لا يختلف اثنان على أن القضية الفلسطينية باتت دجاجة تبيض ذهباً لنظام إيران، وكثيرٌ من المتابعين في عالمنا العربي يعرفون ذلك، ما عدا بعض المشكّكين التابعين لـ”محور الممانعة” الذين يرفعون الشعارات الخادعة؛ لكن منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، انكشف اللثام عن الحقيقة وتحديداً بعد عملية حركة “حماس” التي عُرِفَت بـ”طوفان الأقصى” تمّ فيها غزو عناصر الحركة لغلاف غزة وقتلوا الكثير من الإسرائيليين وتمكّنوا من خطف 240 شخصا.

سرعان ما استجمعت إسرائيل قوّتها وشنّت حرباً لا ترحم على غزة مستهدفة تفكيك البنية العسكرية لـ”حماس”، وهنا انتظر كثيرون أن تنهال الصواريخ الإيرانية على “الكيان الصهيوني” كما يسمّونه، وأن تهبّ الأذرع العسكرية التابعة لإيران مثل “حزب الله” و”الحشد العراقي” و”فاطميون” لتحرير القدس، لكن ما حصل كان فضيحة كبيرة، إذ اكتفى هؤلاء بالشعارات والمناوشات المحدودة مع إسرائيل في إطار قواعد الاشتباك، وبات الجميع على قناعة أن القضية الفلسطينية لم تكن سوى عنوان يتاجرون به ويستقدمون السلاح والذخائر باسمه تمهيداً للسيطرة على الدول العربية أو ضرب استقرارها. 

وجاءت كلمة الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله الأسبوع الفائت لتقطع الشك باليقين، فالرّجل تبرّأ من عملية “طوفان الأقصى” وترك “حماس” وغزة لقدرهِما، واكتفى بمعارك يسجّل فيها انتصارات بالنقاط بدلاً من الضربة القاضية خلافاً لكل ما ذكره سابقاً في خطاباته بإزالة إسرائيل من الوجود، وكل الأدبيات الإيرانية التي اعتدنا الاستماع إليها منذ عقود!

الوجه الحقيقي لإيران

قد يظنّ المرء للوهلة الأولى أن دعم إيران لـ”حماس” بالمال والسلاح هدفه تحرير فلسطين، لكن الوقائع في الواقع برهنت أن إيران تستفيد من عمليات “حماس” ضد إسرائيل كورقة في مفاوضاتها مع الدول ولخداع بعض الجماهير العربية المتحمّسة لمقاومة إسرائيل، والمزايدة على الأنظمة العربية.

الرئيس إبراهيم رئيسي يشارك في مسيرة بمناسبة يوم القدس في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان في طهران. (تصوير متين قاسمي / غيتي)

وإذا كان لـ”حماس” مصلحة في تصديق الخداع الإيراني بهدف بسط سيطرتها على غزة وتهميش السلطة الفلسطينية، إلا أن الشعب الفلسطيني في غزة اكتشف الخديعة، ويتساءل أين “فيلق القدس” الذي أُعدّ للهجوم على إسرائيل؟ وأين الصواريخ الباليستية التي ستمحي إسرائيل من الوجود بساعات معدودة؟

الفلسطينيون أدركوا أن القضية الفلسطينيّة هي مجرّد ورقة في يد إيران، للمتاجرة بها، فإذا كانت غزة تشهد أم المعارك، متى تخوض إيران المنازلة الكبرى مع إسرائيل إذا لم تفعلها اليوم؟ 

أسئلة عدة يطرحها الفلسطينيون الذين يتعرضون للإبادة، فيما إيران منشغلة بحساباتها الاستراتيجية أو ربما لا تزال تعتمد الصبر الاستراتيجي الذي بات أشبه بنومة أهل الكهف، وربما يُهجّر الشعب الفلسطيني مرة جديدة ونظام الملالي مكتوف اليدين، يستعرض مع أذرعته العسكرية بعض الصواريخ الفارغة التي يرميها “الحوثيون” من اليمن وتسقط في البحر، و”حزب الله” العراقي يلهو بإقفال السفارة الأميركية في العراق، و”حزب الله” اللبناني ملتزم بقواعد الاشتباك!

 ويبدو أن الفلسطينيين أدركوا متأخرين أن الهدف هو هيمنة إيران على بعض الدول العربية، في إطار المشروع الإيراني التّوسعي مثل لبنان والعراق واليمن وسوريا وغزة!

خيانة إيران لـ”حماس” وغزة

وتأكّد الفلسطينيون أن أهداف إيران هي زعزعة أمن السعودية والكويت والخليج من خلال انكشاف خلايا تابعة لها هناك، ولذلك فقدت مصداقيتها، وحتى أن بعض قياديي “حماس” تساءلوا عن مساهمة إيران و”حزب الله” في المعركة الكبرى التي تخوضها. 

إيران غزة حماس القضية الفلسيطنية إسرائيل طوفان الأقصى
متظاهرون يشاركون في مسيرة بمناسبة يوم القدس في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان في طهران. (تصوير فرزام صالح/ غيتي)

وتجاوزت المواقف العتب، وخصوصاً بعدما خاصمت “حماس” العديد من الدول العربية اعتقاداً منها بأن الحضن الإيراني هو الملاذ الوحيد! بدليل أن ممثل “حماس” في لبنان أحمد عبد الهادي اعترف: “لقد نسّقنا مع حزب الله وإيران قبل وأثناء وبعد هذه المعركة على أعلى المستويات، لكن تعرّضنا على ما يبدو لخيانة واضحة ووعود كاذبة من إيران”.

لا يمكن وصف ما حصل سوى بالخيانة وهذا مستمر منذ أن وضع “نظام الملالي” رأسه في القضية الفلسطينية كورقة للمتاجرة، وفي تلك التجارة لا بأس من تسليح “حماس”، ولكن في ساعة الحرب الحاسمة، لا يمكن المجازفة بديمومة النظام الإيراني، ولا يمكن سوى التخلي عن “حماس” وأهل غزة، وها هم متروكون لمصيرهم!

لن تجازف إيران بترسانتها العسكرية وبرنامجها النووي من أجل القضية الفلسطينية، وهي لديها ما يكفي من البراغماتية للمحافظة على مصالحها أولاً، ثم حماية مكتسباتها التي تتمثّل في نفوذها في بعض العواصم العربية، وقد تكون جديّة الإسرائيليين والأميركيين أخافت إيران التي عُرِفَت بخطابات الكراهية ضد “الاستكبار الأميركي والكيان الصهيوني الغاصب” كما تقول لأشياعها.

وقد وضعت لـ”حزب الله” خطوطاً حمراء كي لا يتورّط في حرب ممكن أن تعيده إلى الصفر، وهو الابن المدلل، الذي صرفت عليه أموالاً طائلة لتنفيذ مخططاتها، رغم أن نصرالله أعلن سابقاً أنه إذا دخلت إسرائيل في الحرب البرية فسيفتح الجبهة الشمالية، ورغم أن المعارك البرية محتدمة إلا أن نصرالله التزم بقواعد الاشتباك في سياق إيراني محسوب، لتجني ثمار حرب جديدة؛ لا لنصرة القدس وإنما لمصالحها وأطماعها وحجز مكان لها في أي تسوية فلسطينية بحيث تكون مهيمنة على القرار الفلسطيني الحر.

ولعل الأحداث في سوريا تؤكّد المؤكّد، فكلُّ ما تزعمه إيران من عدائية حيال إسرائيل، يكشفه استسلام إيران و”حزب الله” أمام الضربات الإسرائيلية المتتالية التي تتعرض له المواقع الإيرانية والميليشيات التابعة لها هناك، حتى باتت مقولة “نردّ في الوقت والمكان المناسب” محط سخرية من الشعوب العربية! 

الهمّ الإيراني ليس إسرائيل ولا الدفاع عن القضية الفلسطينية إنما تدمير الدول العربية وتشتيت شعوبها، والتغيير الديموغرافي في بعض دولها ونهب ثرواتها ونشر التشيّع الصفوي بين صفوف أبنائها عبر مراكزها الثقافية والدينية كما يحصل في سوريا.

استثمرت في الانقسام الفلسطيني

واللافت أن خطاب النخبة الحاكمة الإيرانية لم يركّز يوماً على مستقبل إقامة دولة فلسطينية إنما يصبّ جام غضبه على سلوك الإسرائيليين “الأشرار”، بحسب تعبيرهم ليس فقط في فلسطين، إنما في كل أنحاء العالم. وبالتالي الهدف الإيراني هو إزالة إسرائيل من الوجود كشعار فضفاض، وليس التوصّل إلى إعلان دولة فلسطينية مستقلة معترف بها من كل دول العالم.

إيران غزة حماس القضية الفلسيطنية إسرائيل طوفان الأقصى
أحد أنصار حزب الله يحملون صورة لقائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني السابق المغتال، اللواء قاسم سليماني، ولافتة كتب عليها “الله يحميك يا غزة”، خلال تجمع في بيروت في 13 أكتوبر 2023، (تصوير أنور عمرو / وكالة الصحافة الفرنسية)

لذا لم تسعَ إيران إلى إنهاء الانقسام الفلسطيني، ولم تكن على مسافة واحدة من كل الفصائل والسلطة الفلسطينية، ويبدو أن استمرار الانقسام يفيد إيران باستمرار علاقتها بـ”حماس” و”الجهاد الإسلامي” ومواجهة إسرائيل على أساس ديني بدل مقاربة القضية الفلسطينية باعتبارها قضية حقوق تاريخية لكل الشعب الفلسطيني. 

شبع الفلسطينيون الذين يُقتلون يومياً حدّ التخمة من بيع الشعارات والتجارة بالقضية الفلسطينية، ومزايدات نظام الملالي لتحسين وضعه السياسي الداخلي الهشّ، وتمهيداً لبسط نفوذه ونشر فكره المتطرف وفرض رؤيته وشروطه بعضاً أو كلاً على دول المنطقة، واستخدام الورقة الفلسطينية لتحقيق مكاسب في مفاوضاته مع الولايات المتحدة، وقضية هذا الشعب المظلوم أصبحت ورقة يلعب ويقامر بها هذا النظام معرقلاً مسار القضية الفلسطينية وتعطيله لمسيرة شرعيتها نحو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.

متاجرة إيران بالقضية الفلسطينية تاريخياً

تعود علاقة إيران بالقضية الفلسطينية إلى عام 1979 حين انتصرت الثورة التي قام بها آية الله الخميني، وخُدِعَ رئيس “منظمة التحرير الفلسطينية”، ياسر عرفات، في المرحلة الأولى بأن الثورة الفلسطينية راحت تتمدد في إيران، قبل أن يكتشف أن الأمر لم يعدُ كونه شهر عسل خداعاً، لأنه كان يُعرف بسرعة البديهة والدهاء، وتفاجأ من طلب الخميني أثناء لقائه في إيران مترجماً للفارسية رغم أنه يعرف العربية جيداً، وبات عرفات بعد ذلك يروّج في مجالسه الخاصة متندراً حول “الثورة الإسلامية التي لا تتحدث العربية” وإنما فقط الفارسية.

إيران غزة حماس القضية الفلسيطنية إسرائيل طوفان الأقصى
يحيى السنوار، رئيس حركة حماس الإسلامية الفلسطينية في غزة، يجلس بين قادة الفصائل الفلسطينية خلال مسيرة بمناسبة “يوم القدس”.(تصوير أحمد زقوت/غيتي)

كان عرفات الذي قاد الفلسطينيين لعقود طويلة يريد لهذه العلاقة أن تستمر، لكن سرعان ما حسمها الإيرانيون مع بداية الحرب العراقية الإيرانية إذ طلبوا من عرفات موقفاً مؤيداً ومناهضاً ومعلناً وعملياً من الرئيس العراقي صدام حسين والعرب، لكنه بعد عدة وساطات ومحاولات لتجاوز أمر الحرب برمته، اختار الانحياز لعروبته، ولم ترَ العلاقة منذ ذلك الوقت خيراً قط، بل دخلت في علاقة مواجهة كبيرة ومحاولات استئثار بالقرار وفرض أجندات وإحداث انشقاقات مع وقف كل دعم مالي أو عسكري ممكن، وهذا ما انسحب لاحقاً على كل علاقة إيرانية فلسطينية بغض النظر عن الجهات التي تعامل معها الإيرانيون، منظمة التحرير أو الفصائل الإسلامية أو مجموعات عسكرية صغيرة.

في حقيقة الأمر أن كل دعم كان مسيّساً ومشروطاً وغير مستمر، ورغم أن إيران تتباهى بتشكيل محور “الممانعة والمقاومة” الذي كان يضم إلى جانبها وسوريا كذلك، “حزب الله” اللبناني و”حماس” و”الجهاد الإسلامي” الفلسطينيتين، لكن تطورات كثيرة وأحداث ومنعرجاتٍ حادة في المنطقة، كشفت إلى حدّ كبير كيف أن دعم الفصائل الفلسطينية كان يتوقّف في منعطفات عدة مثل اعتراض “حماس” على دعم إيران لحكومة دمشق الذي شنّ حرباً شعواء على الشعب السوري. وعمدت إيران إلى تقديم دعم محدود للجناح المسلح لـ”حماس” “كتائب القسام” في محاولة لتحريضه على المكتب السياسي! وهي السياسة نفسها التي استخدمتها مع الرئيس ياسر عرفات.

وأكثر من يعرف دور إيران السلبي في القضية الفلسطينية هي السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس، وقد اختبرت ماذا يحصل في كل مرة تحشر فيها إيران أنفها في الشأن الفلسطيني فتعمل على شق الصف الفلسطيني، وتتهم السلطة إيران أصلاً بتعميق الانقسام عبر دعم “حماس” في غزة إبان انقلابها عام 2007.

حتماً ما يهم إيران هو مصالحها، ويبدو أن الفلسطينيين أعطوها طريقاً أكثر من غيرهم لتأخذهم “بالمفرق”، لأنهم ليسوا موحّدين، ولو لم يكونوا منقسمين لأخذوا من مواقف إيران ما يتقاطع مع مصالحهم ورفضوا أي مطامع أخرى، والمصلحة الفلسطينية تقضي بأن لا يحسبوا أنفسهم على محور ضد آخر وأن يعملوا من أجل كسب كل الأطراف.

لكن كل ما يجري في العلاقة الإيرانية-الفلسطينية أن نظام الملالي يراعي مصالحه فقط، بدليل أنه ربط دعمه لكل الأطراف الفلسطينية بمواقف وتموضعات تخدم مشروع إيران، مثلما طلب من عرفات موقفاً ضد العراق وطلب من “حماس” موقفاً مع بشار الأسد، طلبت من “الجهاد الإسلامي” موقفاً واضحاً من الحرب في اليمن وهو نفس الطلب الذي قدّم لـ”حماس” من أجل استئناف العلاقات، وحاولت إيران في إحدى المراحل استقطاب “حماس” في مواجهتها مع السعودية سابقاً.

ولم تتوقف محاولات إيران استقطاب الفلسطينيين على الفصائل الكبيرة “فتح وحماس والجهاد”، بل سعت حتى لتجنيد مجموعات مسلحة لها في غزة والضفة الغربية كانت ترسل لها الدعم مقابل تنفيذ عمليات، وحاولت أيضاً تشكيل فصائل بأسماء تدل على الأصول الشيعية، مثل جماعات عماد مغنية وما يسمى “حزب الله” الفلسطيني، وغيرها.

لافتة ضخمة تحمل صور القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني (يسار)، والمرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، معروضة على مبنى بنك حكومي مجاور للسفارة الأمريكية السابقة في طهران، 2 نوفمبر ، 2023. (تصوير مرتضى نيكوبازل / غيتي)

أما أبرز المحاولات الإيرانية في غزة خلال الأعوام الماضية، فكانت تشكيل حركة متشيّعة هي جمعية “الصابرين” التي أصبحت ممثلاً شبه رسمي لطهران، لكن بعد غضب شعبي كبير، اضطرت “حماس” إلى إغلاق الجمعية.

في الحقيقة، سعت إيران على الدوام إلى تدمير وتخريب الصف الفلسطيني، وتعميق الانقسام، واكتفاء إيران بالشعارات مقابل الحرب التي تمارسها إسرائيل في غزة اليوم، يُكشف الكثير من الخداع، فنظام الملالي بات كالتلميذ المطيع، عندما حشدت الولايات المتحدة أساطيلها نحو شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وهددت النظام بأن لا يُقدم على أي خطوة، وكان التهديد الأميركي جدّياً، لذلك النظام الإيراني يبيع فلسطين برمّتها مقابل البقاء على سدّة الحكم في إيران.

هذه هي قصة القضية الفلسطينية مع إيران، ودماء الفلسطينيين في غزة شاهدةٌ على ذلك، وتكاد غزة أن تصبح ركاماً، ولم تحرّك إيران فيالقها لمهاجمة ما تسميه “الشيطان الأكبر الأميركي والإسرائيلي”، علماً أن مصير غزة سيلقاه كلّ من اليمن والعراق وسوريا ولبنان، إذا تمت مهاجمتها للاقتصاص من أذرع إيران العسكرية، فإيران لا قِيم لديها ولا معايير أخلاقية للدفاع حتى عن أتباعها، فهي لا تجيد سوى المتاجرة والتشدّق بشعاراتٍ جوفاء لا صدق ولا خير فيها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات