تعد الممارسات السحرية من أولى الممارسات الاجتماعية التي عرفها الإنسان على مرّ التاريخ، فهي ظاهرة اجتماعية وثقافية لم يخلُ أي مجتمع إنساني من حضورها فيه، فهي تنتشر “بشكل خاص خلال مراحل الانتقال والتغيرات الاجتماعية السريعة، بمعنى حين تصبح علاقات الصراع والنزاعات الشخصية أكثر أهمية من تلك العلاقات التقليدية وأوقات الاستقرار”. 

وقد لاقت هذه الظاهرة اهتماماً حثيثاً من قِبل علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا، مثل مالينوفسكي الذي أكد في دراساته أن السحر هو وليد عجز الإنسان البدائي عن توظيف وفهم الطبيعة لذلك لجاء للسحر نظراً لافتقاده الحسّ المنطقي العقلاني وهو “ما سماه بتخفيض مستوى الضغط واعتماد السحر كمقارنة تعويضية لما استحال فهمه، وبالتالي فإنه يمكن القول إن السحر يبدأ عندما تنتهي التكنولوجيا”، كما يرى مالينوفسكي أن المعتقدات السحرية جوهرياً هي آلية مساعدة للفرد من أجل مجابهة الصعوبات التي تواجهه في سياق إشباع حاجياته، وهذا ما يتجذر في ثقافة الأفراد ويشكل حيزاً هاماً من تمثلاتهم ومعتقداتهم التي يتم اكتساب من رافدين أولهما التعليم وثانيهما العادات والتقاليد التي يتم توريثها في سياق الضمير الجمعي. 

ويرتبط السحر بطقوس قولية وفعلية ينفس فيه الفرد عن القلق الذي ينشأ نتيجة الإحساس بالمخاطر والتهديد التي يمكن أن تحدث، ومن بين هذه الممارسات السحرية نجد “التصفيح” كظاهرة تمارسها شعوب المغرب العربي ومنها تونس، وقد ذكرنا هذه الظاهرة في مقالنا السابق والمرتبط بـ”التمثلات الاجتماعية للجسد الأنثوي داخل الفضاء العام”، ولمن لم يقرأ المقال فقد أشرنا فيه إلى كيفية اعتبار عذرية الفتاة تمثل “الشرف الاجتماعي” وأهمية جسدها يكمن في الحفاظ على عذريتها التي تمثل رأسمال رمزي للعائلة أولاً ثم العشيرة والقبيلة والمجتمع ككل وهذا ما نتبينه في كل المجتمعات الأبوية.

كما أبرزنا أيضاً كيف أن ولوج المرأة إلى الفضاء العام باعتباره فضاء ذكوري بالأساس قد شكل في اعتقادهم تهديدا للسلطة والهيمنة الذكورية، ناهيك أيضاً لمنظومة القيم والمعايير السائدة باعتبار المرأة مصدراً لكل الانحرافات وخاصة منها الجنسية. لهذا تعد ظاهرة “التصفيح” من أهم الممارسات الطقوسية التي تخفف وطأة الخوف من فقدان الرأسمال الاجتماعية والمتمثل في رمزية العذرية والشرف، وهي ممارسة تطال الذكور والإناث ولكن على الإناث بالأكثر.

التصفيح في التمثل الاجتماعي

سننطلق هنا من الأمثال الشعبية التي تجسد التمثلات الاجتماعية للأنثى في المجتمع التونسي ورغم تغير النظرة للمرأة وفاعليتها داخل المجتمع لكن مع الأسف مازالت هذه الأمثلة متجذرة في الكثير من العوائل التونسية، كخبرات مقدسة لا جدال ولا سجال فيها، ومن هذه الأمثال نجد “البنات دفلة” والدفلة هو نوع من النبات المر الذي لا يصلح لشيء، كما نجد أيضاً “الولد عمارة والطفلة خسارة” بمعنى أن الولد هو الامتداد والاستمرار للعائلة بينما الفتاة هي استنزاف لعائلتها.

ظاهرة التصفيح- الصورة من موقع “VICE”

وفي مثل شعبي آخر نجد “البنات للعفن والولد للكفن” بمعنى أن البنات هن مصدر الوبال وأما الذكور فهم معصومون إلى الموت، أما بخصوص الشرف فنجد “إذا ما جابتش العار تجيب العدو لغاية الدار” بمعنى أن الفتاة إما تجلب العار لعائلتها أو العدو، وفي مثل آخر نجد “الّلي عندو طفلة في الدار عندو كوشة من نار” بمعنى من لديه فتاة في المنزل كمن له “تنور مشتعل”.

ومن خلال هذه الأمثلة الشعبية نستجلي دونية مكانة المرأة مقارنة بالرجل فهي مصدر تهديد لعائلتها ولرأسمالها الاجتماعي، لذلك يعد “التصفيح” رغم تحريمه دينياً، الوسيلة الوحيدة لحماية هذا الرأسمال، وهي عملية الغرض منها تحصين جسد المرأة حتى لا تقيم علاقة جنسية خارج الإطار الشرعي والاجتماعي، فمن خلال هذه العملية يتشكل رباط وثيق يتمثل في “جني” يحمي جسد الأنثى ويحرسه حتى لحظة زفافها، وهي عادة شعبية تهدف إلى عرقلة الرجل الذي يرغب في معاشرة المرأة المصفّحة.

وقد ذكرنا في المقال السابق ذكره تفاصيل “عملية التصفيح” والتي تختلف أدواتها من منطقة الى أخرى ولكن النقطة المشتركة هو دم الفتاة المصفحة وكذلك الجملة القولية المنطوق بها في سياق انجاز هذه العملية وهي “أنا حيط وولد الناس خيط” والتي تقلب حين يتم فك رباط العذرية ليلة الزفاف.

كما أن “السكر والزبيب، التمر، المغزل والمنسج” كلها آليات لإنجاز “عملية التصفيح”، وهنا نستجلي أن الجسد الأنثوي هو جسد الـ “هم” وليس جسد الـ “هي” وبالتالي نحن هنا نتكلم عن  الجسد الجماعي ولا وجود لجسد فردي وهذا ما نصت عليه المعايير الاجتماعية والقيمية “للجسد الاجتماعي” كما أسماه أوغست كونت، كما أن الذكور ليسوا بمعزل عن مثل هذه الممارسات طبعا ليس كالفتيات، فهذه الممارسة عادة ما تمارسها بعض العائلات المحافظة والمتدينة لحماية أبنائها الذكور من العلاقات الجنسية غير الشرعية تفادياً للوقوع في “المحرمات” بالمفهوم الديني وكذلك حماية له من الأمراض المنقولة جنسياً خاصة في ظل ارتفاع نسبة المصابين بـ”السيدا”، وممارسة “التصفيح” لهم لا تتم كما الفتيات فعنصر الدم غير موجود لكن مع المحافظة على رمزية الرقم سبعة الذي ذكرنا تفاصيله في المقال السابق، أما المادة الأساسية في العملية هو القفل والذي نسميه في اللهجة العامية في تونس بـ”الشروليه”، فالأم تضعه بين ساقي ابنها وتديره سبع مرات مرددة في كل مرة ” سكرتك بالشروليه على كل مرا وبنية” بمعنى أغلقت عليك بالقفل حتى لا تمارس الجنس مع اية امرأة او صبية. ولكن للقارئ أن يتساءل حول فاعلية وجدوى هذه الممارسة وما مدى مصداقيتها.

التأثيرات النفسية لظاهرة “التصفيح”

يذهب المختصين في علم النفس إلى أن ظاهرة “التصفيح” ليس تأثير مادي على جسد الفتاة وإنما التأثير الفعلي هو نفسي بالأساس وردود الفعل الجسدية والفيزيولوجية للفتاة أو للشباب هي نتيجة الإيحاء الذاتي المتلقي من المحيط، وهو ما أكده جودلي الذي يعتبر أن الإيحاء هو عبارة عن فكرة نطلقها ونتبناها وهو ما سيؤثر على الإدراك من ثم على الذاكرة وأخيراً على السلوك، وعادة ما تكون هذه الفكرة توجيهية وهي اما تكون قولية أو فعلية والهدف منه التأثير على الآخر، وهذا ما ينطبق فعلياً على المصفح والمصفحة، فعندما تترسخ طقوس التصفيح في الذاكرة فإنها تنعكس بشكل أو بآخر على رادات الفعل الجسدية.

ولذلك عادة ما تصاب العديد من الفتيات بالتشنج المهبلي والذي يعني التقلصات اللاإرادية للعضلات المهبل، وهو ما يتسبب في انغلاقها وعدم قدرتها على الاتساع اللازم لإتمام عملية الجماع، وهو ما يترجم الرهبة والخوف من الجماع سيما في ليلة الزفاف نظراً أيضاً للأفكار المسبقة التي تتلقاها الفتيات بخصوص الليلة الأولى وما يصاحبها من آلام، ويمكن أن تلازم هذه الحالة النساء لفترات طويلة وهو ما يجعلهن يعانين إرهاصات نفسية وجسدية مع الشريك، والأنكى أنهنّ يعزن ذلك لبقايا تأثيرات الجن وتسلّطه عليهن، ويلجأن للمشعوذين عوض المختصين. 

أما بالنسبة للذكور فعادة ما يكونون متحمسين لإثبات فحولتهم ليلة الزفاف وهو ما يصيبهم بالقلق والتوتر ويجعل الجسم يفرز “هرمون الكورتيزول” الذي يؤثر على قدرتهم الجنسية.

كما أن التوتر والضغط العصبي المصاحب لهم في هذه الليلة يؤدي إلى انخفاض هرمون الذكورة “التستوستيرون” ما يؤثر على قدرتهم الجنسية وبالتالي ضعف الانتصاب وارتخاء العضو الذكري وهو ما يعني فشل العلاقة الجنسية، وكالنساء أيضاً يلتجأ الرجال إلى المشعوذين عوض المختصين والكثير منهم من يعيشون هذه الحالة لسنوات طويلة يصل بالكثير والكثيرات منهن إلى الطلاق.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات