يمثل التغلغل الثقافي إحدى الأدوات ووسائل القوة التي تباشر بها الدول إدارة مصالحها السياسية والاقتصادية. ولا تعدو عمليات تبديد الهوية أو صناعة هوية متخيلة شمولية مجرد كونها آلية استعمارية تمارسها الدول الخارجية لتحقيق مطامعها التوسعية، وكذا إيجاد رافعة ناعمة ومستترة لأهدافها العسكرية الخشنة ورغبتها في تدشين قواعد أمنية واقتصادية، بل قد تمارسها الحكومات والأنظمة الفاشية والتوتاليتارية لجهة تعميم نموذج (بارديغم) ثقافي وقومي وديني هوياتي لا يمكن تخطيه، بينما تضحى هذه النماذج بمثابة كتل صلبة تنبذ الاستثناءات وتقمع التنوع وتسعى لمحو أي تمرد تخوضه أطراف أخرى تسعى عن استحقاقاتها التاريخية. ذلك بالأحرى ما ينطبق على “أنظمة البعث” في سوريا والعراق.
ففي ظل تلك الأنظمة، وتحولاتها وانتقالاتها السياسية والإقليمية والميدانية، كان “حزب البعث” يمارس هذا الدور من خلال تعميم ثقافة وهوية مؤدلجة، بحيث تخدم سياساته البراغماتية، وتبدأ رهاناته القومية “الوحدوية” و”العروبية” متصلة بشكل متعسف وانتهازي تصوراته عن الشخصية “الوطنية/ السورية”، ما يؤدي لولادة عنف ضد أي شخصية أخرى تفترض لها خصوصية هوياتية داخل الإطار الوطني حتى، السرياني، الكُردي، الدرزي، وربما العربي المتحرر من الحمولة البعثية.
يبدو أن الوجود الثقافي الروسي وتوغله بالبنى الثقافية والتعليمية فضلا عن الاجتماعية بسوريا، له جملة دوافع، منها حفر موسكو قواعد متينة لوجودها وبقائها الاستراتيجي لتعميق نفوذها وذلك جنبا إلى جنب مع وجودها العسكري، بالإضافة إلى مزايحة الوجود الإيراني المنافس الإقليمي لسياسة بوتين الذي يسعى لتأمين مصالحه في شرق المتوسط، وإيجاد موطئ قدم على ساحل المتوسط.
ومع اندلاع الحرب السورية، وانخراط قوى إقليمية روسية وإيرانية، خضعت الشخصية السورية، بتنوعاتها، وفي سبيل بحثها عن عقد اجتماعي جديد يسمح بوجودها داخل حيّز ديمقراطي، لنطاق جديد يحبس الهوية السورية داخل مصالح سياسية واقتصادية وأمنية ضيقة، كما هو الحال مع التغلغل الروسي والإيراني ثقافيا.
تزايد في دراسة اللغة الروسية
وبحسب الأرقام الرسمية لوزارة التربية السورية، فمن الملاحظ تضاعف المقبلين على تعلم اللغة الروسية بالمدارس السورية، وبلغت نحو 39500 طالب وطالبة من الصف السابع الأساسي وحتى الثاني الثانوي.
ويأتي ذلك مع اقتراب الذكرى التاسعة للتدخل العسكري الروسي في سوريا بحلول يوم 30 أيلول/سبتمبر 2024.
منذ عام 2015، شهدت الساحة السورية تزايدا ملحوظا في دراسة اللغة والثقافة الروسية، على المستويين الرسمي والشعبي، وانتشرت كلمات روسية مثل: “بريفييت – مرحبا” و”كاك ديلا – كيف حالك”، و”سباسيبا – شكرا”، وغيرها؛ وهو ما يمكن ملاحظته على النحو التالي، تدريس الروسية في المناهج السورية كلغة ثانية، حيث بدأ تدريس اللغة الروسية في المناهج التعليمية السورية بصفة رسمية ابتداءً من عام 2015، بحيث أصبحت لغة اختيارية ثانية من اللغات الأجنبية، إلى جانب الإنجليزية والفرنسية، في مرحلة التعليم الأساسي، وفق “مركز المستقبل“.
هذا فضلا عن إيجاد لجنة مشتركة لتطوير المناهج الدراسية، وقد تسلمت وزارة التربية السورية، في آب/أغسطس الماضي، حوالي 5 آلاف كتاب لمنهج تعليم اللغة الروسية للصف السابع الأساسي، وهو الكتاب الذي تم تأليفه من قبل لجنة مشتركة من وزارتي التربية السورية والروسية ليتم تدريسه بشكل تجريبي في العام الدراسي الجديد في ست محافظات سورية هي: دمشق، وحمص، وطرطوس، واللاذقية، والسويداء ودرعا، وفق “مركز المستقبل”.
ثم توفير منح دراسية في الجامعات الروسية، فتم تدشين قسم للغة الروسية في جامعة دمشق في العام الدراسي 2015. كما كانت إحدى ثمار التعاون المشترك بين وزارتي التربية الروسية والسورية في السنوات الماضية حصول ألف طالب وطالبة سوريين سنويا على منح دراسية في جامعات روسية؛ ليصل عدد الدارسين السوريين في هذه الجامعات إلى 5 آلاف طالب وطالبة منذ عام 2019 وحتى الآن. فضلا عن افتتاح ستة صفوف دراسية في وزارة التربية السورية منذ عام 2020 لتعليم اللغة الروسية عن بُعد عبر شبكة الإنترنت، طبقا للمصدر ذاته.
روسيا تبني قواعد متينة لوجودها بسوريا
بالتالي، هناك عدة ملاحظات هنا، تتمثل في أن الوجود الثقافي وتوغله بالبنى الثقافية والتعليمية فضلا عن الاجتماعية بسوريا، له جملة دوافع، منها حفر موسكو قواعد متينة لوجودها وبقائها الاستراتيجي لتعميق نفوذها وذلك جنبا إلى جنب مع وجودها العسكري، بالإضافة إلى مزايحة الوجود الإيراني المنافس الإقليمي لسياسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يسعى لتأمين مصالحه في شرق المتوسط، وإيجاد موطئ قدم على ساحل المتوسط.
وفي ما يبدو أن روسيا تعتمد استراتيجية “الاتحاد السوفييتي” التقليدية باستخدام أسلوب القوة الذكية المشترك بين القوة الناعمة والقوة الصلبة لتوسيع علاقاتها وتعزيز حضورها ونفوذها في البلدان المستهدفة. وقد كانت سوريا دائما لها طبيعة مركزية في محور الشرق الأوسط ولدى المدار السوفييتي، نظرا لأهميتها الاستراتيجية في توفير الوصول البحري وأيضا بسبب نفوذها لمرة واحدة بين الدول الأخرى.
وقد ساعد “الاتحاد السوفييتي” في تشكيل استراتيجية القومية العربية وبناء تحصينات على الطراز الاشتراكي في المناطق الاستراتيجية لموازنة النفوذ الغربي وتسليح المناطق الاستراتيجية نحو نشر أيديولوجيته وحتى الإرهاب، حسبما توضح الباحثة الحقوقية الأميركية المختصة في شؤون الشرق الأوسط إيرينا تسوكرمان، موضحة لـ”الحل نت” أنها لم تقتصر هذه الاستراتيجية على الشرق الأوسط فحسب؛ فقد أصبحت اللغة الروسية أداة قوة ناعمة مفضلة في إفريقيا وأميركا اللاتينية وحتى أجزاء من آسيا، حيث تبنى النشطاء أسماء روسية وأسماء زعماء سوفييت لتسمية أطفالهم.
كما كانت الدبلوماسية الثقافية، بحسب الباحثة الأميركية إيرينا تسوكرمان، واحدة من الركائز الأساسية للتواصل السوفييتي؛ اشتهرت موسكو بدعوة وتطرف المؤيدين الاشتراكيين المتحمسين من جميع أنحاء العالم في جامعتها الدولية التي تحمل اسم “باتريس لومومبا”.
لقد كان السوريون جزءا كبيرا من هذه الحركة، ولهذا السبب قد نصادف حتى يومنا هذا سوريين يتحدثون الروسية. ولكن استخدام اللغة الروسية لتأسيس الوجود ليس شكلا غير ضار من أشكال العلاقات العامة. ففي الكتلة السوفييتية السابقة ـ آسيا الوسطى، ودول البلطيق، وأجزاء من أوروبا الشرقية والوسطى، وفق تسوكرمان.
وتابعت: “فُرضت اللغة الروسية على السكان المحليين لغرس التبعية للحزب الشيوعي المركزي، ومحو الهويات المحلية، ومنع إمكانية ظهور حركات الاستقلال. وفي حين تعمل روسيا الحديثة على إعادة إحياء روابطها وأصولها القديمة والعودة إلى نموذج استخدام المؤسسات الثقافية لبناء التحالفات، فإنها لا تتمتع بعد بالقدرة التي اكتسبتها داخل حدودها على جعل اللغة الروسية اللغة السائدة أو حتى المفضلة. ولكن الخطوة الأولى تتمثل في بناء الألفة والتقارب الثقافي، وتعويد الشباب السوريين على وجه الخصوص على هذا الجسر الثقافي، ومع مرور الوقت مساعدتهم على التحرك في اتجاه المزيد من الولاء المباشر والنظر إلى موسكو باعتبارها الأخ الأكبر المحسن. إن هذا مشروع لأجيال، وخاصة في ضوء فشل الولايات المتحدة في هذا الصدد”.
روسيا والصين وإيران.. مشاريع عدائية بالمنطقة
فيما ترى روسيا فرصة يمكن استغلالها بمرور الوقت ليس فقط لجعل سكان الشرق الأوسط معادين لأميركا، ولكن لجعلهم مؤيدين لروسيا ومخلصين لها، بحسب تسوكرمان.
وأسباب هذا الاهتمام عديدة وتتجاوز الحفاظ على الوجود العسكري والاستراتيجي أو جني عقود وروابط مربحة في مجال إعادة الإعمار أو الطاقة أو الحبوب أو غيرها من العقود الاقتصادية. إذ تتطلع روسيا إلى تعويض الخسائر البشرية والاقتصادية التي تكبدتها بسبب الحرب في أوكرانيا؛ وتجديد صفوف عملياتها العسكرية والاستخباراتية بالمتطوعين والمجندين والعملاء الأجانب هو بالتأكيد جزء من خطتها لضمان استمرارية أجندتها الجيوسياسية.
ولكن روسيا تواجه عقبات كبرى في هذا الصدد، إلى جانب التأثير المباشر للحرب في أوكرانيا على قواتها ومعداتها العسكرية، الأمر الذي استلزم نقل المقاتلين والأسلحة من سوريا وأعطى إيران مساحة أكبر لممارسة نفوذها. وتشمل هذه العقبات تأثير الوجود الصيني، والأهداف الإيرانية المتضاربة على المدى الطويل، واحتمال التعاون العسكري بين إسرائيل وأوكرانيا، اللتين تنظران بشكل متزايد إلى الوجود الإيراني والروسي المتزايد في العالم العربي باعتباره تهديدا أمنيا.
كما تعمل الصين على تصدير نموذجها اللغوي إلى الشرق الأوسط؛ على سبيل المثال، تبنت المملكة العربية السعودية مؤخرا تعلم اللغة الصينية في مدارسها، ويتلقى الدبلوماسيون الصينيون تدريبا في الدول العربية منذ الولادة، وفق الباحثة الحقوقية الأميركية المعنية بشؤون الشرق الأوسط، فيكتسبون الطلاقة في اللغات والعقلية المحلية.
كما شجعت الصين التبادلات التعليمية والثقافية وحتى العسكرية ولديها التركيبة السكانية الأكثر أهمية والاقتصاد الأكبر للاستثمار في مثل هذه المشاريع. والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن إيران بدأت الآن فقط في اتباع مسار روسيا نظرا لأن الاستعمار الجديد الإيراني يسير على نفس المسارات، مع فرض التوافق الثقافي بين العرقيات غير الفارسية داخل حدودها، بما في ذلك العرب الأحوازيين والأكراد والأذربيجانيين، أو تجنيد الأجانب لألويتها العسكرية، بما في ذلك الأفغان والباكستانيين، أو في هذا الصدد، استخدام الميلشيات العربية والإفريقية لتنفيذ توسعها العسكري والسيطرة على دول أخرى.
ويعاني الاقتصاد الإيراني أيضا، وحتى الآن، منعتها استراتيجية الاعتماد على الميلشيات العربية أو تفويض القادة المحليين مثل الرئيس السوري بشار الأسد من أن تكون فعالة تماما في الهيمنة الثقافية، خارج المجال الديني. ومع ذلك، حتى في العراق، بدأت إيران في بناء الجامعات، وهي لا تزال في حاجة إلى المزيد من الدعم.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.