على مدار السنوات العشرة الماضية، حاولت العديد من الدول حول العالم إحالة الوضع في سوريا إلى “محكمة الجنايات الدولية”، بدعوى ارتكاب انتهاكات جسيمة ضد حقوق الإنسان إضافة إلى انتهاك القانون الدولي، لكن هذه الجهود دائما ما كنت تواجَه بفيتو من قبل روسيا والصين، الأمر الذي أعاق تحويل ملف الانتهاكات إلى المحكمة الدولية.

بعد أن قررت هولندا رفع دعوى ضد سوريا أمام محكمة العدل الدولية عام 2020، يبدو أنها اليوم تسعى لاستكمال جهودها في إحالة ملف انتهاك القانون الدولي في سوريا إلى المحكمة، بعدما فشلت الجهود الدبلوماسية في إجبار دمشق على الامتثال للقوانين الدولية التي وقّعت عليها في وقت سابق، الأمر الذي يطرح التساؤلات حول جدوى هذه التحركات في محاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة في البلاد.

جهود هولندا في إحالة ملف خرق القانون الدولي في سوريا إلى المحاكم الدولية، تستمر على الرغم من إعلان روسيا قبل نحو ثلاث سنوات، أنها ستعيق أي جهود لإحالة قضايا تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا إلى “المحكمة الجنائية الدولية”، التي تحاكم الأفراد على جرائم الحرب ومقرها لاهاي، فهل ستكون هناك خطوات أخرى من شأنها تجاوز فيتو “مجلس الأمن”.

دعوة رسمية في المحكمة الدولية

محكمة العدل الدولي أعلنت الإثنين، أن كلا من هولندا وكندا رفعتا قضية على “الدولة السوريّة” بخصوص التعذيب والمعاملة اللاإنسانية في السجون، بناء على نطاق “اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”، حيث أن سوريا تعتبر جزءا من هذه الاتفاقية التي تم توقيعها عام 1984.

محكمة العدل الدولية (رويترز)

أهمية هذه الخطوة تأتي من كونها المرة الأولى التي يصل فيها ملف التعذيب في السجون السورية إلى “محكمة العدل الدولية، بعد الجهود الهولندية التي بدأت في أيلول/سبتمبر 2020، وانضمت لها كندا في عام 2021، لكن حتى الآن لا يمكن الجزم أن هذه الجهود ستؤدي فعلا لمحاسبة مرتكبي الجرائم، بسبب وجود فيتو يمنع أي قرار في “مجلس الأمن”.

دمشق كانت قد ردت على هذه الخطوة بالقول، إنه لا يحق لهولندا التعاطي مع ملفات حقوق الإنسان لديها، وأن ذلك الإجراء قفز فوق “الأمم المتحدة والقانون الدولي”، لكن تقارير حقوقية أكدت أن السلطات في سوريا أخدت الجهود الهولندية “على محمل الجد عبر تشكيل لجنة رفيعة المستوى لمتابعة هذه التحركات على المستوى الدولي”.

قد يهمك: “التطبيع” مع سوريا.. ورقة طويت بعد الاتفاق السعودي – الأميركي؟

كندا وهولندا طلبتا في الدعوى المرفوعة أمام المحكمة إعلان أن على سوريا الكف عن أي انتهاكات مستمرة لاتفاقية مناهضة التعذيب، ومحاكمة ومعاقبة جميع المسؤولين عن تعذيب المحتجزين لدى السلطات السورية، وتقديم تعويضات لضحاياهم.

جدوى هذه التحركات

المحامي الخبير في القانون الدولي بسام طبلية، رأى أن ثبوت الحكم في الدعوى التي قدمتها كلّ هولندا وكندا يمكن أن يؤدي إلى إحالة الملف إلى “مجلس الأمن”، لكنه استبعد في الوقت نفسه اتخاذ قرارات حاسمة في المجلس، مشيرا إلى أن حكم المحكمة يمكن أن يبقى “نقطة سوداء بحق سوريا”، خاصة وأن الموضوع يتعلق بانتهاكات جسيمة للقانون والاتفاقيات الدولية.

طبلية قال في حديث خاص مع “الحل نت”، “محكمة العدل الدولية هي المحكمة التي تنظر في النزاعات ما بين الدول أو قيام إحدى الدول بانتهاك معاهدات القانون الدولي، وهنا انتهكت سوريا معاهدة مناهضة التعذيب وكذلك معاهدة استخدام الأسلحة الكيميائية لمواجهة المدنيين، لذلك يحق للدول الموقّعة على ميثاق الأمم المتحدة بما فيها هولندا وكندا وسوريا، أن تطالب أو تقيم دعوة بمواجهة سوريا أمام محكمة العدل الدولية”.

فيما إذا صُدر حكم من المحكمة بتثبيت التّهم الموجهة لدمشق، فإن الملف سيكون على مناقشات “مجلس الأمن” الدولي، الذي يمكن أن يتخذ قرارات تحت الفصل السابع لتطبيق عقوبات عسكرية على سوريا، وهنا أوضح طبلية أن القرارات ستصطدم حتما بالفيتو الروسي.

حول الخطوات المجدية التي يمكن اتخاذها على المستوى الدولي بهذا الشأن، أشار طبلية إلى أنه بوجود الإرادة السياسية من قبل الدول الغربية والولايات المتحدة الأميركية، فيمكن تبني قرار من “الجمعية العامة للأمم المتحدة”، وذلك من خلال محاولات التوصل إلى قرار.

حول ذلك أضاف، “هذا أيضا مستبعد إلى حد ما، أنه يحتاج إلى موافقة الغالبية العظمى من الدول في الجمعية، لذلك النتيجة الحتمية لهذا الإعلان يبقى بعيد التنفيذ في الوقت الحالي نظرا لغياب الإرادة السياسية الحقيقية في إزاحة نظام الأسد وتجريمه، لكن وصول الملف إلى المحكمة الدولية، يُبقى الحكم نقطة سوداء في صحيفة سوريا وأيضا انتهاكا للقانون الدولي”

دعوة كل من هولندا وكندا، استندت على ما يبدو إلى شهادات سوريين ناجين من السجون السورية، حيث قال وزير الخارجية الهولندي فوبكه هويكسترا في بيان صدر في هذا الشأن، إن “مواطنين سوريين تعرضوا للتعذيب والقتل والاختفاء والهجوم بالغاز السام أو أجبروا على الفرار حفاظا على حياتهم وترك كل ما لديهم”.

كذلك فإن شهادات عديدة من معتقلين سوريين موثقة في المحاكم الدولية، تؤكد أن القوات الحكومية في سوريا دائما ما تستخدم أساليب التعذيب، بما في ذلك الضرب المبرح والصعق بالكهرباء وحرق أجزاء من الجسم وخلع الأظافر والأسنان والاغتصاب وغير ذلك من أشكال العنف الجنسي، فضلا عن الحرمان الممنهج من الطعام والماء والأدوية.

جهود سابقة

في إطار الجهود المتعلقة بملاحقة مرتكبي جرائم إنسانية في سوريا، كانت فرنسا أيضا قد أعلنت في نيسان/أبريل الماضي، عن بدء محاكمة ثلاثة مسؤولين سوريين أمام محكمة الجنايات الفرنسية، بتهمة التواطؤ في قتل مواطنين اثنين سوريين يحملان الجنسية الفرنسية، وهما مازن دباغ ونجله باتريك، اللذين اعتُقلا في سوريا عام 2013، فما تأثير القرار الفرنسي على عجلة التطبيع بين سوريا والدول العربية.

الأمر الفرنسي جاء عبر قاضيي تحقيق فرنسيَين، حيث طالبا بمحاكمة كل من اللواء علي مملوك رئيس “مكتب الأمن الوطني السوري” وهي أعلى هيئة مخابرات في سوريا، واللواء جميل الحسن رئيس إدارة المخابرات الجوية السورية، إلى جانب اللواء عبد السلام محمود رئيس فرع التحقيق في إدارة المخابرات الجوية الموجودة في مطار المزة العسكري.

القضاء الفرنسي يمكن له تحريك القضية تجاه المتّهمين، باعتبار أن الضحية تحمل الجنسية الفرنسية، خاصة وأن القاضي لديه أدلة توحي بتدخل واشتراك المتهمين الثلاثة بالجريمة المذكورة، الأمر الذي قد يُفضي إلى إصدار مذكرة اعتقال بحقهم لاحقا.

فرنسا لم تعلن عن أية تطورات منذ ذلك الوقت بما يخص القضية، لكن وفق مختصين حقوقيين، فإنه في حال إصدار مذكرة اعتقال من قبل المحاكم الفرنسية ضد المتهمين الثلاثة، فهذا يعني أن ذهاب أيّا منهم إلى دولة موقعة على معاهدة ثنائية مع فرنسا على أية معاهدة تتعلق بتسليم المجرمين للعدالة، سيعني بالضرورة إمكانية المطالبة باعتقالهم عبر الإنتربول الدولي.

الملاحقات القانونية ضد مرتكبي الجرائم في سوريا، كانت قد بدأت منذ سنوات، لا سيما ضمن الاتحاد الأوروبي، وفي منتصف العام 2018، أصدرت السلطات القضائية الألمانية مذكرة توقيف بحق جميل حسن، لارتكابه جرائم ضد الإنسانية، كما فُرضت عليه قبل ذلك عقوبات من الاتحاد الأوروبي.

العام الماضي حكم القضاء الألماني بالسجن مدى الحياة على الضابط السابق في المخابرات السورية أنور رسلان (58 عاما)، لإدانته بارتكاب جرائم ضد الإنسانية بختام أول محاكمة في العالم محورها فظائع منسوبة إلى شخصيات في أجهزة المخابرات السورية.

مع تقدم ملف التقارب العربي مع دمشق، يبدو أن العديد من الدول الأوروبية تسعى دائما للتذكير بملف حقوق الإنسان في سوريا، وذلك عبر إثارة قضايا الجرائم المرتكبة في البلاد، لكن يبقى التساؤل حول مدى جدوى الخطوات القادمة، وهل ستكمل هذه الدول مشوارها في ملاحقة ملفات جرائم حقوق الإنسان والانتهاكات الدولية في سوريا، والمسؤول عنها بشكل رئيسي القوات الحكومية في البلاد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات