بعد مقاطعة العملية السياسية لأشهر، عاد “التيار الصدري” الذي يتزعمه رجل الدين الشيعي البارز مقتدى الصدر ليكسر صمته، وذلك في الوقت الذي يحاول فيه تحالف “الإطار التنسيقي” الذي يضم جميع الكتل الشيعية المقربة من إيران لتعديل قانون انتخابات مجالس المحافظات العراقية، الأمر الذي أنذر بعودة الاحتجاجات للشارع العراقي.

موقف “التيار الصدري” صدر بعد يوم واحد من إخفاق “مجلس النواب” العراقي، من القراءة الثانية لمشروع تعديل قانون الانتخابات، بعد اعتراض النواب المستقلين عليه ومقاطعة الجلسة، مما أدى إلى كسر النصاب القانوني لعقد البرلمان جلسته.

“الصدريون” الفائزون في الانتخابات الأخيرة التي أُجريت في تشرين الأول/أكتوبر 2021، بأكبر عدد من مقاعد البرلمان العراقي، كانوا قد انسحبوا من العملية السياسية بأمر زعيم التيار منتصف العام الماضي، على خلفية اعتراض غرمائه في تحالف “الإطار” على مشروعه لتشكيل الحكومة، وذلك قبل أن يقرر الصدر مقاطعة العملية السياسية بشكل نهائي في نهاية آب/أغسطس من العام ذاته، إثر تطور الصراع إلى حد المواجهات المسلحة، بعد أن اقتحم أنصاره البرلمان وعطّلوا أعماله، ومن ثم القصر الحكومي، احتجاجا على مرشح “الإطار” محمد شياع السوداني لمنصب رئاسة الحكومة.

في سياق عودة الاحتجاجات

بالمجمل مشهد ترك العراق يرزح تحت أزمة سياسية هي الأطول في تاريخه ما بعد العام 2003، حيث استمر تعطل تشكيل الحكومة لعام كامل على انتهاء الانتخابات المبكّرة، ولينفرج مع انسحاب “التيار الصدري” من المشهد السياسي، ومضي “الإطار” في تشكيل حكومة توافقية يرأسها السوداني، وكان العراقيون قد عبروا عن رفضهم لها بشكل قاطع. بيد أن البرنامج الحكومي تعهد بإجراء انتخابات مبكرة جديدة في غضون عام، بعد إجراء انتخابات مجالس المحافظات المعطلة منذ العام 2019، إثر إجبار المحتجين العراقيين آنذاك البرلمان على حل تلك المجالس، بدعوى تسببها في ترهل الدولة، وبوصفها إحدى أكبر مفاصل الفساد.

إن الأزمة السياسية التي نجم عنها مقاطعة الصدريون الفائزون في الانتخابات، وتشكيل الحكومة من قبل الخاسرين للحكومة وهي سابقة لم تحدث في العراق؛ كل ذلك كان سببه رفض “الإطار” لنتائج الانتخابات التي اتهمها بالتزوير والتلاعب، في حين وصفت مراكز مختصة ومراقبون الانتخابات الأخيرة بأنّها ربما تكون هي الأكثر سلامة من سابقاتها، على الرغم من ضعف المشاركة التي تعود أسبابها لرفض أغلب الشارع العراقي التصويت في ظل عدم توفر أجواء مناسبة للانتخابات، منها استمرار تأثير المال السياسي وانفلات السلاح.

اقرأ/ي أيضا: استراتيجية واشنطن الجديدة.. هل تنجح في تحجيم “فاغنر” بإفريقيا؟

قوى “الإطار” المقرّبة من إيران والتي تمتلك البعض منها ميليشيات مسلحة، حمّلت قانون الانتخابات أيضا جزءا كبيرا من تباين نتائج الانتخابات التي جاءت صادمة لهم، فمن كان يمتلك بحدود 20 مقعدا في الانتخابات السابقة، حصل في الانتخابات الأخيرة على مقعدين، بيد أنهم تجاهلوا مزاج السواد الأعظم من الشارع العراقي حينها الذي كان رافضا لهم بشكل قاطع، وهو ذاته الذي ضغط باتجاه تغيير قانون الانتخابات من خلال احتجاجات ما باتت تُعرف “بثورة تشرين” التي أجبرت وقتها أيضا حكومة عادل عبد المهدي على الاستقالة في تشرين الثاني/نوفمبر 2019.

آنذاك، كان العراق يعتمد في إجراء الانتخابات قانون “سانت ليغو”، وهي صيغة استُخدمت لأول مرة في الانتخابات البرلمانية عام 2014، وتم من خلال هذه الصيغة توزيع المقاعد النيابية في العراق، وكذلك انتخابات “مجالس المحافظات” للدورة نفسها، وكان من نتائجها أن حصلت القوائم الصغيرة على مقاعد في البرلمان العراقي و”مجالس المحافظات”، وولدت الفوضى والانقسام في الكتل والائتلافات السياسية، بسبب تذبذب مواقف هذه الكتل الصغيرة، وتبدل آرائها بين ليلة وضحاها تبعا لمصالحها السياسية.

نتيجة الفوضى الانتخابية التي تسبب بها “سانت ليغو”، وما أفرزه من نتائج غير عادلة، اندلعت احتجاجات عديدة رافضة للقانون، حتى بات أحد مسببات احتجاجات “تشرين” التي غيرت المشهد العراقي، وأجبرت البرلمان على إقرار قانون الدوائر المتعددة، لكن وعلى ما يبدو أن “الإطار” وحلفائه يسعون للعودة للقانون القديم، من خلال تعديل قانون انتخابات مجالس المحافظات التي كان رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني قد تعهد بإجرائها خلال 3 أشهر.

يأتي ذلك في الوقت الذي يحاول فيه “البرلمان العراقي” إنهاء القراءة الثانية لمشروع قانون انتخابات مجالس المحافظات، الذي يطرح أيضا لاستخدامه في الانتخابات التشريعية، ولكن مشروع القانون الجديد ظهر وفق نظام “سانت ليغو” القديم، الذي يُعتبر إلغاؤه سابقا أحد أبرز منجزات التظاهرات الشعبية العراقية.

بحسب تصريحات نيابية، فإن العمل يجري على دمج قانون “مجالس المحافظات” مع قانون انتخابات “مجلس النواب”، وذلك بعد تعديل 16 مادة في القانون، فضلا عن إلغاء الدوائر المتعددة والعودة إلى اعتبار كل محافظة دائرة وفق ما كان معتمدا في قانون “سانت ليغو”، الأمر الذي دفع “التيار الصدري” لكسر صمته السياسي.

موقف “التيار الصدري” من قانون “الإطار التنسيقي”

القيادي البارز في التيار حاكم الزاملي، أعلن الجمعة الماضي اعتراضه على تعديل قانون الانتخابات، ونشر على حسابه الرسمي في “فيسبوك”، مقطعا مصورا لعبد المهدي الكربلائي ممثل المرجعية الدينية التي يقودها المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، وكتب عليه لا للقائمة المغلقة، لا للدائرة الواحدة.

ما كتبه الزاملي، هو إشارة إلى حديث الكربلائي الذي يقول في المقطع المصوّر إن “رأي المرجعية الدينية هو لا للقائمة المغلقة ولا للدائرة الانتخابية الواحدة”، مضيفا أن “القائمة المغلقة تغلق الطريق أمام الناخبين لاختيار من يمثلهم في البرلمان”، في حين وصف النائب عن “الكتلة الصدرية” المستقيلة حيدر المنصوري، الأحزاب السياسية الماضية في تشريع القانون، بأنها “أحزاب سانت ليغو…”، متسائلا “هل تتوقعون من أحزاب السلطة الخاسرة أن تسنّ قانون انتخابات يسمح للمواطنين بإخضاع الفائزين للمساءلة عن طريق صناديق الاقتراع.

وسط هذه المعادلة، يشرح المحلل السياسي داود القيسي في حديث لموقع “الحل نت”، أن ما يلوّح به “التيار الصدري” حول محاولات العودة إلى قانون “سانت ليغو” من المحتمل جدا أن تشكل نافذة لعودة نزول التيار إلى الشارع، مبينا ما تفعله القوى السياسية غريب جدا، من حيث إصرارها على العودة لقانون “سانت ليغو”، والذي يمثل أولا تجاهلا لمشاعر ورغبات الجماهير العراقية التي ضغطت وضحت لإلغائه، فضلا لأنه سيوحد جميع الخصوم ضدهم.

اقرأ/ي أيضا: بعد 4 عقود.. ما دلالة استضافة بغداد لمؤتمر الاتحاد البرلماني العربي؟

القيسي أوضح، أن الشارع العراقي بمعظمه ناقم ورافض لقانون “سانت ليغو”، والقوى التي تحاول تشريعه، وذلك بالإضافة إلى رفض “التيار الصدري”، لذا فإن طرح هذه القضية في هذا التوقيت ستدفع الشارع المدني والصدريين إلى خلق جبهة معاوضة واحدة ضد “الإطار التنسيقي”، وذلك من خلال الاشتراك بالأهداف.

فيما لفت، إلى أنه من المحتمل جدا أن يعيد “الإطار” النظر في قانون الانتخابات ويتراجع عن مساعي تغييره بما لا يرضي “التيار الصدري”، في خطوة لعدم استفزازه، ولضمان استقرار حكومتهم التي شكلوها في ضوء عدم رضا الصدريين والاعتزال، خصوصا وأن القوى المدنية والتيار يعتقدون أن هذا القانون سيمثل استهداف لهم.

القيسي أشار كذلك، إلى أن نظام “سانت ليغو” أثبت فشله في الدورات الانتخابية السابقة، فضلا عن أنه يسمح للأحزاب المتنفذة بممارسة التزوير والتلاعب بالأصوات وسرقتها من الشعب، بالتالي إذا صوتت القوى السياسية داخل البرلمان على قانون الانتخابات وفق نظام الدائرة الواحدة لكل محافظة، فهذا يعني أننا مقبلون على استياء جماهيري كبير، سواء من “التيار الصدري” أو باقي فئات المجتمع التي ترفض التزوير بكل أنواعه والمحاصصة.

بما يخص “سانت ليغو”؛ فهي طريقة ابتُكرت عام 1912 على يد عالم الرياضيات الفرنسي أندرية “سانت ليغو”، والغاية من هذه الصيغة هي توزيع الأصوات على المقاعد الانتخابية في الدوائر متعددة المقاعد، وتقلل من العيوب الناتجة بين عدم التماثل في الأصوات وعدد المقاعد المتحصل عليها، وهو عيب تستفيد منه الأحزاب الكبيرة على حساب الكتل الصغيرة، أما “سانت ليغو” المعدل الغرض منه توزيع المقاعد بطريقة أكثر عدالة.

ما هو قانون “سانت ليغو”؟

آلية “سانت ليغو” في توزيع أصوات الناخبين بالدول التي تعمل بنظام التمثيل النسبي وتعتمد على تقسيم أصوات التحالفات على الرقم 1.4 تصاعديا، لكن في العراق اعتمد القاسم الانتخابي 1.6 وكان من سلبياته أنه أظهر الكثير من القوائم الانتخابية، التي لا حصر لها ولا عدد، وفي التطبيق العراقي لهذه الطريقة يتم تقسيم أصوات كل قائمة على متوالية الأعداد الفردية فقط “1.6، 3، 5، 7، 9، … “، ومن ثم یتم توزيع المقاعد حسب الترتيب التنازلي لنواتج القسمة، ثم یتم ترتیب تلك النواتج تنازليا، وتوزع المقاعد حسب بداية من أعلى رقم إلى أن ینتهي توزیع كل المقاعد.

هذه الآلية تسببت في صعود شخصيات لم تحصل على أصوات انتخابية تؤهلها إلى بلوغ “مجلس النواب”، وذلك من خلال ما يمكن أن يُضاف لها من أصوات الفائز الأكثر من ذات القائمة، فما إن يخسر مرشحا، حتى يتم تعويضه بأصوات مرشح آخر من قائمته.

لكن في أواخر عام 2019، أقرّ “مجلس النواب” قانون رقم 9 استجابة لمطالب المحتجين، والذي جاء مغايرا لما تم اعتماده في الانتخابات التشريعية الأربعة التي سبقت ذلك التشريع.

بموجب قانون 2019، تم تقسيم البلاد إلى 83 دائرة انتخابية على عدد مقاعد “كوتا” النساء في “مجلس النواب”، والذي يلزم الدستور بحصولهن على 25 بالمئة من المقاعد النيابية البالغ عددها 329 مقعدا، وبحسب مضامين ذلك القانون فإن ذلك يُعدّ تحوّلا في عملية حساب الأصوات والفوز للمرشحين؛ إذ إنه يحدد الفائز بأعلى الأصوات بدلا من اعتماد طرق حسابية معقّدة تجعل دخول المستقلين إلى “مجلس النواب” مهمة شبه مستحيلة.

كما باتت آلية احتساب الأصوات، تذهب مباشرة إلى المرشح، بدلا من القائمة مثل ما كان الحال في القوانين الانتخابية السابقة، وإضافة إلى الفائض منها لا يوزع على مرشحين في حزب ما، أو القائمة الانتخابية ذاتها، الأمر الذي سهل صعود نواب يمثلون أحزابهم وليس جمهورهم.

هذا وفي عام 2019 أيضا، صوت “البرلمان العراقي” على حل “مجالس المحافظات”، ضمن حزمة قرارات اتخذها لتنفيذ مطالب المحتّجين الذين اعتبروا تلك المجالس غير شرعية، بسبب انتهاء ولايتها من أربع سنوات، وتعذر تنظيم انتخابات جديدة، فضلا عن اتهامات لاحقت بعضها بالفساد.

على ما يبدو أن العراق بات أمام اختبار جديد، إما أن يفقد “الإطار التنسيقي” تفوقه الذي حققه في تشكيل الحكومة بعد أن كان خاسرا في الانتخابات، أو الاستمرار باسترضاء خصومه، أملا في الحفاظ على استقرار حكومته، لأن تحديات عودة الاحتجاجات سترسم مسارا سياسيا جديد في البلاد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.