راكمت إيران منذ شهور العام الماضي عدّة لقاءاتٍ رسمية، سواء في طهران أو دمشق، مرّة على مستوى الرؤساء، ومرة أخرى من خلال لقاءاتٍ على مستوى رؤساء الحكومة، وكذا اجتماعات اللجنة الاقتصادية الوزارية السورية الإيرانية. فضلاً عن تنظيم طهران عدّة فعاليات اقتصادية بهدف بلوغ قيمة ما قدمته طهران خلال سنوات العقد الفائت، وتحصيل عوائده الاقتصادية وتفعيل الاتفاقيات ومذكّرات التفاهم التي أُبرمت خلال زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لدمشق خلال شهر آيار/مايو من العام الماضي.

إلى ذلك، نظّمت منظمة “تنمية التجارة الإيرانية”، خلال الثالث من شهر آذار/مارس الجاري مؤتمراً تحت عنوان “إعادة إعمار سوريا الفرص القائمة”، وإسهام الشركات الإيرانية نحو تعزيز توجّهات طهران لبلوغ أهدافها الاستراتيجية التي تتصل مباشرة بدرجة نفوذ وهيمنة طهران اللامحدود على الرئيس السوري بشار الأسد، وما يترتب على ذلك من استحقاقات مالية واقتصادية، وحضور فاعل للشركات والاستثمارات الإيرانية الموجّهة صوب الداخل السوري، فضلاً عن قرار تفعيل التعامل بالعملة المحلية في التبادل التجاري بين البلدين.

يتّسق ذلك مع تحرّكات طهران الفاعلة نحو انخراط الشركات الإيرانية الموجّهة للأسواق في سوريا، باعتبارها رئة استراتيجية لطهران ومحطة مباشرة مع بغداد لتفعيل خطوط النقل واستثمار الموانىء السورية، خاصة اللاذقية لتفعيل الصادرات الإيرانية لدول شمال إفريقيا.

الاقتصاد الإيرانيّ يتسلل إلى سوريا

مدیر عام مكتب غرب آسیا لمنظمة تنمية التجارة، عبد الأمیر ربیهاوی، أشار إلى أهداف عقد المؤتمر بخصوص فرص الدخول إلى الأسواق السورية، خلال شهر آيار/مايو القادم، بوضع سقف لحضور المؤسسات الاقتصادية، إذ تم اختيار 150 شرکة إیرانیة للمشاركة في هذا المؤتمر.

بأنياب الموساد الإسرائيلي هكذا بدأ الأسد بأكل حلفائه الإيرانيين (1)
الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي (يسار) يلتقي برئيس النظام السوري بشار الأسد في الرياض، المملكة العربية السعودية في 11 نوفمبر 2023. (غيتي)

وأعلن ربیهاوی، عن حضور السفیر السوري فی هذا المؤتمر، کما یشارك في هذا المؤتمر ممثلون عن الجهات الحكومية وأمانة اللجنة المشترکة بین البلدَين وأعضاء غرفة التجارة الإیرانیة السوریة المشترکة وبعض أعضاء غرفة التجارة الإیرانیة.

وبحسب قوله، فإن الهدف من عقدِ هذا المؤتمر هو بالأساس التعريف بفرص الدخول إلى الأسواق السورية، وانخراط شرکات الخدمات الفنية والهندسية وإعادة إعمار المصانع وتوريد السلع التی تحتاجها سوریا. وأوضح ربیهاوی أنه بالنظر إلى السياسات المتوافقة بين طهران ودمشق ينبغي أن تصبح سوريا واحدة من أهم البلدان المستهدفة لصادراتنا.

وأکد مدیر عام مکتب غرب آسیا لمنظمة تنمیة التجارة، على ضرورة تسهیل العملیة التجاریة مع سوریا. وقال: “في الماضي تم تحدید طریقین للصادرات إلى سوریا؛ أولاً، تم نقل البضائع من الحدود البرية إلى تركيا ومن ميناء مرسين فی ترکیا إلى اللاذقية. 

وفي الحالة الثانية يتم تحميل البضائع من ميناء بندر عباس إلى سوريا عبر الخليج العربي والبحر الأسود. وکان کلّا هذین الطریقین طویلَین و مکلفَین، ولكن الآن، مع إعادة فتح طريق العبور العراقي سوف تصل البضائع إلى سوریا فی یوم واحد. وحاليا، أصبحت الشاحنات السورية والعراقية جاهزة لنقل البضائع إلى سوريا على حدود مهران، وفق ما ذكرت وكالة “مهر” للأنباء في إيران.

تعكس تلك المؤشرات ثقل الضغط الذي تمارسه طهران ونظامها السياسي على دمشق، لتفعيل كافة الاتفاقيات الموقّعة وإزالة العوائق والعقبات التي تقف في مواجهة الاستثمارات الإيرانية، ووضع هدف إيران الاستراتيجي من نفوذها وحضورها الميداني في جغرافيا سوريا حيّز التحقيق والتنفيذ. 

خاصة وأنه قد اقترب نحو عام على زيارة الرئيس الإيراني،إبراهيم رئيسي لدمشق وكافة الجولات التي تلت الزيارة، وكان آخرها زيارة رئيس حكومة دمشق حسين عرنوس إلى طهران، لمعالجة كافة المشكلات التي يواجهها رجال الأعمال الإيرانيين وحتمية حلّها بشكل عاجل، الأمر الذي أكده بدوره سفير دمشق بإيران شفيق ديوب من خلال تصريحه باعتزام “القادة السوريين” تطوير التبادل التجاري مع إيران وكذا حضوره مؤتمر إعادة إعمار سوريا مطلع آذار/مارس الجاري.

دمشق مجرّد محمية إيرانية؟

إذاً، نحن صوب مشهد يعبر عن ريبة وتوجس من جانب طهران حيز ما تعتبره بطء في تفعيل الاتفاقيات المبرمة وتطوير التعاون الاقتصادي بينهما. ارتباطا بذلك قد يبدو أن زيارة الرئيس الإيراني لدمشق خلال العام المنصرم لافتة كونها الأولى منذ زيارة أحمدي نجاد قبل عقد أو أكثر قليلاً. 

تسريبات كيف باتت دمشق اليد الخفية لسقوط الأردن بيد إيران؟ (4)
استقبل وفد الحكومة السورية رسميًا وفد الحكومة الإيرانية في القصر الرئاسي السوري في 03 مايو 2023 في دمشق، سوريا. (متين قاسمي/ غيتي)

بيد أن تصريحاته للصحفيين إبّان الزيارة حين قال: “لا نعتبر بأي حال من الأحوال أن مستوى النشاط الاقتصادي بين إيران وسوريا يرقى إلى مستوى العلاقات السياسية بين البلدين، ونعتقد أنه يجب أن تكون هناك قفزة إلى الأمام في العلاقات التجارية”، هي الأكثر دقّة وتعبيراً عن هدف الزيارة، ويكشف أيضاً الرابط العضوي لتنامي نفوذ طهران وحضورها في دول الشرق الأوسط خاصة سوريا والعراق.

في هذا السياق، يشير الكاتب الصحفي، درويش خليفة بقوله، إنه عندما يتم الحديث عن العلاقات الإيرانية- السورية، لابدّ لنا أن نقدّم سرداً سريعاً، وخاصة منذ عام 2011، إذ وقّع الطرفان اتفاقيات تجارية عدّة، ففي العام 2012 تم توقيع اتفاقية التجارة الحرة وخفض الحواجز الجمركية، ورفع حجم التبادل التجاري ليصل إلى ملياري دولار.

وتابع درويش حديثه لـ”الحل نت”، أنه في العام 2019 وقّع الجانبان إحدى عشرة اتفاقية اقتصادية ومذكّرة تفاهم وبرنامجاً تنفيذياً، إضافة إلى فتح خط ائتماني لدمشق و منح قروض لتمويل المستوردات، التي تشمل البُنى التحتية والخدمات والإسكان. وفي منتصف 2019 أيضاً، وقّع بشار الأسد على القرض الثالث البالغ مليار دولار المقدّم من إيران بهدف تمويل الصادرات.

يلفت الكاتب السوري، أنه أثناء زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى دمشق في أيار/مايو من العام الماضي، تم توقيع اتفاقيات عدّة. ويردف ذلك بطرح سؤال حول مدى تنفيذ هذه الاتفاقيات في ظل العقوبات المفروضة على النظامَين السوري والإيراني؟ مشيراً إلى أن هذه الأمور تتطلب بحث وتدقيق كبيرين، لا سيما أن معاناة الشعب الإيراني لا تقل عن معاناة السوريين، وخاصة في مناطق سيطرة حكومة دمشق.

ومن جانبها تعاني إيران  أيضا من إضرابات ومظاهرات، تنبع بشكل رئيسي جرّاء الضائقة الاقتصادية وارتفاع مستويات التضخم وصعوبة الحصول على مقتضيات الحياة بأسعار مقبولة فضلا عن الفساد الحكومي، وأزمة المياه الحادة. بشكل واضح، تحاول إيران دائما إغراق سوريا باتفاقيات وعقود، ليبقى بشار الأسد منقاداً، ولا يخرج قيد أنملة عن بيت الطاعة الخامنئية.

“الصيدة السورية”

وكان عبد الأمير ربيهاوي مدير عام غرب آسيا لمنظمة تنمية التجارة الإيراني قد التقى السفير السوري في طهران ودعاه للمشاركة في مؤتمر “إعادة إعمار سوريا”، لكن هل الشركات الإيرانية مستعدة للمخاطرة في بيئة غير مستقرة وتتعرض للقصف الإسرائيلي على مدار الساعة؟ أنا لا اعتقد أن المؤتمر المزمع عقده، سوى امتداد للتغول الإيراني في سوريا وبالوقت نفسه، إيصال رسالة للدول العربية الذين يحاولون إبعاد الأسد عن حلفائه الإيرانيون. 

صورة تظهر لوحة إعلانية تظهر صورة للرئيس السوري بشار الأسد وهو يرتدي نظارة شمسية بينما يرتدي زي المشير العسكري، معروضة في وسط العاصمة دمشق، مع تعليق أدناه باللغة العربية: "إذا نطق غبار البلد سيقول بشار الأسد". (تصوير لؤي بشارة / وكالة الصحافة الفرنسية)
صورة تظهر لوحة إعلانية تظهر صورة للرئيس السوري بشار الأسد وهو يرتدي نظارة شمسية بينما يرتدي زي المشير العسكري، معروضة في وسط العاصمة دمشق، مع تعليق أدناه باللغة العربية: “إذا نطق غبار البلد سيقول بشار الأسد”. (تصوير لؤي بشارة / وكالة الصحافة الفرنسية)

وربما تأتي هذه الخطوة المستعجلة بعد تعيين دولة الإمارات العربية المتحدة سفيراً فوق العادة لها في دمشق وترميم السفارة السعودية هناك لمزاولة السفير عمله في العاصمة السورية. يقول خليفة.

خلاصة القول، والحديث لذات المصدر، نحن أمام تنافس شرس على “الصيدة السورية” التي حولتها العقوبات الغربية بما فيها الأميركية لـ”جثة هامدة”.

ويختتم درويش خليفة تصريحاته قائلاً: إن هدف طهران الاستراتيجي من دمشق ليس بهذه السهولة، خاصة مع التوتر الحاصل في البادية السورية التي تربط الحدود العراقية بالسورية برّياً، وكذلك استهداف إسرائيل للمطارات التي تهبط فيها الطائرات الإيرانية. 

أما من جانب الأسد، فهو لا يملك رفاهية الرفض لأي مقترح إيراني سيما مع تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية والاحتجاجات الشعبية في محافظة السويداء وخروج بعض الأصوات الرافضة للأداء الحكومي في المناطق التي تعتبر الحاضنة الرئيسية له، وهنا القصد الساحل السوري.

تحكّم إيراني مباشر

المؤتمر الحالي حول إعادة إعمار سوريا هو أمرٌ يعكس حتمية لزوم طهران ما يلزم لحصد المكاسب الضرورية من الهيمنة على واقع ومستقبل سوريا، عبر نوافذ الاقتصاد والمال، لا سيما أن هذا الملف يعتبر عالقاً منذ سنوات مضت دون تقدم ملموس أو آثر حقيقي للشركات الإيرانية مما يدفع النظام في طهران لمعاودة الضغوط ومراكمتها غير مرة على دمشق.

رجل يقرأ الصفحة الأولى من صحيفة “دون” الباكستانية الناطقة باللغة الإنجليزية والتي تعرض أخبارًا عن الغارة الجوية الإيرانية في إسلام آباد في 18 يناير 2024. (تصوير عامر قريشي / وكالة الصحافة الفرنسية)

 والتلميح مرة والتصريح أكثر من مرة أن استقرار كرسي الرئاسة في قصر “الأسد” ما هو إلا نتيجة مباشرة لجهود طهران ونفقاتها المتعددة سياسيا وماليا بمليارات الدولارات، مما ينبغي معه على دمشق بذل الجهد الكافي لتسيير عمل الشركات الإيرانية وتعبيد الطريق لخط التبادل التجاري لصالح الصادرات الإيرانية في أسواق سوريا.

من جانبه يذهب الباحث في الشأن الإيراني، وجدان عبد الرحمن، بقوله إن تعدد الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية بين إيران وسوريا لا يمكن التعويل عليها فقط دون الكشف عن آلية تطبيق تلك الاتفاقيات وماهية الأزمات الحقيقية التي تقف في سبيل تفعيلها سواء عبر مسار التنافس مع موسكو في ذات الشأن أو القيود والعقوبات الأميركية التي تفرضها على سوريا وإيران.

ويؤكد الباحث في الشأن الإيراني خلال تصريحاته لـ”الحل نت”، أن الخطر الحقيقي في تنامي نفوذ طهران نحو سوريا خلال السنوات الماضية يستقر عند الآثار الثقافية على المجتمع السوري، وكذا النفوذ الأمني والتغلغل في المؤسسات الأمنية العسكرية داخل سوريا. 

ثم ارتباط ذلك بحضور الميليشيات التي صنعتها إيران داخل سوريا، وما يترتب على ذلك من استقطابات تصيغ جيوباً في التركيبة السكانية لدى الشعب السوري على أساس طائفي ومذهبي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات