وسط الواقعية القاسية الذي يعيشها الشعب السوري، تظهر أحداث مروعة تهز الحكومة السورية بقيادة حسين عرنوس وتعصف بسلطته؛ إنها موجة غير مسبوقة من الاستقالات تطال المعلمين والموظفين الحكوميين، بعد أن  تفاقمت معاناتهم في التنقل من قراهم إلى المدينة دون توفر لوسائل النقل.

إن مشهد الأساتذة الذين يعجزون عن دفع هذه الأجور المرتفعة للنقل ذهابا وإيابا يدق ناقوس الخطر، فهو يكشف عن حجم الأزمة التي تعانيها الحكومة السورية. فلا يمكن تجاهل الآثار الكارثية لهذه الاستقالات المتسارعة على الحكومة، وتكشف عن غضب جماهيري لا يُمكن إخماده.

ضعف الرواتب يفرغ المدارس الحكومية من المدرسين

في حديثها أمس الثلاثاء، كشفت رئيسة الشؤون القانونية في مديرية التربية بالسويداء، أماني العريضة، ازدياد بشكل ملحوظ لطلبات الاستقالة في القطاع التربوي، حيث يوجد مئات الموجهين والمدرسين وحتى المستخدمين الذين قدموا هذه الطلبات. وقد تم الموافقة على أكثر من 300 طلب استقالة، بما في ذلك 70 حالة تقاعد وإنهاء الخدمة، والعديد من الحالات التي تصنف كمستقيلين.

دائرة السجل العام للعاملين في الدولة - إنترنت
دائرة السجل العام للعاملين في الدولة – إنترنت

طبقا لما ذكرته العريضة لصحيفة “الوطن” المحلية، فقد قدم المدرسون بعض الطلبات بعد أخذ إجازات أو طلبات استدعاء خارج البلاد وانتهت المدة المطلوبة ولم يعودوا للعمل. وهناك أيضا الذين قدموا طلبات الاستقالة ولم يحصلوا على الموافقة وانقطعوا عن العمل التدريسي أو الإداري لفترة تتجاوز الـ 15 يوما متواصلة أو الـ 30 يوما متقطعة.

أحد الموجهين التربويين الذي يعتبر نفسه “بحكم المستقيل”، أكد أن السبب الرئيسي وراء هذه الاستقالات هو البحث عن فرص عمل أخرى ذات جدوى مالية يكمن في استمرار تجاهل القطاع التربوي والتعاطي معه بالأساليب والمنهجيات القديمة. 

كما لفت أيضا إلى اتجاه العديد من المعلمين للعمل في المدارس الخاصة، حيث تتوفر فرص مالية أفضل، إذ تتراوح الرواتب في المدارس الافتراضية بين 400 ألف ليرة ومليون ليرة. وهناك 13 مدرسة افتراضية معتمدة ومدرستان قيد الترخيص في المحافظة.

هذه المدارس الافتراضية تعدّ ملاذا لمعظم المدرسين، وخاصة أولئك ذوي الاختصاصات العلمية. وهذا يعني أن المدارس الحكومية هي الخاسر الأكبر بعد فقدانها لهذه الكوادر. وبالإضافة إلى ذلك، يعاني التلاميذ أيضا من فقدان هؤلاء المعلمين، حيث ينتقلون إلى المدارس الخاصة.

هذا الواقع بشكل قاطع يؤكد أن عملية التعليم باتت في طريقها نحو الخصخصة، وإذا لم يتم إعادة النظر في القرارات الحالية واتخاذ إصلاحات جذرية ترفع وتحسّن واقع التعليم وظروف المعلمين، فإن النتيجة ستكون كارثية لقطاع التعليم الحكومي.

تسرّب كبير لموظفي الحكومة

أحد الموجهين التربويين في إدارة الشؤون القانونية بمديرية التربية في السويداء، كشف عن معاناة الكثير من الموجهين والمدرسين من تحمل أعباء الأجور المرتفعة للنقل وانخفاض الرواتب والحوافز. ونتيجة لذلك، قدم العديد منهم استقالاتهم في وقت سابق وينتظرون قرار الموافقة عليها، فمن بين سبعة موجهين قدموا طلبات الاستقالة في الشهر الحالي، كان هو أحدهم.

نقص في كوادر المؤسسات السورية بسبب الاستقالات - إنترنت
نقص في كوادر المؤسسات السورية بسبب الاستقالات – إنترنت

وأوضح الموجه التربوي أنه بعد خدمة دامت 28 عاما في مجال التدريس والتوجيه، أصبح عاجزا عن تحمّل تكاليف النقل للوصول إلى مراكز الامتحانات أو التنقل بينها. وأشار إلى أن وزير التربية أشار في قراره الأخير إلى أن مَن لا يلتحق بمراكز الامتحانات، سواء كانت للمراقبة أو التصحيح، لن يحصل على أجره، وتعتبر هذه الفترة إجازة بدون راتب. وفي الواقع، لا يعتبر هذا الأمر خسارة للمعلم، حيث سيذهب راتبه في حال تلقيه للتنقلات.

بمعنى آخر، يعتبر الحصول على الراتب واحدا من التكاليف العديدة للمعلمين في هذه الفترة. وبالتالي، يعاني المعلمون من تحمل تكاليف التنقل دون تعويض مالي مناسب، مما يضعهم في موقف صعب ويؤثر على استقرارهم المالي وحياتهم اليومية.

ليس قطاع التعليم في سوريا من يشهد حملة استقالات، بل إن القطاع العام في المحافظات السورية شهد زيادة ملحوظة في ظاهرة استقالة الموظفين قبل بلوغ سنّ التقاعد، ولاسيما في القطاع الصحي، ويشكل هذا التسرب الكبير تهديدا لإفراغ القطاع العام من قوته العاملة.

وصل عدد العمال الذين تسربوا من المؤسسات الخدمية في جنوب سوريا إلى 400 عامل، منهم أكثر من 111 عامل في قطاع الصحة فقط، منذ بداية العام الحالي وحتى نهاية نيسان/أبريل الماضي. ويُرجّح أن هذه الأرقام لا تشمل استقالات العاملين في القطاع التربوي التي قد تكون مماثلة أو أكثر منها.

هذه الأرقام تعتبر مؤشرا خطيرا، حيث متوسط الاستقالات هو 100 موظف شهريا، وهو أمر يهدد بإفراغ البلاد من القوى العاملة. في حين تشير المعلومات إلى أن أجور التنقل التي تستحوذ على النصيب الأكبر من الرواتب هو السبب الأبرز للاستقالة، مما يعزز الحاجة الملحّة لزيادة قيمة الرواتب والأجور بما يتناسب مع تكاليف المعيشة.

عدد كبير من الموظفين يعتقدون أن الجلوس في المنزل والاعتماد على رواتب التقاعد المبكرة سيكون أكثر ربحا من الذهاب للعمل يوميا، خصوصا بعد تصريح رئيس لجنة الموازنة في “مجلس الشعب”، ربيع قلعجي، مؤخرا بأن الزلزال هو السبب وراء تعليق زيادة الرواتب حاليا، مشيرا إلى أنّه تم تخصيص مبلغ كبير يتناسب مع سعر الصرف في ميزانية عام 2023، ولكن تغير سعر الصرف أدى إلى تقليص حجم هذا المبلغ المخصص للتعامل مع آثار الزلزال.

الاستقالة من الوظيفة الحكومية ممنوعة

عقب جملة الاستقالات التي حدثت مؤخرا، صدر تعميم من سامر فارس الخطيب، مدير التنمية الإدارية في وزارة التربية السورية، إلى مديريات التربية في 8 يونيو/حزيران الحالي، حيث نص التعميم على عدم قبول طلبات الاستقالة وعدم إحالة طلبات استقالة الفئة الأولى إلى الإدارة المركزية. 

نقص في كوادر المؤسسات السورية بسبب الاستقالات - إنترنت
نقص في كوادر المؤسسات السورية بسبب الاستقالات – إنترنت

تم إصدار التعميم بناء على توجيه من وزير التربية، استنادا إلى بلاغ رئاسة مجلس الوزراء الصادر في 10 فبراير/شباط الماضي، المتعلق بالموافقات الأمنية لبعض الأنشطة والمعاملات للموظفين الحكوميين.

على الرغم من أن التعميم استثنى بعض الحالات من الفئة الأولى، مثل الأشخاص الذين يعملون لأكثر من ثلاثين عاما، والذين حصلوا على إجازة سنوية بلا راتب لمدة سنتين متتاليتين، والعاملين الذين يعانون من حالات صحية تمنعهم من مزاولة عملهم، وحالات لم الشمل والانضمام إلى الشريك، فإن معظم الأشخاص الذين يتقدمون بطلبات استقالة من هذه الحالات يتعرضون للتحقيق من قبل الفروع الأمنية، وعادة ما تستغرق إجراءات الاستقالة فترة تتراوح بين عام وعامين.

القانون السوري يعاقب بالسجن من ثلاث سنوات إلى خمس سنوات، وبغرامة لا تقل عن الراتب الشهري مع التعويضات لمدة سنة كاملة، كل من يترك عمله أو ينقطع من العاملين في الوزارات أو الإدارات أو المؤسسات أو الهيئات العامة أو البلديات أو المؤسسات البلدية، أو أي جهة من جهات القطاع العام أو المشترك قبل صدور الصك القاضي بقبول استقالته.

في كانون الأول/ديسمبر 2022، نقلت وسائل إعلام محلية عن موظفة في مديرية تربية درعا أن المديرية تستقبل في اليوم الواحد أكثر من 10 طلبات استقالة، وأن جميعها يُقابَل بالرفض بسبب عدم وجود بديل، وأكدت أن أعداد المعلمين والمعلمات الذين يقدّمون طلبات استقالاتهم فاقت 200 خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. 

في المقابل، يحذر مسؤولون في العاصمة دمشق وريفها من انهيار مؤسسات القطاع العام بسبب الاستقالات، بالإضافة إلى هجرة أعداد كبيرة من الموظفين من دون تقديم الاستقالة هربا من الالتحاق بالخدمة العسكرية. 

في ظل هذا الواقع المأساوي، تتصاعد حجم الاستقالات التي تشكل ضربة قوية لحكومة حسين عرنوس، فلا يمكن تجاهل أن هذه الاستقالات تعكس غضب واستياء العديد من المعلمين والموظفين الحكوميين، الذين يعانون من ظروف قاسية ومعاناة متواصلة.

القضية الأساسية التي أدت إلى هذه الموجة الكبيرة من الاستقالات هي صعوبة التنقل وغياب وسائل النقل العام الكافية، بالإضافة إلى ذلك، تفتقر الحكومة السورية إلى توفير الدعم الكافي للمعلمين والموظفين الحكوميين بعد عملية رفع الدعم التي طالت نصف مليون عائلة سورية، وهذا يعزز مشاعر الإحباط واليأس بين العاملين في القطاع الحكومي ويدفعهم نحو اتخاذ قرارات الاستقالة كوسيلة للتعبير عن احتجاجهم ورفضهم للوضع الحالي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة