تعيش الأسواق السورية ارتباكا حقيقيا، إذ تزداد حدة تقلبات الأسعار وبشكل متصاعد خلال الفترة الماضية. وعلى الرغم من الوعود الحكومية المتكررة بتحسين واقع الليرة السورية إلا أنه لم تطرأ أية آثار إيجابية ملموسة، بل فقدت الليرة أكثر من 65 بالمئة من قيمتها خلال الأيام العشرة الفائتة، ويبدو جليا أن الاقتصاد المنهار دخل في مسار مظلم، وليس ثمة أية حلول تلوح في الأفق.

المثير في هذه المعضلة، أن الارتفاع الكبير في أسعار الصرف خلال الأيام الماضية، وما رافقه من ارتفاع غير مسبوق في أسعار جميع المواد الغذائية والمستلزمات المنزلية بشكل عام، دفع بعض أصحاب المحلات التجارية إلى رفض التعامل بالأوراق النقدية من فئة 100 و200 ليرة سورية، مستغلّين بذلك حالة التضخم الرهيبة التي تتصاعد كل يوم في البلاد.

100 ليرة صارت “فراطة”

رفض التعامل بالأوراق النقدية من فئة الـ 100-200 ليرة من قِبل بعض التجار وأصحاب المحال، أثار استياء وتذمر الكثير من المواطنين، كون ذلك سيشرّع الأبواب أمامهم لاحتساب الكسور لصالحهم، وسيُبقي ذلك هذه العملة التي بحوزتهم دون أي فائدة مادية، وفق ما أورده موقع “غلوبال نيوز” المحلي يوم أمس الثلاثاء.

100 و200 ليرة صاروا فراطة- “إنترنت”

على سبيل المثال كيلو البطاطا في أسواق السويداء مسعّر بـ 2600 ليرة، إلا أن البائعين يتقاضون 3000 ليرة، بذريعة عدم توافر ” فراطة” لديهم من جراء رفضها كذلك من تجار الجملة، وقس على ذلك تسعيرة كل المواد. ولسان حال المواطنين يسأل ما فائدة الكسور بأي تسعيرة ما دام تجار الجملة والمفرق يرفضون التعامل بها.

بعض أصحاب المحال التجارية برّروا رفضهم لهذه العملة بعدم رغبتهم تكديسها لديهم كون معظمها بات قديما، وتوجد صعوبة باستبدالها لدى “البنك المركزي السوري”.

أحد سكان العاصمة دمشق، قال في اتصال هاتفي لموقع “الحل نت”، إن معظم أصحاب المحال التجارية يرفضون التعامل بالعملات النقدية من فئة 100 أو 200 ليرة سورية، ويعتبرون أن قيمتها لا تساوي شيئا اليوم، إذ لا تشتري فيها حتى قطعة “بسكويت أو علكة”.

وأضاف المواطن نفسه في حديثه، “عندما أذهب لشراء شيء مثل الشاي الفرط أو بذور عباد الشمس، يقول صاحب المحل إن سعره بضعة آلاف وكسور، وسوف يزيد الكمية حتى لا تحتوي الفاتورة على كسور وفراطات، وبالتالي يزيد مبيعاته هنا، بحجة عدم توافر فئات نقدية من قيمة 100-200 ليرة”.

كما وأشار إلى أن أصحاب سيارات الأجرة “التكاسي” و”السرافيس” أيضا، بحجة عدم وجود فراطة لديهم، لا يعيدون باقي حساب الراكب سواء بقي 100 أو 200 أو أحيانا 400 ليرة لديهم، والمواطن الذي يكون مستعجلا لا يمكنه الانتظار حتى يعيد له السائق  العملة التي يبدو أنها أصبحت بالفعل دون قيمة. وهكذا يتم استغلال جيب المواطن دون حسيب أو رقيب.

مؤشرات خطيرة

في هذا الصدد اكتفى مدير “التجارة الداخلية وحماية المستهلك” في محافظة السويداء علاء مهنا، للموقع المحلي بالقول إن أي صاحب محل يرفض التعامل بهذه الأوراق النقدية، ما على الزبون أو المتسوّق سوى تنظيم ضبط لدى أقرب مخفر شرطة، ومتابعة الموضوع بعدها مع المصرف التجاري أو مديرية المالية، كون مديريات التجارة الداخلية وحماية المستهلك لا علاقة لها بذلك، لافتا إلى أن عدم قبول هذه العملة لا يجوز قانونا.

البعض يرى أن تداعيات عدم التعامل مع الفئات النقدية التي تُعتبر صغيرة من وجهة نظر المتداولين مؤشر خطير جدا، وهذا يعني أن الأسعار سترتفع تباعا لاستغلال هذه الثغرات، ومستوى التضخم سيرتفع يوما بعد يوم. وقد تختفي فئة 100-200 من التعاملات قريبا، مثلما اختفت الفئات التالية “10-25-50 ليرة سورية” تقريبا من تداول السوق.

خلال الفترة الماضية انهارت الليرة السورية حتى وصلت لأكثر من 12 ألف ليرة سورية، وراتب الموظف الحكومي في سوريا بات يبلغ اليوم نحو 11 دولارا، أي نحو 150 ألف ليرة سورية، وهو ما سيزيد من الأعباء الاقتصادية على عموم المواطنين.

خلال الفترة الماضية، أعلن “المركزي السوري” عن إصدار فئة نقدية جديدة بقيمة 5000 ليرة سورية، وهذا الإعلان يعكس عدم التزام الحكومة السورية بتحسين الوضع الاقتصادي والنقدي في البلاد، ويشكل خطوة نحو عدم إعادة الثقة في العملة المحلية.

منذ فترة طويلة، تعاني سوريا من تضخم اقتصادي مدمر، وتراجع قيمة العملة المحلية بشكل ملحوظ. كانت الأوراق النقدية ذات القيمة الصغيرة لا تكفي لتلبية احتياجات المواطنين، وكانت الصعوبات المالية تكاد لا تحتمل. ومع ذلك، فإن الإعلان عن فئة نقدية جديدة بقيمة 5000 ليرة سورية يأتي ليثبت هذا المشهد.

الأمر في سوريا يتعلق بترابط وثيق بين التضخم وضعف العملة؛ فعندما يحدث تضخم في الاقتصاد، يزداد إصدار النقود بشكل متسارع، وبالتالي يزيد العرض النقدي في السوق. ومع زيادة العرض، تنخفض قيمة العملة نسبيا بالمقارنة مع السلع والخدمات المتوفرة، وهذا يؤدي إلى انخفاض قدرة الشراء للمواطنين وتدهور القدرة التنافسية للبلاد على المستوى الدولي.

في إعلان صُدر أواخر حزيران/يونيو الماضي، أعلن “المركزي السوري” عن وضع أوراق نقدية من فئة 5000 ليرة سورية، إصدار عام 1444ه‍ – 2023م في التداول تحمل ذات التصميم المتداول حاليا، لكن مع اختلاف بحجم رقم الفئة الموجود على الوجه الأمامي للورقة النقدية.

“المركزي” في بيانه المتأخر، بيّن أنه تمت الاستعاضة عن ميزة التخريم المجهري لرقم 5000 بطباعة نافرة لرقم 5000 بما يضمن تعزيز المزايا الأمنية للورقة النقدية، كما تم الاحتفاظ بباقي المواصفات الأمنية دون تعديل.

مع استمرار هبوط قيمة الليرة، وفي إجراء متوقع كان “المركزي السوري” قد طرح في كانون الثاني/يناير 2021 لأول مرة لتداول أوراقا نقدية من فئة 5000 ليرة هي الأكبر حتى الآن، وكانت هذه هي المرة الثالثة التي يطرح فيها “المركزي السوري”، أوراقا مالية لمواجهة التضخم خلال السنوات الخمس الأخيرة، وحسب تقارير اقتصادية دولية، بلغ معدل التضخم 263.64 بالمئة في سوريا عام 2020.

“المئة ليرة كانت تشتري لحمة”

بحسب ”المكتب المركزي للإحصاء”، ارتفع معدل التضخم بنسبة تقشعر لها الأبدان وصلت إلى 3825 بالمئة بين عامي 2011 و2021، تاركا وراءه سلسلة من الشعور بالقلق واليأس بين المواطنين. وهذه الزيادة التي لا يمكن تصورها تشير إلى أن الأسعار قد ارتفعت بشكل كبير 40 مرة، مما ترك الناس العاديين يصارعون قبضة الضغوط المالية الخانقة.

للتعمّق أكثر في هاوية الفوضى المالية، أصدرت “وزارة المالية السورية” إعلانا ينذر بالخطر، مؤكدة أن التضخم قد خرج عن نطاق السيطرة، حيث ارتفع بنسبة 100 بالمئة في العام الماضي وحده، وهذا يعني أن الأسعار تضاعفت 161 مرة منذ عام 2011.

بالتالي مع تفاقم الأزمة الاقتصادية يوما بعد يوم في سوريا، واستمرار ارتفاع معدلات التضخم في البلاد، فضلا عن انهيار الليرة السورية مقابل النقد الأجنبي، وعجز حكومة دمشق في حلحلة الأزمات، الأمر الذي حوّل قيمة رواتب ومداخيل السوريين بشكل عام في البلاد إلى أدنى المستويات. لدرجة أن راتب الموظف الحكومي اليوم لا يخوّله شراء 100 غرام من اللحوم يوميا، ولا حتى أسبوعيا.

أظهر تقرير أن الحد الأدنى للأجور للعمال السوريين في الوقت الحاضر، يقل 13 مرة عن أجرهم في خمسينيات القرن الماضي، عندما كان العامل قادرا على شراء أكثر من 30 كيلوغراما من لحم الغنم شهريا. وذكرت صحيفة “قاسيون” المحلية، في تقرير سابق، إن الحد الأدنى للأجر اليومي للعامل السوري آنذاك كان يستطيع شراء 1 كيلوغرام من لحم غنم يوميا.

قبل عام 2011، كان المواطن السوري يشتري فروجة كاملة بـ 125 ليرة سورية فقط وأحيانا أقل، وراتبه كان يصل لنحو 15 ألف ليرة سورية، وكان نصف كيلو بذور عباد الشمس بـ 15 ليرة، إلا أن اليوم باتت كل هذه الفئات النقدية وحتى فئة الـ 200 ليرة التي كانت كافية لشراء مستلزمات طبخة كاملة قبل عام 2011، باتت اليوم تعتبر كسور وفراطات ولا قيمة لها، وهو ما يعني أن التضخم بات يشكل كابوسا يثقل صدور السوريين بعد أن انعكس على الأسعار.

لذلك، في خضم كل هذه الأسعار المرتفعة ومعدلات التضخم المرتفعة التي تجاوزت 800 بالمئة مقارنة بعام 2010، من الضروري رفع قيمة الرواتب والأجور بحيث تصبح متوافقة مع الظروف المعيشية في سوريا اليوم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات