هناك تقسيمٌ ضمني للعالم إلى محورين: المحور الأوراسي، الذي يضمّ الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية، و”محور المقاومة” في الشرق الأوسط بقيادة إيران، والذي يشمل “حزب الله” في لبنان، ونظام الأسد في سوريا (حتى وقت قريب)، والميليشيات الشيعية في سوريا والعراق، وحركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” في غزة والضفة الغربية، و”الحوثيين” في اليمن.

يشترك كلا المحورين في أيدولوجية واضحة معادية للولايات المتحدة والغرب، ولديهما قاسم مشترك آخر وهو “إيران”، التي، بعد انهيار محور وكلائها في الشرق الأوسط، بدأت كما يبدو في الاتجاه شرقاً، كمحاولة للنهوض مجدداً.

من خلال تحركاتها اللافتة الأخيرة، كيف يمكن تفسير النشاط الإيراني في أوراسيا؟ وما هي أهدافه؟ وما التوقعات بشأنه؟

تحركات إيرانية في أوراسيا

زار الأسبوع الماضي وفدٌ إيراني برئاسة المساعد الأول للرئيس الإيراني، محمد رضا عارف، جمهورية كازاخستان للمشاركة في قمة رؤساء وزراء الدول الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وفي الوقت نفسه للمشاركة أيضاً في مؤتمر “ألماتي الرقمي 2025”.

وقبل ذلك، بحث مساعد وزير الخارجية الإيراني وسفير جمهورية أذربيجان لدى طهران خطط تعزيز التعاون بين الجارتين وإعادة عقد اللجنة الاقتصادية المشتركة بعد انقطاع دام ثلاث سنوات.

جاء ذلك بعد زيارات لمسؤولين إيرانيين إلى دول آسيا الوسطى وأفغانستان، وخاصة الزيارة الأخيرة للرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إلى طاجيكستان، ووزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى أفغانستان، مما أوضح انطلاقةً لتحركات دبلوماسية نشطة لإيران لتعزيز علاقاتها مع دول آسيا الوسطى.

بحسب ما ذكره رئيس منظمة تنمية التجارة الإيرانية، محمد علي دهقان دهنوي، أمام اجتماع المنتجين والتجار بغرفة تجارة طهران، فإنّ إيران دخلت قبل أربع سنوات في تجارة حرة مع دول أوراسيا، حيث خُفّضت الرسوم الجمركية أو أُلغيَت؛ مبيناً أن هذه الفترة شهدت زيادةً في حجم التجارة مع الدول الأعضاء في هذا الاتحاد بنسبة 2.5 بالمائة.

وفي السياق، أفادت وكالة “مهر” للأنباء في كانون الأول/ديسمبر 2024 أن صادرات إيران إلى دول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي خلال الأشهر التسعة الماضية زادت بنحو 21% من حيث القيمة ونحو 22% من حيث الوزن مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. وخلال هذه الفترة، تمّ تصدير ما يقرب من 3 ملايين و860 ألف طن من البضائع بقيمة 1.5 مليار دولار إلى الدول الخمس الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي.

يُذكر أن توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين الاتحاد الاقتصادي الأوراسي وإيران تم في الرابع من كانون الأول/ديسمبر 2023 بمدينة سانت بطرسبرغ الروسية، وكان من نتائجها خفض أو إزالة الحواجز والتعريفات الجمركية ودعم التفاعلات الاقتصادية والتجارية بين الجانبين.

الاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EAEU) هو منظمة اقتصادية حكومية دولية تضمّ خمس دول رئيسية هي: روسيا، وكازاخستان، وبيلاروسيا، وأرمينيا، وقيرغيزستان، ويهدف إلى إنشاء سوق مشتركة للسلع والخدمات ورؤوس الأموال واليد العاملة.

روسيا والصين تدخلان على الخط

لا يمكن فصل التحركات الإيرانية عن خطواتها مع روسيا، وفقًا لوكالة (News.az) الأذربيجانية، فقد توصلت روسيا وإيران إلى اتفاق بشأن مسار خط أنابيب الغاز الذي سيمر عبر أذربيجان، حيث دخلت المفاوضات الآن المراحل النهائية لتحديد أسعار العرض. كما تستكشف الدولتان مشاريع مشتركة محتملة لاستخراج الغاز، وفقًا لوزير الطاقة الروسي سيرجي تسيفيليف.

في هذه الصورة المتداولة التي قدمها المكتب الصحفي للمرشد الإيراني الأعلى آية الله علي خامنئي يقف المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي حاملاً بندقية أثناء إمامته لصلاة الجمعة في مسجد مصلى الإمام الخميني في 04 أكتوبر/تشرين الأول 2024 في طهران، إيران. (الصورة من المكتب الصحفي للمرشد الإيراني - غيتي)
في هذه الصورة المتداولة التي قدمها المكتب الصحفي للمرشد الإيراني الأعلى آية الله علي خامنئي يقف المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي حاملاً بندقية أثناء إمامته لصلاة الجمعة في مسجد مصلى الإمام الخميني في 04 أكتوبر/تشرين الأول 2024 في طهران، إيران. (الصورة من المكتب الصحفي للمرشد الإيراني – غيتي)

في مقابلة مع الوكالة الأذربيجانية، أكد إلهام شعبان، رئيس مركز “أبحاث البترول” الأذري، أن صفقة الغاز بين روسيا وإيران سياسية في المقام الأول وليست تجارية، ووصف الاتفاقية بأنها لفتة رمزية تهدف إلى إرسال رسالة واضحة إلى كل من الغرب والصين.

فيما شكك الخبير الاقتصادي إلدينيز أميروف، المقيم في باكو، في الآفاق الطويلة الأجل لاتفاقية الغاز بين روسيا وإيران، وسلط الضوء على موقف أذربيجان الاستراتيجي كطريق عبور طبيعي للغاز الروسي إلى إيران، مشيرًا إلى أن الآثار الأوسع نطاقًا لهذه الصفقة تثير تساؤلات. فإيران، التي تمتلك ثاني أكبر احتياطيات من الغاز في العالم بما يزيد عن 32 تريليون متر مكعب، لا تبدو أنها بحاجة إلى الغاز الروسي للاستهلاك المحلي، مما يثير الشكوك حول جدوى الاتفاق، كما أشار أميروف.

اتفق الخبيران على أن صفقة الغاز بين روسيا وإيران لا تتعلق بتلبية متطلبات الطاقة بقدر ما تتعلق بإظهار شراكة استراتيجية وإظهار التضامن أمام العقوبات الغربية.

رغم الاحتفاء الروسي والإيراني بالمشروع، إلا أن مشكلاته كبيرة، وتشمل تلك المتعلقة بالسياسة المتبعة في الدول الواقعة بين روسيا وإيران، والصعوبات الديموغرافية التي ينطوي عليها بناؤه، فضلاً عن نقص الأموال اللازمة لبناء نقاط العبور المتعددة الوسائط وخطوط السكك الحديدية.

فيما يعترف المحللون الروس أن الممر لن يعمل بكامل طاقته بدون أن ينهي الغرب نظام العقوبات ضد موسكو ويسمح بتدفق الاستثمارات التي قد تمنح روسيا وإيران النصر على جبهة حاسمة لكليهما.

وكما يبدو أن الصين أيضًا تحاول التحرك؛ فبحسب مقال في صحيفة “ستار” التركية للكاتب مصطفى توتار، ذكر فيه أن هناك فضولًا حول تحركات الصين في مواجهة حالة عدم اليقين الراهنة في الشرق الأوسط عقب انهيار محور إيران.

رأى الكاتب أن العلاقة مع باكستان تُعدّ من العناصر المحورية في استراتيجية إيران لفتح أبوابها نحو الشرق، إذ قد تشهد هذه العلاقة تحولات جيوسياسية في ضوء التطورات التي تشهدها فترة ترامب. وفي حال قررت الصين تعزيز التعاون بين إيران وباكستان، فقد يحدث تغييرٌ مهم يؤثر على مستقبل منطقة أوراسيا.

كما أنه مع تصاعد الاتجاهات الاقتصادية الإقليمية في الهند، قد تجد الصين نفسها مضطرة لتعزيز تعاونها مع إيران وباكستان لمواجهة التحالفات الدفاعية بين الولايات المتحدة والهند.

وجدير بالذكر أن الصين وإيران أصبحتا أكثر قربًا مؤخرًا، حيث أبرم البلدان اتفاقية اقتصادية وسياسية شاملة مدتها 25 عامًا في منتصف عام 2020، ما جعل إيران عنصراً رئيسياً في مشروع “الحزام والطريق” الصيني. كما تُعدُّ بكين أيضًا بمثابة شريان حياة اقتصادي رئيسي لطهران، بحسب موقع “الحرة”.

أهداف إيران

تأتي التحركات الإيرانية في أوراسيا في وقت تواجه فيه السياسة الإقليمية الإيرانية تحديات كبيرة في الشرق الأوسط، ولا سيما بعد سقوط بشار الأسد في سوريا، والضربات التي تلقاها “حزب الله” في لبنان، وما تلا ذلك من انهيار محور وكلاءها في الشرق الأوسط.

الإمارات الصين إيران الاقتصاد الصيني الإماراتي الإيراني الجزر الإماراتية
الأعلام الوطنية للصين وإيران ترفرف في ميدان تيانانمن خلال زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى بكين، الصين، 14 فبراير/شباط 2023. رويترز/توماس بيتر

لقد أدت هذه التحولات إلى سعي إيران لتعزيز علاقاتها مع دول آسيا الوسطى، التي تتمتع بأهمية استراتيجية كبيرة لإيران، خاصة وأنها تقع ضمن مشروع “الطريق والحزام” الصيني، ولديها أسواق واعدة للبضائع الإيرانية. ومن جانبها، تحاول إيران ربط هذه الدول الحبيسة ببحر عمان عبر السكك الحديدية؛ وفي الوقت نفسه تعتبر منطقة آسيا الوسطى بمثابة جسر يربط إيران ببقية العالم الشرقي، ولها دور حيوي في المجالات الاقتصادية والأمنية.

ليس سراً أن تعزيز العلاقات الإيرانية مع الدول الأوراسية للوصول إلى الأسواق العالمية يعد من أهم السياسات الخارجية للإدارة في طهران؛ ففي مناسبات عدة أكد المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، أن “تفضيل الشرق على الغرب” أصبح أحد المبادئ الأساسية للسياسة الخارجية للبلاد. كما تسارعت وتيرة هذا الجهد على خلفية سياسة “الضغط الأقصى” وشبح توسيع العقوبات الأميركية.

تسعى طهران إلى الحد من تأثير العقوبات الغربية عبر تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع دول آسيا الوسطى والقوقاز وروسيا، حيث ينظر المسؤولون في طهران إلى التجارة مع أوراسيا على أنها وسيلة تحوط مهمة ضد احتمال إعادة فرض العقوبات من قبل الولايات المتحدة وشركائها الدوليين؛ ومن المتوقع حدوث ذلك بشكل كبير بعد دخول ترامب إلى البيت الأبيض، والذي رغم أنه لم يستبعد المفاوضات مع إيران إلا أنه يفضل العقوبات كسياسة ضد خصومه.

من ناحية أخرى، تريد إيران أن تحتفظ بكرتها الأخيرة، وهي إمكانية انضمامها إلى الأعضاء النوويين الآخرين في المحور الأوراسي في حال فشل المباحثات النووية؛ مما يؤدي على الأرجح إلى انهيار النظام العالمي لمنع الانتشار النووي.

من جانبه، وصف كميل البوشوكة، الباحث في مركز “الحوار الاستراتيجي” لـ “الحل نت”، النشاط الإيراني في دول أوراسيا بأنه محدود أو شبه محدود. على سبيل المثال، في دول آسيا مثل أوزباكستان وطاجيكستان وتركمانستان، يكون الوجود الإيراني دبلوماسيًا؛ ففي طاجيكستان، رغم تشابه اللغة، إلا أنها دولة علمانية، وقد اقتصر النفوذ الإيراني داخلها على النشاط الحكومي. كما هو الحال مع بيلاروسيا، مشيرًا إلى أن تركيز إيران التخريبي الأكبر ينصب على الدول العربية والأفريقية، وفي الدول الأوربية يتم عبر المراكز الإسلامية.

وأضاف البوشوكة لـ “الحل نت”: إن النفوذ الإيراني في أوراسيا لا يزال سياسيًا، إذ ليس لديها نفوذ عسكري أو أمني أو مخابراتي أو ميليشياتي؛ حتى في أفغانستان، التي تُعد جسرًا بين إيران وآسيا، يتعامل النظام الحاكم هناك مع إيران بشكل سياسي، لكن أيديولوجيًا وعقائديًا يختلف معها. كما يتعامل الروس مع إيران كوسيلة أو مصلحة، لكن بالمقابل لا تستطيع إيران التعامل مع الروس كمصلحة، بل ترى دائمًا أن نفوذها مرتبط بالروس. وأوضح أن تركيا، بوجودها وسيطرتها في أوراسيا، أكبر من إيران، وأن هناك منافسة شرسة بين إيران وتركيا داخل أوراسيا مما يحد من النفوذ الإيراني المستقبلي في المنطقة.

في المقابل، رأت دراسة للعقيد الإسرائيلي عساف أوريون في مركز “واشنطن” للدراسات، أن إيران تلعب دورًا نشطًا في تعزيز التكنولوجيا العسكرية والتعلم العملياتي والخبرة القتالية لمحور أوراسيا، مما يُعرّض الشركاء والمصالح الغربية في أوروبا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ للخطر.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة