مع دخول الغزو الروسي لأوكرانيا عامه الثاني، تثار عدة تساؤلات حول ما إذا كانت العقوبات الغربية المفروضة على موسكو قد بدأت تؤثر عميقا على الاقتصاد الروسي، كما جاء في تقرير صُدر حديثا عن صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، وترجمه موقع “الحل نت”، الذي أفاد من خلاله بوجود أزمة عمّالية في روسيا بعد فرار مئات الآلاف من العمال الروس من الغزو وآثاره وتداعياته، إضافة إلى إرسال العديد منهم إلى الخطوط الأمامية صوب أوكرانيا.

هذا يعني أن صمود الاقتصاد الروسي في مواجهة العقوبات المفروضة عليه منذ أكثر من عام يبدو هشا وشكليا فقط، إذ يبدو أن موسكو تواجه وضعا صعبا ومستقبلا غير آمن لاقتصادها رغم ادعائها بالتّكيف مع العقوبات الغربية المفروضة عليها نتيجة غزوها لكييف.

لذلك فإن هذا الأمر يفتح الباب أمام العديد من التساؤلات، والتي تتمحور حول إمكانية خلق أزمة عمّالية جديدة توسع إطار الأزمات الاقتصادية التي قد تعاني منها روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا، وكيف سيظهر تأثير هذه الأزمة على روسيا واقتصادها، إضافة إلى تأثيرها الحاسم في الحد من توسع الغزو الروسي لجارتها الغربية كييف.

فضلا عن مستقبل الاقتصاد الروسي خلال الفترة المقبلة، والذي يواجه المزيد من التحديات طالما الغزو الروسي لأوكرانيا مستمر، إلى جانب تداعياته على النمو الاقتصادي الروسي ومستوى وجودة الإنتاج.

مشاكل هيكلية سابقة

تقرير الصحيفة الأميركية الذي نُشر يوم أمس الخميس، أشار إلى أنه بعد فرار مئات الآلاف من العمال من البلاد أو إرسالهم إلى خطوط الجبهة الأمامية في غزوها لأوكرانيا، تواجه روسيا اليوم أسوأ أزمة عمّالية منذ عقود حيث أدى ذلك إلى إضعاف أسسها الاقتصادية المثقّلة بالعقوبات والعزلة الدولية.

روسيا تواجه اليوم أسوأ أزمة عمالية- “إنترنت”

كما أدى حشد ما يقارب من 300 ألف مقاتل، إضافة إلى أكبر موجتي هجرة واجهتهما روسيا العام الماضي منذ انهيار “الاتحاد السوفيتي” إلى تفاقم سوق العمل الضيقة مسبقا. وقد ترك ذلك الشركات الروسية مفتقرة إلى كل فئات العاملين من مبرمجين ومهندسين إلى عمال لحام وحفاري نفط وجميع المِهن اللازمة لتعزيز الاقتصاد ودعم المجهود الحربي في أوكرانيا.

الخبير الاقتصادي الدكتور محمد أنيس، يقول في هذا الصدد إنه في البداية لا بد من توضيح مقاربة كمثال على مدى ضعف الاقتصاد الروسي الذي هو وبشكل تقريبي مناظرٌ لاقتصاد كوريا الجنوبية على الرغم من الفارق الشاسع في الموارد الطبيعية والمساحة الجغرافية وعدد السكان، حيث إن روسيا هي أكبر بلد في العالم من حيث المساحة وتقدر بـ 17.100.000 كم مربع، بينما مساحة كوريا الجنوبية تقدر بـ 100.210 كم مربع، وعدد سكان كوريا الجنوبية أقل من روسيا وموارد الدولة الأولى الطبيعية تقريبا صفر، بينما الثانية غزيرة بالموارد الطبيعية، وفي النهاية إجمالي الناتج القومي للبلدين متقاربين تقريبا، وهذا يعني أن اقتصاد روسيا يحمل مشاكل هيكلية عدة.

الأمر الآخر بحسب ما قاله أنيس لموقع “الحل نت”، هو أن موسكو بشكل عام لديها مشكلة بنيوية كبيرة. على سبيل المثال، بعيدا عن معدل النمو السكاني السلبي خلال العشرين عاما الماضية، كانت هذه المشكلة الديموغرافية موجودة بشكل أساسي قبل الغزو، لكنها زادت بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. وهذه المعضلة بطبيعة الحال تؤثر بشكل عام على سوق العمل وتحد من قدرة الاقتصاد على النمو والتطور، نظرا لانخفاض طلب المستهلك التلقائي الروتيني نتيجة فشل موسكو في السيطرة على معدل النمو السكاني خلال السنوات الماضية.

بالتالي بروز هذه المعضلة مع الغزو الروسي لكييف، يعني أنها ستحمل معها آثارا سلبية جمّة على الاقتصاد الروسي وستظهر هذه الآثار في الفترة القادمة، ولا سيما من ناحية النمو الاقتصادي ومستوى الإنتاج، وفق تحليل أنيس.

بالاستناد إلى أن طبيعة الاقتصاد الروسي يعتمد على صادرات النفط بالدرجة الأولى، ومن ثم صادرات الحبوب وتاليا بعض الصناعات الميكانيكية المحلية التي تلبي السوق المحلي، إضافة إلى صادرات السلاح، الأمر الذي يدلل بأنها تعتمد على الموارد الطبيعية في المقام الأول، وبالتالي فإنه بعد غزوها لجارتها الغربية، فقد تم عزل اقتصادها عن الاقتصاد العالمي، نتيجة العقوبات الغربية، حسبما يقول أنيس.

التوجه نحو المجهول!

لطالما كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يردد على مدى عام أن العقوبات الدولية غير مجدية وتنعكس سلبا على الغربيين أكثر منها على بلاده، مشددا على تعزيز السيادة الاقتصادية واستحداث المزيد من الفرص لروسيا.

غير أنه بدّل نبرته فجأة في نهاية آذار/مارس الماضي، محذرا من العواقب السلبية للعقوبات على المدى المتوسط، مقرّا بأنه لا تزال هناك مشكلات ينبغي حلها، وهو ما يعني أن الاقتصاد الروسي بالفعل بدأ يدخل في طور الشلل.

بالعودة إلى تقرير الصحيفة الأميركية، فعلى أمل الحد من تفاقم الأزمة العمّالية، أمر بوتين، الشهر الماضي مسؤوليه باتخاذ تدابير جديدة تشمل الحوافز المالية والاجتماعية غير المحددة. وكانت الحكومة قد عرضت في وقت سابق إعفاءات ضريبية وقروضا أرخص ورهونات عقارية تفضيلية لإغراء عمّال التكنولوجيا بالبقاء.

“وزارة المالية الروسية” كشفت النقاب عن مقترحات لفرض ضرائب على مئات الآلاف من الروس الذين فرّوا مع بدء الحرب، إلا أنهم احتفظوا بوظائفهم في روسيا عن بُعد واستمروا بشغلها من أماكن مثل تركيا وأرمينيا وآسيا الوسطى. وبالرغم من عدم إصدار مثل هذه القوانين، إلا أن بعض المشرّعين الروس هددوا بمصادرة ممتلكات الروس الذين غادروا البلاد.

في الربع الأول من هذا العام، وبحسب مسح أجراه “البنك المركزي الروسي”، أبلغت الشركات الروسية عن أكبر نقص في عدد الموظفين منذ بدء جمع البيانات في عام 1998. فقد انخفض عدد الموظفين الذين تقل أعمارهم عن 35 عاما في روسيا في نهاية العام الماضي بمقدار 1.3 مليون إلى أدنى مستوى له منذ أوائل التسعينيات، وفقا لتحليل أجرته شركة الاستشارات “فين إكسبيرتيزا”. ووصل معدل البطالة في روسيا إلى أدنى مستوى له بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في أيار/مايو الماضي.

الاقتصاد الروسي بدأ يدخل مرحلة الشلل- “إنترنت”

“إلى جانب العقوبات، تشكل خسارة الموارد البشرية كارثة بالنسبة للاقتصاد”، قال الخبير الاقتصادي في “معهد فيينا” للدراسات الاقتصادية الدولية فاسيلي أستروف، إن “تأثير خسارة القوى العاملة ذات الخبرات وأصحاب الشهادات على الإمكانات الاقتصادية للبلاد سوف يستمر لسنوات”.

أما من جانبه أنيس، فإنه يرى أنه بالنظر إلى أن روسيا مصنفة ضمن الدول المتخلفة عن سداد ديونها الخارجية، بجانب أمر آخر، وهو اضطرارها لبيع مواردها الطاقية بسعر أقل وبعملات غير متداولة دوليا، مثل البيع لدولة الهند وبالعملة الهندية، فإن اقتصادها في خطر كبير وسينحدر نحو الحاوية شيئا فشيئا، وسيعاني بشدة، والتأثيرات ستكون هيكلية مستدامة وممتدة المفعول وليست آنية، ولذلك يبدو حتى اليوم أنها صامدة نوعا ما، ولكن مع الفترات القادمة سوف يظهر مدى شلل اقتصادها وهو ما سينتج عنه تداعيات سلبية جمّة.

مما لا شك فيه أن العقوبات الغربية أثّرت على الاقتصاد الروسي بشكل كبير وليس كما تتدعي موسكو. وهذه العقوبات التي زادت عن 14 ألف عقوبة شملت جميع أنشطة الاقتصاد الروسي، من بنوك وشركات ومجال الطاقة والصادرات والتكنولوجيا والصناعات العسكرية والمدنية الروسية، فكل ذلك استهدف انهيار القاعدة الصناعية الروسية، فاليوم هناك 12 دولة أوروبية تضغط على 40 دولة أخرى لتشديد العقوبات على روسيا.

وسط نفي موسكو وإصدارها لإحصائيات تشير إلى صمود الاقتصاد في مواجهة العقوبات الغربية، لا يصدق الغرب والولايات المتحدة الأميركية ويشككون في الإحصائيات الرسمية الصادرة عن روسيا، ويعتبرونها مسألة دعاية وبروباغندا وليس إلا.

تدعيما لفرضية دخول الاقتصاد الروسي في دوامة قاتمة، تخلفت روسيا عن سداد ديونها السيادية بالعملة الأجنبية للمرة الأولى منذ قرن، وتم تداول سندات “اليوروبوند” في البلاد عند مستويات مأساوية منذ بداية شهر آذار/مارس الفائت، وظلت الاحتياطيات الأجنبية لـ”البنك المركزي الروسي” مجمدة، وتم فصل أكبر البنوك عن النظام المالي العالمي، وفقا لما ذكرته “بلومبيرغ”، مؤخرا.

المتابع لـ”بورصة موسكو” خلال العام المنصرم من الغزو الروسي لأوكرانيا، سيقول إن انتعاش الفرصة مازال بعيد المنال بسبب العقوبات الغربية، حيث تم نزوح العديد من المستثمرين من السوق الروسية وكذلك الشركات الكبرى، ما جعل الأسهم الروسية الأسوأ أداءً في العالم خلال العام الماضي، وفق تحليل الخبراء.

تداعيات نقص العمالية

أما بالنسبة للتأثيرات على القوى العاملة، فإن البلاد تشهد موجة ضخمة من الهجرة والنزوح، وقد ظهر ذلك خلال الهجرات الجماعية والاصطفاف على المنافذ الحدودية الروسية مع الدول الأخرى منذ أولى أسابيع الغزو الروسي لأوكرانيا، ومن ثم إعلان بوتين، تعبئة جزئية للجيش، والتي هي الأولى منذ الحرب العالمية الثانية.

تاليا عند إصدار بوتين مرسوما حول التجنيد الإجباري في صفوف الجيش الروسي، أواخر آذار/ مارس الفائت، والذي بموجبه تم استدعاء 147 ألف شخص ممن يستوفون متطلبات قانون الخدمة العسكرية، طبقا لأنيس.

منذ فترة ويسعى “الكرملين” لتجنيد 400 ألف مجند بالتعاقد، العام الجاري، للقتال في أوكرانيا، في الوقت الذي دخل فيه بوتين لمعركة طويلة، وفق أشخاص مطلعين على الخطة. فموافقة بوتين على هدف لزيادة عدد الجيش الروسي إلى 1.5 مليون من 1.15 مليون، هدف قد لا يتحقق قبل 2026، وفق بعض التقديرات.

بطبيعة الحال هذا الأمر أثّر بشكل كبير على سوق العمل في روسيا، وأرقام “البنك المركزي” الروسي، يرجّح أن تكون مخففة وغير حقيقية. بل أن الأرقام أكبر من ذلك بكثير وفق ما يراه أنيس، نظرا لأن موسكو منذ فرض العقوبات الغربية عليها، تحاول أن تدّعي بأن اقتصادها صامد وأن الشعب الروسي محافظ على مقاومته.

تأثير نقص رأس المال البشري في روسيا سيتضاعف خلال الفترة المقبلة، حتى لو نفت موسكو هذه الآثار الحساسة، بالنظر إلى أن التغيير الديموغرافي له تداعيات سياسية واستراتيجية خطيرة.

الخبير الاقتصادي، الدكتور محمد أنيس

هذا فضلا عن أن العمالة لن تقبل أن تقبض بالروبل الروسي، وإن قبلت فستحول الروبل إلى الدولار الأميركي ومن ثم تحويل أموالهم خارج روسيا، بالتالي هذه العمالة ستؤدي إلى نزوح الموارد المالية وبالعملة الدولية خارج الاقتصاد الروسي، بينما إنتاجهم في الأساس استهلاك محلي، بمعنى أنهم لن ينتجوا عملة دولية وسيستهلكون عملة دولية، يضيف أنيس.

من جانبه حذر “البنك المركزي الروسي” من أن ارتفاع الأجور يؤدي بالضرورة إلى ارتفاع التضخم. فالعوز في صفوف العمال يتقاطع مع الاقتصاد. حيث تضطر الشركات التي تتنافس على مجموعة أصغر من الموظفين المتاحين إلى رفع أجور موظفيها، الأمر الذي يضر بالمقابل بأرباحها ويعرض خط استثمارها للخطر.

فمنذ انتشار جائحة “كوفيد-19″، أضر نقص العمالة كثيرا بالاقتصاد العالمي ما أدى إلى ارتفاع سريع في الأجور وتضخم يصعب احتوائه. إلا أن مشاكل روسيا الاقتصادية جاءت مدفوعة بعوامل محلية.

بعض الخبراء يقولون إن العثور على موظفين ذوي خبرة بات أمرا أكثر صعوبة. وهذا الوضع يؤدي بالضرورة إلى انخفاض إنتاجية الشركات ككل. كما أنه يعرقل عملية التحول الهيكلي في الاقتصاد الروسي.

الروبل الروسي- “إنترنت”

هذه الوقعة ستحمل معها تأثيرات هيكلية سلبية جمّة على الاقتصاد الروسي وستكون مستمرة ومستدامة طالما أسبابها قائمة، والتي تتمحور حول استمرار روسيا في غزوها ضد أوكرانيا، وحتى لو أُزيلت هذه الأسباب، فستبقى هذه المشكلة الديموغرافية قائمة لفترة طويلة والتي هي في الأساس موجودة قبل الغزو، وإنما الغزو أجّج وعمّق من فجوة هذه المعضلة الكارثية، وهو ما يعني أن روسيا ستكون في منتصف دوامة نقص المستهلكين والمنتجين لسنوات طويلة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات