إن سقوط نظام بشار الأسد في سوريا يمثل نهاية المشروع الإيراني الأكبر في بلاد الشام. لقد استثمرت إيران قدراً هائلًا من الطاقة والموارد على مدى العقد الماضي لبناء نفوذها ووجودها في سوريا. وقد ساعد هذا الوجود إيران على نشر قوتها غربًا ونقل المواد إلى القوات التابعة لها والشريكة حول محيط إسرائيل. فالخسارة المفاجئة للأسد تحرم طهران من نقطة دخولها الرئيسية إلى بلاد الشام وتقلب الافتراضات والأفكار الأساسية التي كانت تشكل منذ فترة طويلة أساس الاستراتيجية الإيرانية في الشرق الأوسط.
فمع خسارة “محور المقاومة” للقادة في “حماس” وجنوب لبنان وسقوط الأسد، من المرجح أن يعطي الإيرانيون الأولوية في الأمد القريب لتحويل مركز ثقل المحور شرقًا إلى العراق واليمن. إن إيران تعتمد الآن أكثر من أي وقت مضى على قدرة وكلائها وشركائها على ردع الولايات المتحدة وإسرائيل. ومن المرجح أن تقضي إيران الأشهر والسنوات المقبلة في محاولة تعميق سيطرتها على هذه الجماعات وتزويدها بقدرات هجومية متقدمة بشكل متزايد.
وفي هذا السياق، يجب على العراق، بعد معايشته لما يحدث لكل أطراف المحور من اغتيالات وتدمير للبنى التحتية، أن يعيد حساباته ويسعى بكل طاقته للابتعاد عن الدمار والاغتيالات التي قد تكون من نصيبه إذا استمر في هذا المحور.
شبكة “محور المقاومة” في العراق
تشكلت شبكة “المقاومة” العراقية مع سقوط نظام صدام حسين في العراق عام 2003، حيث ساعدت إيران بعض الميليشيات الشيعية التي تشكلت ردًا على عنف النظام البعثي. وقد لاقت هذه المساعدة الإيرانية ترحيبًا في بعض المناطق الشيعية العراقية. وهنا ظهرت الهيمنة الشيعية على مدن كاملة في العراق، وهذا النفوذ الشيعي ما هو إلا هيمنة إيرانية ستجر العراق إلى مرحلة طويلة من الطائفية، معتمدة في ذلك على غياب التجربة السياسية الواعية لدى العراقيين. وكانت النتيجة تشكّل تجاورٍ إقليمي جديد يمتد من إيران إلى لبنان، يشمل الميليشيات في جنوب العراق، والحكومة السورية، و”حزب الله” في لبنان، مع ربط قوة القدس التابعة لـ “الحرس الثوري” الإيراني، وتدريبها وتزويدها بالأسلحة.

وقد بدأ في الخفاء ما عُبر عنه لأول مرة من قبل العاهل الأردني عبدالله الثاني في عام 2004 بمصطلح “الهلال الشيعي”. حيث دعم “الحرس الثوري” الإيراني الجماعات المسلحة داخل العراق، فوسع شبكته من الوكلاء الإقليميين واستخدمهم لمهاجمة القوات الأميركية. وفي الوقت نفسه، اهتمت النخب الحاكمة في إيران إلى حد كبير بالسياسة الداخلية العراقية، وطورت شبكتها من الحلفاء والشركاء بين الأحزاب السياسية العديدة في البلاد.
ومن بين الميليشيات التي دعمتها إيران كانت منظمة “بدر”، و”جيش المهدي” الذي شكله رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، والذي سينشق عنه لاحقًا “عصائب أهل الحق”، و”كتائب سيد الشهداء”، وحركة “حزب الله النجباء”. هذه الأخيرة كانت لها جذور عميقة في الحركة الصدرية وجيش المهدي، وستشكل فيما بعد ما يعرف بـ”قوات الحشد الشعبي”، التي تُعد جزءًا من “محور المقاومة” الذي تقوده إيران.
إلا أن الخبير الأمني العراقي مخلد حازم، في حديثه مع “الحل نت”، يقول: “علينا أن نفرق بين العراق في 2024 والعراق في 2003 صعودًا، حيث لم تكن الرؤية العراقية في ذلك الوقت واضحة، خاصة مع تشكيل الحكومات التي كانت تُدعم في أغلب الوقت من طهران، التي كانت تفرض رؤيتها ومعطياتها على الأرض، مما جعل الحكومة العراقية غير مستقلة في القرار السياسي. هذا الوضع بالتحديد كان هو البيئة الحاضنة للتدخل الإيراني وما صاحبه بعد ذلك من تداعيات”.
وبحسب حازم، فإن إيران عملت منذ 1991 على بناء كيانات ومصدات لها في عديد من الدول، وعملت على تقوية هذه الكيانات ودعمها حسب طبيعة الدول التي توجد فيها، وبالتالي جعلتهم محورًا ضامنًا لها في تلك الدول، وفوضتهم لتحقيق مكاسبها، وأهمها البرنامج النووي الخاص بها. لكن بعد التطورات الأخيرة في الشرق الأوسط، يمكن القول إن إيران تلقت ضربة قاسية وكُسرت هيمنتها، خاصة بعد الأحداث في جنوب لبنان وما يحدث في سوريا، وسقوط النظام الذي كان يعد العمود الفقري لـ “المقاومة”. فهي الآن تعود إلى أدراجها خاسرة.
“داعش” ورقة ضغط إيرانية
أصبحت هذه الجماعات أكثر تشددًا، وبمساعدة إيران أصبحت أكثر قوة كقوة قتالية، مما أدى إلى مزيد من النفوذ الإيراني تحت عنوان “محور المقاومة” في السياسة العراقية. وقد بلغ نفوذ إيران على السياسة العراقية ذروته بعد أن أعلنت الولايات المتحدة انسحاب قواتها من العراق في عام 2011.
وتقدم صعود تنظيم “داعش” في عام 2014 إلى العراق كوسيلة لتعزيز موطئ قدم إيران، حيث قادت الميليشيات المدعومة من طهران الهجوم ضد الجماعة المتطرفة “داعش”. إلا أن أحد السيناريوهات الواردة هو أن طهران فتحت أبواب العراق لـ”داعش” حتى تستطيع أن تثبت أقدام الجماعات المسلحة التابعة لها، مما يتيح لها التحكم في السياسة العراقية تحت شعار محاربة التنظيم.
وفي حديث مع ناجح النجار، الكاتب والباحث في مركز “أبعاد” للدراسات الاستراتيجية، قال لـ”الحل نت”: “الحشد الشعبي يعدّ ضمن أذرع إيران في المنطقة للعبث بأمن واستقرار الدول العربية، تمامًا كما تفعل إيران مع حزب الله في لبنان والحوثي في اليمن”. ولفت إلى أن إيران لم تكتفِ بتسهيل دخول “داعش” إلى العراق، بل أنشأت قوات “الحشد الشعبي”، التي عانى منها العراقيون لسنوات طويلة.
وأضاف أن سجل مليشيا “الحشد الشعبي” في العراق حافل بانتهاكات ترقى إلى جرائم تطهير عرقي، خصوصًا في المدن التي تمت استعادة السيطرة عليها من تنظيم “داعش” الإرهابي. وقد وثّقت منظمات حقوقية محلية ودولية هذه الجرائم التي تضمنت التعذيب، والإخفاء القسري، وقتل المدنيين والأسرى تحت التعذيب، ونهب المدن والبلدات قبل حرق ونسف آلاف المنازل والمحال التجارية.
هناك علاقة وثيقة بين دخول “داعش” إلى العراق وإنشاء قوات “الحشد الشعبي” الموالية لإيران، حيث قامت طهران بإنشاء هذه القوات على حساب أمن الشعب العراقي، مدفوعة بالكراهية، وبهدف نهب الغاز والنفط العراقيين.
ناجح النجار
بهذا، نجحت طهران بمهارة في توسيع شبكات وكلائها داخل البلاد لحماية مصالحها الاستراتيجية. وقد وضعت إيران نفسها كلاعب أساسي في الساحة السياسية في بغداد، حيث استخدمت الميليشيات المسلحة للهجوم على قاعدة عراقية تضم قوات أميركية في ديسمبر 2019. كما وظّفت هذه الجماعات لتأجيج الوضع مع بداية حرب إسرائيل و”حماس” في تشرين الأول/أكتوبر 2023، حين أعلنت الجماعات المسلحة العراقية المدعومة من إيران، المنضوية تحت “محور المقاومة”، أنها ستكثف هجماتها ضد القوات الأميركية في المنطقة تضامنًا مع “حماس”.
وأدى ذلك إلى وضع الدولة العراقية في موقف صعب، حيث حاول رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني التدخل لمنع هذه الجماعات من جر العراق إلى حرب إقليمية مفتوحة.
تهديدات النظام العراقي
“محور المقاومة” في العراق، المكوّن من الميليشيات العراقية الشيعية، ما هو إلا ستار تتحرك من خلفه مطامع إيرانية في العراق. بالإضافة إلى ذلك، وجدت العراق نفسها طوال العام الماضي في المنطقة الحمراء الملتهبة نتيجة للتحركات المكثفة التي قامت بها الجماعات المسلحة، خاصة بعد اغتيال الجيش الإسرائيلي للأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله، مما أدى بدوره إلى انقسام العراق بين مؤيد لـ “حماس” ومعارض لها. وقد أثر ذلك على الحكومة بجرّها إلى نقاشات سياسية حول هذه المواقف.

وعلى الصعيد الدبلوماسي، أدى اصطفاف الحكومة مع “محور المقاومة” إلى إظهار العراق بمظهر غير محايد في نظر بعض الدول، وهو ما أدى إلى تأثر العراق بشدة، خاصة بسبب تقلبات أسعار النفط والمخاوف من تحوّله إلى ساحة معركة، مما أثّر على المستثمرين ورؤوس الأموال.
من جانب آخر، فإن لإيران أهدافًا متعددة في العراق تسعى إلى تحقيقها تحت إطار التحرك ضمن وحدة المقاومة، منها: منع الحكومة في بغداد من العودة إلى العداء لطهران كما حدث عندما غزا العراق إيران وأشعل فتيل الحرب بين البلدين في الفترة 1980-1988، وهي حرب أودت بحياة نحو مليون إيراني و250 ألفًا إلى 500 ألف عراقي. وزعزعة استقرار بغداد لإظهار عجز الأميركيين عن فرض النظام في العراق.
وفي هذا السياق، يرى النجار: “أن الموقف العراقي مشتّت الآن؛ بل معقد للغاية، حيث لا يزال يقع بين سندان التدخل الإيراني منذ عام 2014 ومطرقة التواجد الأميركي. وبالتالي، فإن موقف الحكومة العراقية مرهون بالرأي العام الداخلي والشارع الذي تضرر كثيرًا بالإرهاب وجرائم الحشد الشعبي. وهذا قد يشكل خارطة طريق جديدة للعراق في التعامل مع القضايا الإقليمية والدولية”.
وفي حين يرى مخلد أن الحل الذي يجب أن تسعى إليه العراق يكمن في تحجيم العلاقة مع إيران ووضع نهاية لـ “محور المقاومة” في بغداد، يقول: “إن العراق اليوم أصبح يمثل حلقة مهمة في التوازن الإقليمي وطرفًا في حل النزاع وليس طرفًا في الصراع. فإذا استطاع العراق التخلص من المحور الإيراني ونفوذه، فقد نشهد عراقًا جديدًا ذا سيادة على أراضيه وقراره السياسي. وهذا لن يتحقق إلا من خلال حصر السلاح بيد الدولة، وهو عامل مهم وفعّال لاستقرار العراق من الداخل”.
أخيرًا، كان “محور المقاومة” عبارة عن شبكة انتهازية مصممة لتزويد إيران بعمق استراتيجي وحمايتها من الضربات والهجمات المباشرة. ولكن هذه الاستراتيجية فشلت، مما دفع إيران إلى خلق أولويات جديدة، تتضمن إعادة تموضعها وتعزيز ما تبقى من “محور المقاومة”. في المقابل، يتمثل التحدي العراقي في التخلص من الروابط التي تربطه بالمحور، وتجاوز الخصومات التاريخية والانقسامات العرقية والطائفية لصالح مشهد جيوسياسي أكثر تعاونًا واستقرارًا.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
مقالات ذات صلة
الأكثر قراءة

وعود حكومية بلا تنفيذ.. هل توقفت بوادر حلول الأزمات السورية؟

وزير النقل السوري يتحدث عن آليات جديدة لتسعير السيارات.. ماذا قال؟

وزير الداخلية السوري: التعاون مع روسيا يخدم دمشق

وزارة الداخلية دفعت محمد الشعار إلى تسليم نفسه.. ماذا قالت؟

وثّقَ تعذيب السوريين بسجون الأسد.. تفاصيل جديدة عن “قيصر”

واشنطن تتحدث عن سحب قواتها من سوريا.. و”قسد” تؤكد عدم تلقيها خططا رسمية
المزيد من مقالات حول في العمق

هل أعاد الشرع تحالف دمشق مع روسيا لضبط الساحل السوري؟

الجزيرة السورية.. ثروة زراعية مهدرة في ظل عقود من التهميش

عن ضرورة انفكاك دمشق عن موسكو

الإرث الحضاري بشرق سوريا.. بين تهميش الأسد وتخريب “داعش”

روسيا في سوريا: مصير مجهول وفرص ضعيفة للبقاء

التعليم في شرق سوريا.. عقود من التهميش الممنهج

عودة أم فشل جديد: ماذا وراء التحركات الإيرانية في أوراسيا؟
