في زمن الأزمات والصعوبات، يبحث الإنسان عن طرق للتخفيف من ضغوط الحياة والتمتع ببعض المِتع واللذات. ومن بين هذه الطرق، تبرز في سوريا تجربة تناول الطعام في المطاعم الفخمة، التي توفر للزبائن جوا راقيا وأطعمة شهية وخدمة مميزة. هذه التجربة تُعد أكثر من مجرد تلبية لحاجة بدنية، بل هي أيضا تلبية لحاجة نفسية وثقافية.

قد يبدو هذا الموضوع متناقضا في بدايته، ولكنه يجمع بين الواقعية القاسية والتطور الاجتماعي. ويعكس هذا الإقبال المتزايد على المطاعم الفخمة تحوّلا في تفضيلات وعادات الجمهور. فمن المثير للدهشة أن يتجاوز الناس العقبات المالية ويميلون نحو تلك التجارب الراقية، وهذا ما يستحق التحليل والفهم.

هذه الظاهرة تأتي في زمن لم تكن فيه التحديات الاقتصادية واحتكار الأسعار من يوميات السوريين. فرغم معاناتهم من تدهور القوة الشرائية وانخفاض مستوى المعيشة، يتجه البعض نحو تلك المطاعم بحثا عن نوع من الهروب من روتين الحياة وضغوطها. فيبدو أن فخامة الأطباق والمكان تجعلهم يشعرون بأنفسهم أمراء وأميرات لحظة واحدة، ويستحقون الرفاهية والمتعة.

المطاعم مليئة بفئة واحدة

هذا التّلون الجديد في المجتمع السوري ليس وليد الصدفة، بحسب المهندس، مصطفى الخواجة، الذي يشرف على عدة مشاريع معمارية في دمشق. فبحسب حديثه لـ”الحل نت”، كانت مواقع السوشيال ميديا هي الدافع الرئيسي للانغماس في هذه التجربة لدى الكثير من السوريين.

انتشار مقاطع تجربة المطاعم الفخمة، والأطعمة الأجنبية غير الشامية المتعارف عليها محليا، ولّد الفضول لدى العديد من السوريين للغوص في هذه التجربة الفريدة، والتي ربما لدى بعض العوائل هي لمرة واحدة ولن تتكرر بسبب ارتفاع التكلفة المحلية لهذه المطاعم الفخمة.

من واقع الحال المشاهد ورغم الظروف المضطربة التي تعصف بالمشهد السوري، يبدو أن هناك نقطة خجولة تشق طريقها إلى واجهة الأحداث، حيث تتجلى في هذه الأيام بشكل واضح وملفت. فرغم التحديات الاقتصادية التي يعاني منها السوريون، وارتفاع أسعار السلع والخدمات، يثير إقبالٌ قوي على المطاعم الفخمة في سوريا تساؤلاتٍ حول ما يمكن تسميته بـ “ظاهرة المأكولات الراقية”.

علاوة على ذلك، ورغم أن هذه المطاعم بحسب الخواجة لا تمتلئ إلا من فئة واحدة وهي إما عوائل التجار ورجال الإعمال أو الذين لديهم مورد مالي خارجي، حيث لا تزدحم هذه المطاعم الفخمة إلا بداية كل شهر، ولكن يمكن تفسير هذا الإقبال بتحوّل في الوعي الاجتماعي.

طبقا للمهندس السوري، أصبح لتناول الطعام أبعادٌ أخرى بالإضافة إلى تلبية الحاجة البسيطة للتغذية. فتطورت ثقافة تذوق الأطعمة لتصبح مكونا من مكونات التجربة الإنسانية. فالنكهات والأطعمة الفريدة أصبحت محط اهتمام شريحة من المجتمع، وهو ما يمكن تسميته بـ “تطور تناول الطعام” الذي أسهم في تغيير النظرة العامة تجاه هذه المطاعم.

مطاعم ضمن فنادق “فخمة”.. فواتير جنونية

بالدخول إلى حارات دمشق القديمة أو أي مدينة سورية يتوقف الزمن وتهب نفحات من أصالة الماضي وتراث الياسمين المعربش على جدران وحجارة الأمكنة، التي تروي قصصا لا تنتهي عن عشق أهلها لهذا الإرث التاريخي العريق والمتجدد، لكن التطور السريع أخفى المطاعم السورية العريقة.

فضمن هذه السباق، حتى الساسة في أروقة السلطة السورية مالوا نحو كفة الاستثمار في المطاعم الفخمة، فالمستشارة الإعلامية للرئيس السوري، لونا الشبل، افتتحت في حزيران/يونيو 2022، مطعما باذخا لـ”المأكولات الروسية” في حي المزة بدمشق،  تحت اسم “ناش كراي”.

بحسب الخواجة، فإن رغبة الحكومة السورية الواضحة للعلن، بتشجيع الاستثمار السياحي واستغلال التجار والساسة لفرصة افتتاح المطاعم الفخمة، جاءت بعد الإقبال الذي شوهد من السوريين على المطاعم سواء في المولات أو المنتجات السياحية، والتي كان “اليوتيوبرز” سببا في الترويج لها والدعاية المتكررة حول أفضل أطعمتها.

بغض النظر عن تكلفتها العالية، التي قد تصل الفاتورة فيها لخمسة أشخاص إلى مليون ونصف ليرة سورية، يبدو أن الأفراد في سوريا يعتبرون تلك التجارب الفاخرة استثمارا في تجربة حياتية فريدة. ويعكس هذا الإقبال على المطاعم الفخمة توجها نحو الرفاهية والاستمتاع، حتى في أوقات الصعوبات ورغم الغلاء والأزمات.

المقاهي والمطاعم.. أبواب للثراء

رغم أن سوريا ما تزال تعيش في زمن الحرب والأزمات، لكن يبدو أن بعض الأعمال التجارية تزدهر وتنمو، بينما تتراجع وتنهار أخرى. من بين الأعمال التي شهدت ازدهارا في سوريا خلال السنوات الماضية، تبرز المقاهي والمطاعم، التي أصبحت مصدرا للثراء لأصحابها، وملاذا للزبائن.

يمكن تفسير الإقبال على المقاهي والمطاعم الفخمة بعدة عوامل، منها النفسية والثقافية والسياسية، بحسب الخواجة. إما عبر البحث عن مخرج للتخفيف من ضغوط الحياة والحرب، والتمتع بلحظات من الرفاهية والانبساط. فالمقاهي والمطاعم توفر للزبائن جوّا مريحا وخدمة مميزة وأطعمة بات طبخها بالبيت صعبا، تجعلهم ينسون مشكلاتهم وهمومهم لفترة محدودة.

أما ما يرجحه الخواجة، فهو العامل الثقافي الجديد، حيث برأيه تطورت ثقافة تناول الطعام في فئة من المجتمع، حيث أصبح تذوق الأطعمة واكتشاف نكهات جديدة جزءا من تجربة الحياة. فهناك من يرغب في تجربة مطابخ عالمية مختلفة، أو في اختبار أطباق جديدة أو نادرة، أو في التعرف على طرق طهي مبتكرة، فكل هذه التجارب تشكل نوعا من التثقيف والتنوير للذائقة.

أما فيما يخص الطبقة السياسية التي دخلت هذا المجال، يرى المهندس السوري أنه بوابة استغلال كأدوات للترويج للانتماءات أو المواقف المختلفة. فهناك مقاهي ومطاعم تحمل أسماء أو رموز تشير إلى انحيازات سياسية أو طائفية أو قومية، أو تستضيف فعاليات أو نشاطات تعبر عن رؤى أو مطالب معينة. وكل هذه الأسباب تجذب فئات مختلفة من الزبائن إلى المقاهي والمطاعم.

ظاهرة ازدهار المقاهي والمطاعم الفخمة في سوريا من المؤكد أن تساهم في تغير عادات وسلوكيات وقيم المجتمع، حيث يبدو أن بعض الناس يفضلون إنفاق أموالهم على الترفيه والتسلية على حساب احتياجات أخرى أكثر أهمية. كما يظهر انفصام في المجتمع بين فئة تستطيع تحمّل تكاليف هذه التجارب، وفئة أخرى تعاني من شحٍّ في الموارد.

المقاهي والمطاعم الفخمة في سوريا أصبحت مشروعا لا يُستهان به، خصوصا مع إقبال الناس على هذه التجربة بعيد عن الدافع الاجتماعي والسيكولوجي والاقتصادي، حيث تغيرت الثقافة الاستهلاكية في سوريا، وبات هوس التسوق والشراء بمبالغ خيالي يعكس واقع الثروة والفقر في المجتمع.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات