ثمة نظرة ضيقة تم فرضها وتعميمها على مناطق الجزيرة السورية وضفتي الفرات، قائمة على الإقصاء والعنف، وهي ضمن سياسات “البعث” المستمرة لعقود ليست بالقليلة، بينما لم تنته آثارها، حتى اللحظة الراهنة. 

وما زالت النظرة تقوم على اعتبار تلك المناطق بيئة لاستغلال الموارد الغنية سواء كانت الطاقة أو السلال الغذائية المختلفة من قمح وشعير. غير أنها في المقابل تعاني من التهميش وغياب التنمية السياسية والمجتمعية، نتيجة السياسات المركزية التي تجعل الخدمات والإمكانات في نطاقات محددة، مثل دمشق ورديفاتها السياسية في عدة محافظات تتمركز فيها السياسات المركزية ذاتها. 

فضلا عن ذلك، ارتبطت تصورات عن تلك المناطق ترى في أي محاولة جادة لإدارة الموارد بشكل عادل، ينجح في التنمية، بأنها حرمان لمناطق المركز، لا سيما في ظل خطابات كراهية وتحريضية، عمدت إلى اعتبار موارد مناطق الجزيرة بأنها استحقاق للآخرين حتما. 

سوريا.. صراع المركز والهامش

هذه التصورات شكلت جزءا من الوعي السياسي في صراع المركز والهامش بسوريا، وقد انتقلت من الحيز الاقتصادي والتنموي الذي لا يرى ثمة أحقية في التطور والبناء بمناطق الجزيرة وعموم المحافظات الشرقية (الحسكة والرقة ودير الزور)، إلى السياسي، وتبنى البعض خطابا عنيفا وصل إلى حد اعتبار إدارة أبناء تلك المناطق لمواردهم بأنه بمثابة التعدي على استحقاقاتهم وحقوقهم، وذلك نتيجة غياب التعددية والمواطنية في الحقوق السياسية والخدمية والاجتماعية والاقتصادية. 

مشهد عام لدير الزور في سوريا- “أ ف ب”

وما زال إلى اليوم ومع التحولات التي شهدتها سوريا منذ سقوط نظام بشار الأسد وفراره إلى روسيا، تظهر جملة من الأحداث والخطابات تروج لفكرة أن موارد المناطق الشرقية بسوريا هي لغير أبنائها، ويتم نهبها من أصحابها المفترضين على حساب آخرين كانت سلطات “البعث” تراكم الثروات في حيزهم، وتجعلها ضمن امتيازاتهم مع حرمان المناطق الأولى من أي إمكانات تطورية وتجعلها في حاجة ملحة إلى النظام السوري السابق، وسياساته المركزية، وبما يمنع احتمالات التمرد على نمط الحكم. 

وفي حين فر رأس النظام وجزء ليس بالهين من نظامه، فإن السياسات التي دشنها ونمط الحكم الذي فرضه، ما زال بحاجة إلى إنهاء أفكاره وقيمه وتقويض خطاباته، ذلك ما يجعل من الضروري والملح أن تكون هناك رؤية أو مقاربة سياسية شاملة، تنبني عليها قيم المواطنية والتعددية في صيغتها الديمقراطية الحديثة. 

بعبارة أخرى، أن لا ينظر المواطن في سوريا لمواطن آخر بصيغة متعالية لمجرد اعتبارات مناطقية أو طائفية وقومية. فصيغة “نفطنا وقمحنا” التي تتردد من أطراف متباينة لتأكيد ملكية واستحقاق في أحد الموارد وتغييب في المقابل الطرف الآخر المواطني من هذه القيمة السلعية والاقتصادية، يلغي فكرة التبادلية كما التشاركية والتنافسية، بكافة معانيها في الحقوق الاقتصادية والسياسية. فمساحة جغرافية في سوريا لا ينبغي أن تلغي مساحة أخرى، وتراكم الثروات لا ينبغي أن تتم إدارته على نحو “المتروبول” العثماني، لحساب المركز بينما تعاني الأطراف من التهميش والإفقار. 

بل إن سوريا، كل سوريا، يتعين أن تكون “مفيدة”، وللجميع، من دون إحصاء استثنائي يجعل فئة لها امتياز بينما الفئة الأخرى مسلوبة الحقوق والصفات الوطنية، ظلما وعدوانا.

“سوريا المفيدة”

أما الاصطلاح البعثي المسيس حول “سوريا المفيدة” ويجعل من نطاق الجغرافيا الممتد بين دمشق وحلب وحتى الساحل السوري، مركز تراكم الثروات والنفوذ سياسيا واقتصاديا، هو مبدأ اقتصادي قائم على تطييف الواقع السوري، وحصره في المناطقية، وغلبة النموذج الأوليغاركي والذي خلق حالة زبائنية في السياسة، نجم عنها بالنهاية التهميش في مناطق شمال وشرق سوريا، والتعريف بها في نطاق محدود قائم على الاستغلال والنهب، والتوجس من وجودهم، ورفض حقوقهم التاريخية والثقافية خاصة من الكُرد.

من ثم، ظلت هناك سياسات عدوانية لا تتوقف لجهة جعل “سوريا المفيدة”؛ هي سوريا المتجانسة التي ليس بها تنوع أو تعدد سكاني وديمغرافي، عرقي قومي وديني وطائفي، وكانت الزبائنية السياسية تتصف بأنها الوسيلة التي تخلق فرصة لأطراف عديدة انتهازية تبحث عن شركاء محليين لإدامة السيطرة والهيمنة على مناطق الثروات الغنية.

يمكن القول إن المناطق الشرقية في الحسكة والرقة ودير الزور، خضعت رغم ثرواتها ومواردها الهائلة، فكرة أن تظل مناطق بعيدة ونائية أو بالأحرى يتم وضعها على الحافة، حافة الفقر والتنمية وعدم الإنماء.

سعى النظام البعثي في فترة حكمه، إلى أن تكون سياساته الزبائنية قائمة على تكريس ذاكرة انتقائية، بما يلغي ثقافة الآخر، ولتقليل الفجوة والتباين السكاني وتنوعه الثقافي والتاريخي، الأمر الذي يسهل عليها سياسات الهيمنة وملء نفوذه في مناطق الثورات بشمال شرقي سوريا. 

فتلك المناطق التي تعد السلة الغذائية لسوريا وتتوافر فيها ثروات نفطية هائلة، حيث تمثل الزراعة 25 بالمئة من الدخل القومي السوري، والنفط الغاز نحو 20 بالمئة؜ وفق تقارير صندوق النقد الدولي، خضعت لحكم حضارات متفاوتة آشورية وبابلية، وتنوع السكان فيها بين الكُرد والعرب. 

غير أن هذا التفوق الحضاري اللافت والتنوع في الثروات والموارد الاقتصادي (75 بالمئة من القمح وأكثر من ثلثي القطن فضلا عن النفط والغاز يتركز بشمال وشرق سوريا)، لم يؤسس إلى نهضة في تلك المناطق، بل عانى المواطنون فيها من غياب الخدمات الأساسية، بما في ذلك الصحة والغذاء، فضلا عن وقوع الثروات في حيز ضيق لمجموعة من المنتفعين. 

“المناطق النائية”

تبني الخطاب الإقصائي ضد أبناء تلك المناطق، لا يولد سوى العنف وشعور بالحقد، وهي ثقافة أمنية بامتياز. حيث إن إدارة الموارد بهذا الشكل المتعسف وحرمان مناطق كاملة من ثرواتها بل تعمد تهميشها وإخضاعها قسرا للمركز، اقتصاديا وخدميا وحتى ثقافيا، لا سيما مع سياسات التعريب جنبا إلى جنب مع سياسات التحقير وتشوية ثقافة وتاريخ الكُرد ذات الأغلبية السكانية في تلك المناطق، تم بصيغ أمنية وقمعية. 

يعاود بعض السوريين تلميحا أو تصريحا الإشارة إلى استحقاقهم بالموارد في الجزيرة والمناطق الشرقية وحرمان أهل الأخيرة الذين هم برأيهم “أجانب” و”غرباء” من تلك الامتيازات- “أ ف ب”

ونتائج هذه الـ”الأمننة” هي استدامة حالة التدهور في إمكانية التعايش على أسس مواطنية، واستمرار العداء بين المكونات المختلفة بين المجتمع السوري. وتفتيت هذا النسيج المجتمعي وتدمير نجم عنه مقاومة صيغ التعايش والمواطنية.

ويمكن القول إن المناطق الشرقية في الحسكة والرقة ودير الزور، خضعت رغم ثرواتها ومواردها الهائلة، لفكرة أن تظل مناطق بعيدة ونائية أو بالأحرى يتم وضعها على الحافة، حافة الفقر والتنمية وعدم الإنماء، حتى أن السوريين في ظل تبني خطابات عدائية تجاهها يكشف عن نجاح النظام البعثي وسياساته في جعلها لا تتماس مع الذاكرة الوطنية السورية، لدرجة أن الحديث عن إدارة أبناء المنطقة لمواردهم يضحى سرقة، وبدلا من الحديث عن إدارة متوازنة وتنمية بين المناطق السورية بشكل وازن ليس بطريقة المركز والهامش، يعاود بعض السوريين تلميحا أو تصريحا الإشارة إلى استحقاقهم بالموارد في الجزيرة والمناطق الشرقية وحرمان أهل الأخيرة الذين هم برأيهم “أجانب” و”غرباء” من تلك الامتيازات. 

مراجعة صيغ المواطنين لتفكيك وإنهاء تلك الحاجة يبدو عملية ضرورية وشاقة للململة النسيج الوطني خارج مجسات التوتر والعنف وضغوط القمع المفروضة بسياسات أمنية متوحشة. 

فمناطق الجزيرة الفراتية التي هي سلة غذائية لسوريا، ومصدر طاقتها، ومواردها الطبيعية كالفوسفات، هي لكل سوريا. كما أن أبناء تلك المناطق هم جزء من وجدان وثقافة ورأسمال سوريا الرمزي والثقافي، في تاريخها السياسي والثقافي والفني، وتشكل الجماعات والأفراد بمستوياتهم وإسهاماتهم المختلفة ميراثا سوريا يعكس التنوع والتعدد سواء كان كُرديا أو عربيا أو آشوريا أو سريانيا وغيرهم.

وبالتالي الفاصل بين ثقافة “الإحصاء الاستثنائي” الذي ألغى بجرة قلم كتل سكانية ورفض وجودها وعمد إلى إعدام الكُرد رمزيا كما تصفيتهم جسديا، من جهة، والقبول بالحقوق المواطنية، يتم بإعادة تعريف الهوية في إطارها الجامع. ذلك بعيدا عن صيغ الملكية كما في ترديد عبارة “نفطنا وقمحنا” ومقابلها عبودية حديثة وإذعان معاصر لأبناء الجزيرة ومناطق شمال وشرق سوريا بالتبعية والحتمية، واعتبارهم أعداءً افتراضيين وليسوا مواطنين طبيعيين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات