مع بداية أيام الشتاء البارد وسقوط العائق الأكبر أمام السوريين لزيارة بلدهم – النظام السوري، قررتُ زيارة دمشق، المدينة التي لطالما كانت قلب الحضارة وذاكرة التاريخ. لكن دمشق التي عرفتها في طفولتي لم تعد ذاتها. إنها الآن مدينتان متناقضتان تسكنان في مكان واحد: دمشق الأغنياء ودمشق الفقراء. بينهما فارق كبير، ليس فقط في المستوى المعيشي، بل في طريقة الحياة، في الأحلام، وحتى في أسماء الأحياء.

قادتني خطواتي عبر شوارع دمشق القديمة، محاولاً استشعار نبض المدينة بعد سنوات من الصراع المرير. كانت الشمس تلقي بأشعتها الذهبية على الأزقة الضيقة المتعرجة، وتنعكس على النوافذ المزخرفة بالزجاج الملون للبيوت التراثية. لكن رغم جمال المشهد الخارجي، لا يمكن تجاهل التناقضات الكبيرة التي تعصف بالمدينة من الداخل.

ففي حين تتباهى أحياء “داماسكوس” الراقية برفاهيتها وأناقتها، تئن غالبية الأحياء الشعبية تحت وطأة الفقر والحرمان. تلك الفجوة الهائلة بين الأثرياء والفقراء، أو بين “الطبقة المخملية” وعامة الناس، باتت السمة البارزة لدمشق ما بعد الصراع. 

“داماسكوس” المدينة الفاخرة

عندما تجولتُ في مناطق مثل المزة الغربية، المالكي، أبو رمانة، ودمر، شعرت وكأنني في مدينة أوروبية حديثة. السيارات الفاخرة تملأ الشوارع، والمقاهي الراقية تضج بأصوات الموسيقى والضحكات. الأحياء هنا يطلقون عليها أبناء المدينة “داماسكوس”، وهي إشارة إلى أن هذه المناطق هي أجنبية ولا منفصلة عن البلد.

داخل هذه المناطق، الأسعار لا تعكس واقع انهيار العملة السورية. كوب القهوة في مقهى شهير يعادل نصف راتب موظف حكومي. إيجارات المنازل هنا تبدأ 500 إلى 1500 دولار شهريا، وتدفع مقدمًا لمدة عام كامل، بالإضافة إلى تأمين شهر وإكرامية لمكتب الوساطة العقارية ما يعادل أجرة شهر.

منظر عام لمدينة دمشق من أعلى قمة جبل قاسيون - الحل نت
منظر عام لمدينة دمشق من أعلى قمة جبل قاسيون – الحل نت

حتى شراء الأثاث بات معضلة. زرت معرضًا للأثاث في شارع المالكي، ووجدت أن الأسعار تكاد تكون مطابقة لأسعار الأثاث في بيروت أو عمّان. كل قطعة تحمل بطاقتها السعرية بالدولار، كأن العملة المحلية فقدت قيمتها تمامًا في هذا العالم المخملي.

دمشق الفقراء: المدينة المنسية

لكن عندما انتقلتُ إلى مناطق مثل الزاهرة، القابون، وبرزة، تغير المشهد تمامًا. هنا ترى الحياة كما هي، بلا زخارف أو ادعاءات. الشوارع ضيقة ومزدحمة، الأطفال يلعبون في الأوحال، والباعة المتجولون يصرخون لبيع بضاعتهم.

باعة متجولون ينشرون بضاعتهم على الأرصفة قرب منطقة البرامكة بمدينة دمشق - الحل نت
باعة متجولون ينشرون بضاعتهم على الأرصفة قرب منطقة البرامكة بمدينة دمشق – الحل نت

فبينما يعيش أبناء النخبة الثرية في فلل فخمة ويقودون سيارات فارهة، يكافح أبناء الطبقة الوسطى والفقيرة لتأمين لقمة العيش في ظل الغلاء الفاحش. فقد أصبحت دمشق، على عكس ما يظنه السوريون في الخارج، من أغلى المدن في المنطقة بسبب تبعات سياسات النظام السابق من فساد وانهيار العملة. 

وخلال تجوالي في المدينة، رأيت بأم عيني هذا التفاوت الكبير. فعلى بعد أمتار قليلة من حي المالكي الفاخر، تقبع أحياء شعبية بأزقتها المكتظة وبيوتها المتهالكة.

التقيت بسامر، وهو شاب في أوائل الثلاثينيات من عمره يعمل سائق تاكسي، ليشاركني معاناته اليومية. قال لي بنبرة يائسة: “أنا وزوجتي نعمل لساعات طويلة كل يوم، لكننا بالكاد نستطيع تغطية نفقات الإيجار والطعام والكهرباء. الحياة صعبة جداً هنا لمن لا يملكون المال أو فيتامين واو – وهنا يقصد الواسطة”.

الأحياء الشعبية تعاني من فقر شديد، لكن الغريب أن الأسعار هنا ليست أفضل حالًا. حتى السلع الأساسية أصبحت عبئًا على الأسر. كيلو اللحم يساوي أسبوعًا من دخل عامل يومي، والزيت والسكر أصبحا موادًا تحتسب بالقطرة والذرة.

قوانين الحكومة السورية الجديدة تمنع الموظفين من العودة إلى عملهم
: ما بين “داماسكوس” ودمشق الشعبية.. ما الفرق؟

خلال سيطرة النظام السابق، في هذه الأحياء، الحياة ليست فقط صراعًا مع الغلاء، بل أيضًا مع البيروقراطية والفساد. الخدمات متوفرة ولكنها تتطلب دفع “رشوة” تحت مسمى “إكراميات”. تريد توصيل الكهرباء؟ عليك أن تدفع. تحتاج إلى رخصة بناء؟ الإكرامية أولًا. حتى الأوراق الرسمية أصبحت سلعة تُباع لمن يستطيع الدفع.

دمشق بين الماضي والحاضر

خلال زيارتي، أدركت أن دمشق لم تعد تلك المدينة التي يعرفها السوريون في الخارج. هناك تصور شائع بأن انهيار الليرة السورية جعل كل شيء رخيصًا، لكن الواقع مختلف تمامًا. لقد أصبحت دمشق مدينة الأثرياء، حيث يمكن للمال أن يشتري كل شيء.

سوق الحرامية الواقع على يمين شارع الثورة وسط مدينة دمشق - الحل نت
سوق الحرامية الواقع على يمين شارع الثورة وسط مدينة دمشق – الحل نت

في السوق المركزي قرب منطقة برزة، التقيت بشاب يُدعى علاء يعمل في محل لبيع الألبسة المستوردة. قال لي: “الأسعار هنا تُحدد بالدولار لأننا نستورد البضائع من الخارج. الزبائن؟ الأغنياء فقط. الفقراء لا يدخلون هذه المحلات”.

أما في زاوية السوق، كانت هناك سيدة مسنة تبيع بعض الخضروات على عربة صغيرة. عندما سألتها عن حالها، تنهدت وقالت: “نعيش يومًا بيوم. إذا بعنا، نأكل. وإذا لم نبع، فالله يعيننا. كل شيء أصبح غاليًا، حتى الحاجات البسيطة.”

السيارات والمواصلات: رمز الفجوة

من الأمور التي لفتت انتباهي أيضًا هي السيارات. في “داماسكوس”، السيارات الفارهة من ماركات عالمية تملأ الشوارع على عكس أحياء دمشق الشعبية التي ربما ترى فيها سيارة تمشي في شوارعها صنعت منذ أكثر من 40 عاما. استئجار سيارة لمدة أسبوع يكلف مليون وثمانمئة ألف ليرة سورية، مبلغ لا يمكن تصوره لعائلة من الطبقة المتوسطة أو الفقيرة.

أما في دمشق الفقراء، المواصلات العامة هي الخيار الوحيد، لكنها بالكاد تعمل. الحافلات القديمة مكتظة، والناس يقفون لساعات في طوابير للحصول على مقعد.

السؤال الأكبر: ما الذي صنع هذه الفجوة؟

خلال حواراتي مع الناس، تكرر ذكر كلمات مثل “فساد”، “رشاوى”، و”احتكار”. السياسات الاقتصادية للنظام السابق، التي اعتمدت على الكسب غير المشروع والاحتكار، صنعت اقتصادًا هشًا تتحكم فيه طبقة صغيرة من الأثرياء.

ساحة عدنان المالكي بمدينة دمشق - الحل نت
ساحة عدنان المالكي بمدينة دمشق – الحل نت

حتى بعد سقوط النظام، استمرت هذه السياسات في التأثير. كثير من السوريين يتساءلون: “هل تغير شيء بعد سقوط الأسد؟”.

عند التمعن، يتضح أن هذا الانقسام الحاد ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج سنوات طويلة من السياسات الخاطئة والفساد المستشري في ظل نظام الأسد. فبدلاً من بناء اقتصاد منتج يوفر الفرص للجميع، ركز النظام على إرضاء الدائرة الضيقة من المقربين والمنتفعين على حساب بقية المجتمع.

“بالفساد والمحسوبيات”.. مصادر تكشف البطالة المقنعة بسوريا: ما بين “داماسكوس” ودمشق الشعبية.. ما الفرق؟

والنتيجة هي مدينة منقسمة على نفسها، ليس فقط اقتصادياً وطبقياً، بل وثقافياً وفكرياً أيضاً. فالنخبة الثرية تعيش في عالم مختلف عن بقية السكان، منغمسة في نمط حياتها الغربي البراق، بينما يغرق الفقراء في همومهم اليومية والتقشف القسري.

مدينتان في مدينة واحدة

وأنا أغادر دمشق، أدركت أن هذه المدينة ليست مدينة واحدة بل مدينتين مختلفتين تمامًا. “داماسكوس” للأغنياء هي مدينة الفخامة والرفاهية، بينما دمشق الشعبية هي مدينة الصراع من أجل البقاء.

السؤال الذي يبقى: هل يمكن للمدينة أن تتوحد يومًا ما؟ هل يمكن أن تكون دمشق للجميع، وليست فقط للنخبة؟ هذه التساؤلات ربما تحمل الإجابة عن مستقبل سوريا، لأن مصير دمشق هو انعكاس لمصير البلاد بأكملها.

ربما تكمن هنا حقيقة دمشق العميقة.. ليست “داماسكوس” الأنيقة الزائفة، ولا الأحياء الشعبية الفقيرة، بل روح أهلها الصامدة والأصيلة. فمستقبل دمشق الحقيقي لن يتقرر في المقاهي الراقية ولا في أروقة السلطة، بل في قلوب وسواعد أبنائها البسطاء الذين يحملون رايتها بفخر. وعلى الجميع أن يدركوا، في “داماسكوس” وفي دمشق الشعبية على حد سواء، أنه لن يكون هناك سلام حقيقي ولا تقدم مستدام دون سد الفجوات وتحقيق العدالة الاجتماعية للجميع.

في الختام، تبقى دمشق، كما عرفناها دوماً، مدينة الياسمين والتاريخ والحضارة. ورغم كل الجراح، فإن إرادة الحياة لدى أهلها لن تنكسر. وسيظل الأمل حياً، مهما طال الليل، بانبلاج فجر جديد ينسينا فيه الحديث عن “داماسكوس” ودمشق الشعبية، لنعود لنكون دمشقاً واحدة، موحدة ومزدهرة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة