تاريخيا، لم تغب إفريقيا عن مطامع روسيا البتة، إلا أنها مرت بمعرقلات وظروف عديدة تبعا لما عاشته موسكو من أحداث سياسية منعتها نوعا ما من التغلغل في عمق القارة السمراء، ولعل أهمها الحرب الباردة وانتهاء الاتحاد السوفيتي.

المقولة تقول: “دوام الحال من المُحال”. مع مجيء فلاديمير بوتين إلى “الكرملين” قبل أكثر من ربع قرن تغيّر الحال، وباتت روسيا تطمع بجشع كبير للتوغل في إفريقيا، وكانت إفريقيا الوسطى هدفها وعينها، ومنها تنطلق إلى بقية أرجاء القارة.

المطامع الروسية صحيح أنها اقتصادية، لكن تحقيقها بشكل نفوذ وسيطرة يكون أكثر يسرا عبر السيطرة العسكرية، ولذا فإن موسكو أرادت بشكل جدي في السنوات الأخيرة أن تبدأ نفوذها العسكري في إفريقيا، وبعد عناء طويل، ها هي اليوم تحقق هدفها من بوابة إفريقيا الوسطى.

بحسب صحيفة “موند أفريك”، فإن حكومة إفريقيا الوسطى خصصت أرضا في بيرينغو، على بعد 80 كيلومترا من العاصمة بانغي، لروسيا لإنشاء قاعدة عسكرية تستضيف قرابة 10 آلاف جندي روسي.

القاعدة العسكرية تمنح روسيا بسط نفوذها في إفريقيا

الشهر الماضي، أعلن مستشار الرئاسة لجمهورية أفريقيا الوسطى، فيديل نغوانديكا عن استعداد بلاده لاستضافة قاعدة عسكرية روسية على أراضيها، قائلا، إن “غرض وجود العسكريين الروس في إفريقيا الوسطى هو تدريب جنودنا. ونحن مع روسيا 1000 بالمئة ونعتقد أن روسيا يجب أن تبقى معنا”.

مع إقامة هذه القاعدة في وسط القارة، سيكون لدى القوات الروسية القدرة على مراقبة ما يحدث في غرب إفريقيا والشرق والشمال والجنوب على مسافة متساوية تقريبا بين الشمال والجنوب وبسرعة أكبر من الشرق إلى الجنوب، وفق موقع “سكاي نيوز عربية”.

للتوضيح أكثر، فإن المسافة بين بانغي وجوهانسبرغ عاصمة جنوب إفريقيا هي أقل من 3540 كيلومترا، وتبلغ المسافة الجغرافية (الطريق الجوي) بين بانغي وطرابلس في ليبيا نحو 3220 كيلومترا، والمسافة بين بانغي وجيبوتي شرقا هي نحو 2830 كيلومترا.

بالتالي ونتيجة لتلك المعطيات، سيتمكن الجيش الروسي من الوصول بسرعة إلى النقاط الساخنة في إفريقيا وشبه الجزيرة العربية، نظرا لأن الطائرات المقاتلة الأسرع من الصوت يمكنها التحليق بسرعة تزيد عن 1000 ميل في الساعة.

تتميز الجغرافيا الاجتماعية لجمهورية إفريقيا الوسطى، بالثراء والتنوع، ويعتمد اقتصادها على القطاع الزراعي الذي يسهم بأكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي إلى جانب الغابات والتعدين، حيث يعيش نحو 60 بالمئة من السكان في المناطق النائية، وتمثل الأخشاب والألماس واليورانيوم والذهب والقطن معظم عائدات التصدير.

صحيفة “موند أفريك”، وصفت رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى، فاوستين أركانج تواديرا، بأنه “مؤيد متحمس لروسيا”، ويتخذ من قوات “فاغنر” حرسا شخصيا له.

“فاغنر” وبداية الحضور الروسي في بانغي

حصول موسكو على قاعدة عسكرية في إفريقيا الوسطى في عمق ووسط القارة السمراء، أمر مهم جدا بالنسبة لبوتين، لأنه يحقق لروسيا تثبيت وجودها في القارة السمراء، بحسب حديث المحلل السياسي محمد الحكيم مع موقع “الحل نت”.

بدأ الحضور الروسي في جمهورية إفريقيا الوسطى في العام 2017 حين ناشد الرئيس المنتخب حديثا حينها، أركانج، مجلس الأمن الدولي برفع حظر الأسلحة المفروض على بلاده حتى يتسنى للحكومة استيراد أسلحة ومعدات عسكرية للدفاع عن نفسها وحماية المدنيين. 

كان فاوستين يراهن على فرنسا التي قدمت اقتراحا بإرسال 1400 بندقية من طراز (AK-47) استولت عليها البحرية الفرنسية أثناء عملية لمكافحة القرصنة قبالة سواحل الصومال بحسب “مركز الجزيرة للدراسات“، إلا أن روسيا استخدمت حق النقض تجاه الفكرة الفرنسية بحجة أنه لا يمكن استخدام الأسلحة المصادرة أثناء عملية حظر الأسلحة وتوجيهها لأغراض أخرى. 

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يصافح رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى فوستين أركانج تواديرا خلال اجتماع على جانبي القمة الروسية الإفريقية في سوتشي، روسيا 23 أكتوبر 2019.

بعد ذلك، عرضت موسكو التبرع بأسلحة خفيفة لجمهورية إفريقيا الوسطى، وهو الاقتراح الذي حظي بموافقة جميع أعضاء مجلس الأمن الدولي. “ما بدأ بتبرع روسي محدود بالأسلحة الخفيفة سرعان ما تحول إلى وجود أمني فعال، إثر إرسال موسكو 170 مدرّبا مدنيا و5 أفراد عسكريين في مهمة أمنية تحت ستار زائف متعلق بحراسة مواد بناء ومستشفيات تنشئها روسيا هناك”. 

لاحقا، تبين أن المدنيين نخبة من قوات تابعين لمجموعتي “سيرا” للخدمات الأمنية و”فاغنر” التي يديرها رجل الأعمال السابق، يفغيني بريغوجين، المقرب من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وفق مركز الدراسات القطري.

خلال فترة وجيزة سيطر الروس على جميع المهام الأمنية المهمة في إفريقيا الوسطى بما في ذلك حراسة الرئيس أركانج. وفي خطوة تعكس حجم التعاون بين موسكو وبانغي تم تعيين الروسي فاليري زاخاروف، ضابط المخابرات السابق، في منصب مستشار الأمن القومي للرئيس فاوستين. 

حماية الاستثمارات والمزيد من التمدد

العلاقة العسكرية تُوِّجت في آب/ أغسطس 2018؛ حيث وقَّع البلدان اتفاقية تعاون عسكري وجرى السماح بافتتاح مكتب لتمثيل وزارة الدفاع الروسية في بانغي، وأعلن رئيس إفريقيا الوسطى أن بلاده تدرس السماح بإنشاء قاعدة عسكرية فوق أراضيها، فضلا عن سيطرة روسيا على مناطق واسعة ضمَّت مناجم الماس والذهب واليورانيوم، واليوم باتت القاعدة العسكرية حقيقة واقعة.

وفق محمد الحكيم، فإن موسكو ومن خلال تلك القاعدة ستبسط نفوذها العسكري على إفريقيا، ناهيك عن أنها ستوفر الحماية لاستثماراتها الاقتصادية في بانغي وبقية الدول الإفريقية، بل وتمنحها المزيد من التمدد والوصول لدول لم تحط أقدامها فيها بعد، هذا فضلا عن الدول التي وصلتها مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر، ولكن ليس بحجم بانغي.

حتى بعد مصرع قائد مجموعة “فاغنر” العسكرية الخاصة، يفغيني بريغوجين، عملت موسكو على تعزيز نفوذها في إفريقيا الوسطى، إذ قال تقرير  سابق لشبكة” سي إن إن” الأميركية، إن “الكرملين” يسعى للسيطرة بشكل كامل على أذرع “فاغنر” وشبكتها التجارية في القارة، وفي نفس الوقت يعمل على تعزيز هيمنته (من خلال فاغنر) في دولة بانغي.

“سي إن إن” نقلت عن أحد مستشاري الرئاسة في إفريقيا الوسطى، فيديليه غواندجيكا، قوله إن “التمرد الفاشل لفاغنر في روسيا ومقتل قائد المجموعة، لم يتبعه أي تغيير في العلاقة بين بانغي وموسكو”.

غواندجيكا أكد وقتئذ، أن بلاده تلقت مؤخرا تأكيدات من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قال فيها إن “كل شيء سيظل كما كان في السابق. وسيكون الغد وبعد الغد أفضل”.

في النهاية، فإن القاعدة العسكرية الروسية في إفريقيا الوسطى، هي تثبيت رسمي للوجود الروسي في قارة إفريقيا الغنية بالموارد والثروات، وجزء من خطة مدروسة لدى موسكو بتوسعة نفوذها في معظم دول القارة السمراء، لا سيما الدول المحيطة ببانغي، كما يقول الحكيم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات