الطب، هي مهنة نبيلة وإنسانية، تهدف إلى الحفاظ على صحة وسلامة الناس، والوقاية من الأمراض والعلاج منها، والمساهمة في تحسين جودة الحياة والرفاهية؛ ولكن ماذا يحدث عندما يُصبح الطب مهنة محفوفة بالمخاطر، تتطلب من الأطباء التضحية بحياتهم وأمنهم وكرامتهم وأخلاقهم، في سبيل ممارسة واجبهم الإنساني.

في ظل الأحداث الصادمة التي شهدتها سوريا خلال السنوات الأخيرة، يظهر القطاع الطبي كواحد من أكثر القطاعات تأثّرا وتحدّيا، إن الواقع الطبي السوري أصبح موضوعا يلفّه التحديات الضخمة التي يواجهها الأطباء والمرضى في هذا البلد.

السيرة الصامتة في عيادة الدكتور سامر

داخل عيادته في منطقة الميدان بدمشق، يقدّم ما يُعرف محليا برجل الطب، الدكتور إبراهيم الكوني، رواية بطريقة تحمل في طياتها قصصا حقيقية تفوق الخيال، كأنها رحلة استكشاف مؤلمة لعالم طبيب سوري يقف أمام التحديات الهائلة التي يواجهها في ظل الضعف المستمر للقطاع الصحي والمواطنين بآن واحد.

الأطباء في سوريا
الأطباء في سوريا

حسب رواية الأهالي، يجسد هذا الطبيب شخصية تمزج بين الإنسانية والإبداع الطبي، حيث يسعى بكل قوة للحفاظ على حياة المرضى رغم الصعاب التي تعصف بالمستشفيات والعيادات في سوريا، حيث يواجه تحديات متعددة وصعوبات يومية تتعلق بنقص الإمكانيات والموارد وضغوط العمل النفسية والجسدية.

ما يجعل هذه الرواية التي حصل عليها “الحل نت”، أكثر إثارة هو تسليطها الضوء بجرأة على الأخلاقيات المهنية للأطباء، حيث يتعين على هذا الطبيب السوري اتخاذ قرارات صعبة وحاسمة بين حين وآخر، وتحمّل مسؤوليات ثقيلة تتعلق بمصائر المرضى وقرارات العلاج.

إحدى الحالات التي وردته، هي لامرأة لا تملك ثمن ولادة في المستشفى، لينطلق إلى ممرضته ويصنع من عيادته غرفة عمليات مستعجلة، وينقذ الأم وطفلها في غضون ساعة، إذ إنه لو طلب منها مغادرة العيادة والذهاب لأقرب مشفى، كانت ستفقد حياتها بسبب انقطاع المواصلات والتكاليف التي يتطلب دفعها قبل المباشرة بالعملية.

على الجهة المقابلة وتحديدا في حي كفرسوسة، فإن  السيرة الصامتة لدكتور الأطفال سامر نصر الدين، هي التي تجسد هويته، خصوصا بعد أن حوّل شقته المكونة من 3 غرف إلى مستشفى ميداني بعد طفرة الأسعار التي شهدها القطاع الطبي، وكتب على بوابة منزله من ليس لديه ثمن الكشفية فلا يتردد بالدخول، وذلك في سبيل إنقاذ الأرواح وتقديم الرعاية الطبية في ظل الأوضاع الصعبة.

معالجة المصابين والمرضى في شقة نصر الدين لا تخلوا من التجارب والتحديات، حيث الإمكانيات والموارد محدودة إلى أقصى حدّ، ويتعين على هذا الطبيب الاستعانة بخبرته وذكائه لتقديم العلاج والرعاية للمصابين والمرضى بأقل الإمكانيات المتاحة، لا سيما وأن معظم مراجعيه من أفقر الأُسر السورية، ومن يريد أن يكرمه يرسل له كيلو من الأرز بدلا من سعر الكشفية.

القوة البيضاء داخل نهر عيشة

في تقرير سابق لصحيفة “تشرين” المحلية، أشارت إلى أن تسعيرة اﻷطباء اليوم في سوريا، تعتمد على جملة من العوامل، وفي مقدمتها؛ العمر الزمني لممارسة الطبيب المهنة، ومكان وموقع العيادة، والمزاجية وأيضا “البريستيج” ضمن العيادة.

هذه العوامل انتفت لدى الدكتورة روزانا مرعشلي، أو ما باتت تعرف بـ”القوة البيضاء”، التي كسرت نمطية العيادات الخاصة، وقررت مساعدة مجتمعها بالرغم من معرفتها بالتضحيات وقراراتها الصعبة خصوصا في مجال الطب والأوضاع الاستثنائية التي تعيشها سوريا.

لم تتسابق مرعشلي كما تقول لـ”الحل نت”، نحو نوافذ مديرية الهجرة والجوازات كزملائها المتخرجين حديثا، حيث وسّعت جهودها لمساعدة المرضى في دمشق، بعد أن لجأ معظم الأطباء في سوريا إلى رفع بدلات الفحص الطبي للضعف، وذلك لتعويض كلفة رفع الدعم الحكومي عن البنزين عنهم من جيوب المرضى.

نقيب الأطباء، غسان فندي، كشف في بداية أيلول/سبتمبر الجاري، أن وزارة الصحة بصدد إقرار زيادة تسعيرة التعرفة الطبية، واللجنة التي تم تشكيلها انتهت من دراسة التسعيرة، وأرسلتها إلى وزارة الصحة لإقرارها، مبيّنا أنه لا توجد جهة معنية بإيجاد تسعيرة عادلة للتعرفة الطبية إلا ووضعت على سلم أولوياتها تأمين الطبابة لكل المحتاجين، وتأمين مردود مقبول للطبيب كي يتابع ممارسة عمله ويقدم خدمة طبية أفضل.

الأطباء في سوريا
الأطباء في سوريا

لكن مرعشلي لم تخفِ وجود تجاوزات عند بعض الأطباء لتقاضي تعرفة مرتفعة بين محافظة وأخرى وحتى ضمن المحافظة ذاتها، بعد أن تم استبعاد نحو 8 آلاف طبيب، من الدعم من أصل نحو 27 ألف طبيب،  ولديهم عيادات خاصة.

أطباء في زمن الانتصار؟

في زمن تدّعي الحكومة السورية أنها انتصرت، فإن عدد الأطباء المهاجرين من سوريا منذ عام 2011 يتجاوز 15 ألف طبيب، ما يعني خسارة نحو نصف الكوادر الطبية في البلاد، ويعاني السوريون من نقص حاد في الأطباء والمستلزمات الطبية والأدوية، خاصة في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة. 

كما يواجهون صعوبات في الوصول إلى الخدمات الطبية بسبب ارتفاع تسعيرة الطبابة والكشفية، التي قد تصل إلى نصف راتب موظف حكومي في بعض الحالات، ويضطر الكثير من السوريين إلى الاستعانة بالطب الشعبي أو الصيادلة أو العلاج الذاتي دون استشارة طبية متخصصة، ما قد يزيد من خطر التعرض لمضاعفات صحية أو أخطاء طبية.

فندي، ذكر أنه رغم زيادة خريجي الطب يوجد نقص بالأطباء، وهناك أعداد كبيرة من الأطباء يتقدمون بطلبات إلى النقابة للحصول على وثائق خاصة بالسفر خارج البلاد.

هجرة الأطباء السوريين إلى خارج سوريا، كارثة تواجه القطاع الطبي منذ سنوات، فإلى جانب الأسباب العديدة وأبرزها الرواتب الضعيفة للأطباء في سوريا مقارنة بأماكن أخرى، يأتي الإهمال الحكومي من قبل الجهات المعنية للأطباء المتبقيين في سوريا، ليزيد ذلك من أسباب دفع هؤلاء إلى قرار الهجرة.

الجهات الحكومية أصدرت العديد من القرارات في محاولة للحدّ من هجرة الأطباء، لكنها فشلت في تحقيق الأهداف التي أعلنت عنها حول المحافظة على الكادر الطبي، هذا فضلا عن الأخطاء الطبية المتكررة التي أودت بحياة عشرات السوريين خلال السنوات القليلة الماضية، نتيجة ضعف الكادر الطبي.

عشرات الأطباء اشتكوا خلال الأشهر الماضية، بضعف الخدمات المقدّمة لهم خلال عملهم، إذ تعاني الكوادر الطبية من ضعف الميزات وعدم تأمين وسائل الراحة للأطباء المناوبين، الأمر الذي يؤدي على النتائج النهائية لعملهم، كما أن البعض تحدث عن دور ذلك في ارتفاع معدلات الأخطاء الطبية نتيجة الضغط على الأطباء المتوفرين، فضلا عن النقص في الوجبات الغذائية للأطباء.

القطاع الطبي في سوريا لا زال يواجه خطر الانهيار منذ سنوات، لا سيما مع استمرار ظاهرة هجرة الأطباء إلى الخارج أملا في الحصول على فرص عمل أفضل في ظل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، بالتالي فإن انتشار أيّ فيروس جديد في سوريا من شأنه التسبّب بالمزيد من الصعوبات الطبية التي لا تُحمد عقباه.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات