عرفت المرأة عبر التاريخ بماهيتها الجسدية، فلطالما تغنى الشعراء بمميزات الجسد الأنثوي التي وظفته المجتمعات قديماً لإمتاع الرجل جنسياً، ناهيك عن ربطه بالدين والعرف والتقاليد. فنجد أن الضمير الجمعي المتوارث جيلاً عبر جيل قد رمز الجسد الأنثوي وشحنه بعدة قيم مثل “شرف العائلة”، “العرض”، “النقاء والعفة”، وكلها تتجلى في عذرية الفتاة وهو ما تجذر في المخيال الذكوري إلى اليوم، فبكارة الفتاة هي شرف العائلة ومن ثم القبيلة أو العشيرة.

لقد جسدت بعض المجتمعات ومنها العربية فكرة أن القيمة الوحيدة للمرأة تتمثل في عذريتها، ومع مرحلة عبورها من فتاة عذراء إلى امرأة متزوجة يصبح جسدها وسيلة لإمتاع زوجها، كما أنها تفقد حق ملكيته الذي يتحول إلى ملكية زوجها لذلك تصبح بمنطق هذه المجتمعات “حرمة”، وبالتالي يعد الحق الجنسي أمراً مباح للرجل دون المرأة. وهو ما أشار إليه ميشال فوكو في كتابه عن تاريخ الجنسانية “استعمال اللذّات”، بقوله “إن مصادرة الجنس ليست وليدة الحاضر الراهن بل تعود في جذورها إلى الحضارات الذكورية القديمة، وإلى النزعة الأبوية التي شكّلت نظاماً أخلاقياً أضفى الشرعية على سلطة الذكر بعد أن تمكن من ضبط حركيّة جسد المرأة وتقنين فعلها الجنسي، وبالتالي تحديد حركتها ومصادرة حريتها. وهكذا نشأت منظومة من القيم والأعراف الاجتماعية والأخلاقية التي تعكس المباحات والمحرمات في المؤسسة الذكورية”.

ومن الضوابط الحركية التي أشار إليها فوكو، نجد الختان في مصر والسودان وبعض البلدان الأخرى، والهدف منه اخماد شهوة الفتيات نظراً للمتغير الثقافي والاجتماعي الذي مكن الأنثى من الولوج إلى الفضاء العام الذي كان حكراً على الذكور، أما في البلدان المغاربية والتي منها تونس فنجد ظاهرة “التصفيح” وهي ظاهرة مباحة أخلاقيّاً رغم تعارضها مع المنظومة الدينيّة لأنها من الممارسات السحرية، الهدف منها حماية شرف الفتيات وبكارتهن خاصة اللواتي يدرسن أو يعملن بعيداً عن عوائلهن.

ما هو “التصفيح”؟

“التصفيح” هو ممارسة سحرية قولية وفعلية، الهدف منها تحصين الجسد الأنثوي، وهي تمر بمرحلتين الأولى هي مرحلة “الغلق” وتتم قبل بلوغ الفتاة وذلك بإحداث جرح بفخذها ومن ثمة جلب سبعة تمرات أو سبع حبات من الزبيب وتلطيخها بذاك الدم وتجبر الفتاة على أكلها مع ترديد الجملة التالية في كل مرة ومع كل حبة “أنا حيط وولد الناس خيط”، وأما المرحلة الثانية فهي مرحلة “الحل” وتتم يوم الدخلة، وفيها تتم نفس الممارسة الأولى لكن بقلب الجملة الأولى وذلك بترديدها “أنا خيط وولد الناس حيط”، “فتترسخ هذه الجملة في ذهن الطفلة وتتسرّب إلى مخزونها اللاشعوريّ”، أما عن فعالية هذه الممارسة فهنا يذهب بعض الدارسين لهذه الظاهرة إلى المزاوجة بين ما هو نفسي وما هو بيولوجي إلى حد التآلف فينجر عنه استعصاء عملية الجماع.

ويكمن السحر في هذه الممارسة في دلالة الرقم سبعة، فهو مرتبط في المخيال الشعبيّ وفي الذاكرة الجماعية بموروث دينيّ وأسطوريّ محمّل بالرموز: السماوات السبع في الإسلام، العوالم السبعة العليا والسفلى، التقمص والسبع حيوات في الهندوسية، خطوات بوذا السبعة، وقبائل الجنّ السبع.

فعمليّة التصفيح في اعتقاد ممارسيها هي توكيل “جني” بحراسة عذرية الفتاة، ومنع أي رابطة جنسية لها حماية “لشرفها” وبالتالي لشرف العائلة ومازالت إلى اليوم العديد من العائلات في تونس تعتمد هذه الطقوس وتتوارثها اعتقاداً في نجاعتها، كما أن هذه الظاهرة لا ترتبط بأوساط اجتماعية بعينها بل هي تمارس في كل الطبقات الاجتماعية وباختلاف مستوياتها العلمية، لكن بشكل أكبر في المجتمعات الريفية.

الجسد الأنثوي في الفضاء العام

ترى فاطمة المرنيسي “أن هويتنا في نسقها التقليدي هي أساسا جنسية، بحيث أن مفهوم (الشرف) يربط سمعة الرجال والنساء بمصير جهازهم التناسلي. فالرجل الذي لا ينجب، لا تنسب إليه الفحولة، كما ذلك الذي لا يتحكم في (حريمه). فالخوف من ارتياد النساء للفضاء العام هو خوف من تدنيس (فحولة) الرجل، لأنهن سيكن محل ملاحقة من أعين الرجال الغرباء وبالتالي، فالرجل المحترم ليس ذلك الذي يدير ثروة اقتصادية ما ولكنه بالإضافة إلـى ذلك، الرجل الذي يتحكم في سلوك زوجته وبناته وأخواته الجنسي، وليس بوسعه أن يحقق ذلك إلا إذا كان قادراً على ضبط تنقلاتهن والحد من حركتهن، وبالتالي التقليل من فرص التقائهن مع رجال أجانب قد يدنسن معهم شرف العائلة”.

وهذا الاعتقاد مازال سائداً إلى اليوم في العديد من المجتمعات المختلفة. ولكن الحقيقة الفعلية التي وجب الاعتراف بها أن الخوف الأساسي من ولوج المرأة للفضاء العام هو خوف من تحررها وانسلاخها عن المرجعية الذكورية وبالتالي تقويض هيمنتها، ولذلك فإن حضور المرأة داخل الفضاء العام هو مزاحمة لسلطة الرجل وهو ما سيخلق نوعاً من الفوضى خاصة وأن هذا الحضور أساسه التكافؤ والمساواة وطبعا هذا الأمر يعد مرفوضاً، كما أن اختراق المرأة للفضاء العام معناه تغيير في ضوابط هذا الفضاء وقوانينه، وهو ما يعد كسر للقيم الاجتماعية المحددة للأدوار كلا الجنسين.

تعددت أشكال العنف الممارس ضد النساء في المجال العام، فنجد تعرضها للعنف المادي واللفظي وقد ظهرت عدة ممارسات مروعة ضد المرأة ارتبطت بحريتها الشخصية في اللباس كظاهرة “التشريط”

ويعد التعليم من أهم الآليات التي مكنت المرأة من الحضور في هذا الفضاء، كما أنها في ذات الوقت أصبحت فاعلة اقتصادية ولم تعد أسيرة الفضاء الخاص الذي يضبط حضورها ودورها في الإطار الأسري، وهذا التغير شمل حتى المرأة الريفية وإن كان بدرجة أقل من المناطق الحضرية.

لكن هذه الصور الإيجابية في ظاهرها تحمل في طياتها سلبيات جذرتها المنظومة الذكورية، ذلك أن مرحلة عبور المرأة من الفضاء الخاص إلى الفضاء العام ولد وأجج عدة صراعات أساسها تباين الهويات، وهذا ما أشارت إليه الباحثة في الأنثروبولوجيا Anne M. Lovell بقولها “إن التحديث الذي لحق بالقطاعات الاجتماعية، قد أضاف بعداً آخراً لرهانات الفضاءات العامة، حيث إن البعد الفضائي لهذه الأماكن يكشف لنا عن نوعية الروابط الموجودة فيها، كما أن هذه الأماكن تسمح بفهم نوعية العلاقات الجنوسية المختلطة والمختلفة، وبالتالي فالفضاءات العامة للمدن “الحديثة”، تظهر على أنها تنبثق من بؤرة نزاع وتعارض للمصالح، من المفاوضات ومن الصراع ما بين الجماعات المختلفة، ما بين النساء والرجال…، حيث يتجلى هذا الصراع في كل محاولة خوصصة جنسية للمدينة أو للهيمنة عليها”.

ورغم أن ديناميات التغير تستوجب حضورها كفاعلة ومؤثرة، لكن الفكر الذكوري مازال إلى اليوم يحاول اقصائها وابعادها بغية استرجاع حضوره وهيبته التي باتت تتلاشى، وهذا ما حذا بالذكور بممارسة كل أشكال الإقصاء والعنف الذي يعد أحد آليات الهيمنة الذكورية على الفضاء العام، وهو ما نجد له تبرير بل ومساندة من قبل المجتمع والمؤلم من قبل النساء في حد ذاتهم، وهو ما يفسر الثقافة والقيم السائدة داخل المجتمع، لأنه إلى اليوم مازال الحس المشترك ينظر إلى المرأة ككائن يهدد حضوره النظام الاجتماعي.

ظاهرة التصفيح- الصورة من موقع “VICE”

وبالتالي تعددت أشكال العنف الممارس ضد النساء في المجال العام، فنجد تعرضها للعنف المادي واللفظي وقد ظهرت عدة ممارسات مروعة ضد المرأة ارتبطت بحريتها الشخصية في اللباس كظاهرة “التشليط” وهذه الظاهرة برزت بين فترات مختلفة في تونس وهي عبارة عن اعتداء شباب من الذكور على النساء بالموس (آلة حادة) نظرا لأن لباسهن لا يتماشى مع معايير المنظومة الثقافية والاجتماعية السائدة، كما أن ظاهرة التحرش الجنسي جداً مستفحلة في الفضاء العام ولا يوجد لا رادع اجتماعي على الرغم من تجريم هذه الظاهرة في العديد من البلدان إلا أن المنظومة الاجتماعية تدعم هذه الممارسة وتحمي فاعليها، لأنهم مدافعين عن المنظومة الأخلاقية للمجتمع، وتعد النساء أكثر الداعمين لمثل هذه الممارسات. باعتبار أن المرأة هي مكمن الإغراء والانحلال الأخلاقي.

على الرغم من التطور الثقافي والاجتماعي لجل المجتمعات العربية إلا أن إشكالية الجنوسة والحداثة وحضور المرأة في الفضاء العام يشكل لها إشكالاً فعلياً في كيفية إدارة هذا التحول الاجتماعي دون الخروج عن معايير المنظومة التقليدية، ولهذا تم إدخال الممارسات السحرية التي ذكرناها آنفاً طبعاً إلى جانب ختان الإناث، كوسيلة لتحقيق التوازن في حضور المرأة في الفضاء العام، والغاية منه حماية الذكور أولاً من الإنحلال الأخلاقي عن طريق كبح رغبات المرأة الجنسية، وتفعيل حضور وديمومة المرجعية الذكورية ثانياً من خلال إحكام السيطرة على الجسد الأنثوي، وبالطبع هذا الأمر بمباركة اجتماعية وثقافية موظفة الوازع الديني لتقديس ممارساتها، لهذا إلى اليوم مازلنا نرى جرائم ضد المرأة تحت ما يسمى “جرائم الشرف” وهي لا تتعلق به بالأساس بل تتعلق عادة بالميراث، ويتم التستر على هذه الجرائم لأنه للأسف في العديد من البلدان العربية اليوم لا يتم إعدام مرتكبي جريمة الشرف بل يتم عقابه بعقوبة رمزية. وهذا ما يحيلنا إلى تناقض الفكر الاجتماعي الذي يصنف جسد المرأة كمدنس اجتماعي، ولكنه في المقابل يعتبره مقدسا لمتعة الرجل الجنسية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات