” (غافتا) الذي تأسس عام 1992 من أجل الجمع بين اقتصادات الدول العربية في كتلة تجارية واحدة. تم تأسيسه لتسهيل إنشاء اتفاقية تجارة حرة بين الدول الأعضاء، ولتعزيز وتسهيل تطوير سوق مشتركة للدول الأعضاء فيها. الهدفان الرئيسيان لـ “غافتا” هما توفير تسهيل التجارة والمساعدة في تقليل الحواجز التجارية بين الدول الأعضاء. حققت منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى العديد من الإنجازات البارزة في العقد الماضي، بما في ذلك إلغاء معظم التعريفات الجمركية بين الدول العربية، وتحرير أسواق الخدمات، وتطبيق نظام تجاري إقليمي تفضيلي.
حاليا ينظر لتفعيل “غافتا” أنه يطرح العديد من الآثار الإيجابية على منطقة الخليج العربي، بما في ذلك زيادة التجارة بين دول الخليج، وزيادة الاستثمار في المنطقة، وتحسين الوصول إلى الأسواق العالمية، وخلق فرص اقتصادية واستثمارية لرواد الأعمال.
بالإضافة إلى ذلك، تسمح أنظمة التجارة التفضيلية التي توفرها “غافتا” لاقتصادات دول الخليج بأن تصبح أكثر قدرة على المنافسة والاستفادة من زيادة الوصول إلى الأسواق العالمية. أخيرا، فإن تكامل اقتصادات الخليج من خلال منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى له أثر إيجابي على الاستقرار السياسي للمنطقة، حيث يؤدي إلى زيادة التعاون والازدهار الاقتصادي.
بشكل عام، فإن إمكانية إبرام اتفاقيات تجارة حرة مشتركة في الخليج العربي كبيرة. من خلال التعاون، يمكن لبلدان المنطقة إنشاء مشهد تجاري يتسم بالكفاءة والفعالية يزيد بشكل مثالي من الفوائد للأعمال والاقتصاد. ومع ذلك، كما هو الحال مع أي اتفاق، هناك العديد من التحديات التي يجب أخذها في الاعتبار، مثل ضمان نتائج مفيدة للطرفين، وبناء الثقة بين البلدان ومنع الحمائية التجارية. ومع ذلك، مع مزيد من التفاوض وتصميم الاتفاقات، يمكن معالجة هذه التحديات ويمكن أن تصبح اتفاقيات التجارة الحرة المشتركة في الخليج العربي حقيقة واقعة.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.