في خضم الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والصحي الذي لم يشهده لبنان منذ الاستقلال، يبدو أن الوضع الحالي لم يعُد يحتمل هذا التسويف واللامبالاة في استمرار التعثر في انتخاب رئيس جديد، حيث أن الفراغ الدستوري في لبنان يزيد من حدّة أزمات البلاد المتعددة. فبعد انعقاد القمة الأميركية- الفرنسية، مطلع كانون الأول/ ديسمبر الجاري، وما تم إبرازه من نتائج خلال إصدار بيان مشترك بين البلدين، برزت آمال بعض الأوساط اللبنانية حول إمكانية أن تلعب باريس دورا مع طهران من أجل التوصل إلى تسوية حول تسريع إجراء الانتخابات الرئاسية في لبنان، وإنهاء “عبثية” الشغور الرئاسي.

هذه الأوساط كانت قد خمّنت، بأن أزمة لبنان على أجندة المحادثات التي جرت بين الرئيسين جو بايدن وإيمانويل ماكرون. كما أن إعلان باريس أن الرئيس ماكرون سيزور لبنان بعد اجتماع عمان الذي سيعقد بين 20 و 22 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، في مؤتمر “التعاون والشراكة”، لساعات قليلة، لتفقّد جنود الكتيبة الفرنسية العاملة في عداد قوات “الأمم المتحدة” في جنوب لبنان “يونيفيل”، يفتح الباب أمام تساؤلات كثيرة حول مدى فرص فرنسا في التوسط لحل أزمة الشغور الرئاسي في لبنان، وهل بإمكان ماكرون لعب دور الوسيط مع إيران بعد أن أثارت قمة بايدن- ماكرون حفيظة طهران، وإذا ما بقيت أزمة الفراغ الرئاسي في لبنان على ما هي عليه، فما تداعيات ذلك على المستوى الإقليمي، وأيضا، فيما إذا كانت الدول الغربية ستفرض المزيد من العقوبات على أذرع إيران حيال الدور الإيراني في تأزم الوضع بالمنطقة.

إزاحة عبء “حزب الله”؟

في ظل استمرار الانقسام اللبناني في المواقف بين المعارضين السياسيين والحلفاء، واستمرار غياب التوافق الوطني على اسم جامع بين المكونات والكتل النيابية، يحكم الشغور الرئاسي مرة أخرى نتائج الانتخابات الرئاسية في مجلس النواب، حيث لم تسفر الدورة التاسعة، التي انعقدت يوم الخميس الماضي، عن انتخاب أي مرشح لملء الكرسي الرئاسي اللبناني.

الشغور الرئاسي في لبنان “إنترنت”

منذ أيلول/ سبتمبر الماضي أخفق نواب البرلمان 9 مرات، أخرها الخميس الماضي، في انتخاب خلف لميشال عون، الذي انتهت ولايته الرئاسية نهاية تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. ووفق تقارير صحفية، فإنه على مدى 79 عاما لم تنتقل السلطة في لبنان من رئيس إلى آخر بطريقة سلسة وفي سياق انتخابات رئاسية طبيعية، إلا خلال عهدين من أصل 13، حيث حصل بعد استقلال لبنان شغور رئاسي ثلاث مرات.

ما يزيد التكهن حول دور الوساطة الفرنسية لحل أزمة الشغور الرئاسي اللبناني، هو حضور ماكرون في مؤتمر “التعاون والشراكة” بعمان بين 20 و22 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، وهذا المؤتمر سينعقد برئاسة مشتركة من قِبله ومن العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، وتحضره دول الجوار العراقي في المنطقة.

ضمن هذا السياق، يرى الكاتب والمحلل السياسي المقيم في باريس، نزار الجليدي، أن “السياسة الفرنسية تريد أن تتجدد بعد أن أزاح ماكرون العسكر القديم الذي ظل يحكم منذ سنوات، والذي كان متعنتاً في معظم الملفات. كما ويعتبر لبنان بالنسبة لفرنسا مهما جدا، إذ لا يمكن التخلي عنه، نظرا للموقع الجغرافي، والإرث المشترك، والوزن والثقل الذي تحمله الجالية اللبنانية لفرنسا”.

قد يهمك: خطر التصعيد العسكري التركي في سوريا.. هدوء أنتجه ضغط أميركي؟

الجليدي أشار بحسب تقديره لموقع “الحل نت”، إلى أنه في ظل هذه الظروف الحالية، تحاول فرنسا إيجاد هذه الوساطة مع إيران، وفي الوقت نفسه تسعى لإزاحة عبء وممارسات “حزب الله” اللبناني، الموالي لإيران عن لبنان وتعنتها في المنطقة بشكل عام.

لذلك، وفق الجليدي، “تحاول فرنسا جاهدة إيجاد موقع لنفسها من جديد، وإعطاء فرضيات لحل أزمة لبنان التي تهتم بها بشكل مباشر، خاصة وأن ماكرون وعد مرارا وتكرارا بدعم الاستقرار في لبنان، ومساعدة لبنان اقتصاديا وعدم تركه يسقط”.

كما تحاول فرنسا التوسط لحل الأزمة اللبنانية بثقلها الكبير لعوامل عدة؛ أولا، علاقتها بلبنان. ثانيا، تدخل إيران عبر أذرعها في السياسة والأوضاع اللبنانية، وبالتالي فرنسا أملت على نفسها أن تنقذ لبنان وتخفف من ضغط جماعة “حزب الله” في شؤون لبنان والتوسع الإيراني هناك، طبقا لحديث الجليدي.

مؤتمر “التعاون والشراكة” كان قد تأسس في آب/ أغسطس الفائت في بغداد بحضور كل من العراق والكويت والسعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر والأردن ومصر وإيران وتركيا وفرنسا، إضافة إلى الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي ومنظمة التعاون الإسلامي.

فرص الوساطة “ضعيفة”؟

من جهة أخرى، جاء في البيان المشترك الصادر عن قمة واشنطن- باريس أن الرئيسين بايدن وماكرون، تعاملوا في واشنطن مع الموقف من طهران بلهجة متشددة فيما يتعلق بملفها النووي ودورها الإقليمي، إضافة إلى تضامنهما مع الاحتجاجات الشعبية في إيران، وهو ما يشكك فيه كثير من المراقبين في احتمال تجاوب الجانب الإيراني لأية جهود، وفق تقرير لـ”اندبندنت“.

في وقت كانت تسربت أنباء عن أن الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، سيحضر مؤتمر عمان، فإن مراقبين تساءلوا عما إذا كان حضوره سيبقى قائما بعد استدعاء طهران السفير الفرنسي للاحتجاج على موقف بلاده المتعاطف مع التحركات الاحتجاجية في المدن الإيرانية، خصوصا أن باريس استنكرت ذلك الاستدعاء وبقيت على موقفها المستنكر للقمع الذي تمارسه طهران ضد المحتجين، إلى جانب التعبير عن غضبها من استمرار احتجاز سبعة فرنسيين من قبل السلطات الإيرانية، بينما تتصدر فرنسا دول أوروبا التي دفعت من أجل إصدار عقوبات من الاتحاد الأوروبي على رموز القمع في إيران.

بالعودة إلى المحلل السياسي، نزار الجليدي، فإنه يرى أن فرص الضغط الفرنسي على إيران “شبه ضعيفة”، لأن إيران وأذرعها ممتدة بشكل كبير في لبنان، خاصة بعد انهيار الاقتصاد اللبناني وأزمة الفراغ الرئاسي. كذلك، ما تحاول فرنسا خلقه هو ” إنشاء ورقة ضغط على إيران للتوقف عن تمددها وتحركاتها العدائية في المنطقة”.

أيضا، تبرز عدة شكوك في شأن قدرة الجانب الفرنسي على لعب دور الوسيط مع إيران، تشمل حتما أزمة لبنان والسعي إلى إنهاء الشغور الرئاسي فيه، كما أن الجانب الأميركي لا يتوقف عن فرض مزيد من العقوبات على المسؤولين الإيرانيين وكذلك على قياديين من “حزب الله” كما فعلت وزارة الخزانة الأميركية في الأول من كانون الأول/ ديسمبر الجاري، حين وضعت ثلاثة قياديين ومؤسستين ماليتين على لائحة “أوفاك” بتهمة العمل على تأمين التمويل للحزب.

الجليدي خلص حديثه بالقول، إن الدول الغربية ستمارس ضغوطا كبيرة على إيران من خلال فرض مزيد من العقوبات عليها وعلى وكلائها فيما يتعلق باستمرار أزمة لبنان وتوسعها في المنطقة، وإحداث المزيد من الفوضى والأزمات. كما أنهم سيكثّفون من الضغوط عبر ملف حقوق الإنسان والاحتجاجات التي تجري الآن في إيران، وهذا ما يضغط إيران فعليا.

إيران تسبب الأزمات

الدستور اللبناني ينص على أن “مجلس النواب” ينتخب الرئيس بالاقتراع السري، وهذا المجلس يتألف من 128 مقعدا يتم تقسيمها بالتساوي بين الطوائف الإسلامية والمسيحية. وضمن التوافقات، يتولى رئاسة البلاد مسيحي ماروني ورئاسة الحكومة سُني ورئاسة البرلمان شيعي.

كذلك، وبحسب المادة 49 من الدستور اللبناني، يُنتخب رئيس البلاد في دورة التصويت الأولى بأغلبية الثلثين أي 86 نائبا “من 128″، ويُكتفى بالغالبية المطلقة “النصف +1” في الدورات التالية، على أن يكون نصاب حضور هذه الدورات، سواء الأولى أو الثانية، 86 نائبا.

في حين يُتهم كل من رئيس مجلس النواب نبيه بري وجماعة “حزب الله” و”التيار الوطني الحر”، و”تيار المردة” برئاسة سليمان فرنجية، بتعطيل جلسات انتخاب الرئيس، عبر تكرار الانسحاب لفقدان الدورة الثانية نصابها “86 نائبا”.

هذا ويُفشل “حزب الله” وحلفاؤه، وفق مراقبين، انتخاب رئيس جديد في ظل مواصفات حددها الأمين العام للحزب حسن نصر الله، ترتكز على “ألّا يطعن الرئيس المقاومة في ظهرها، ولا يتآمر عليها ولا يبيعها”. ولأن رفض سمير جعجع، رئيس “القوات اللبنانية” وزعيم أكبر تكتل مسيحي في البرلمان وصول رئيس “التيار الوطني الحر”، جبران باسيل، أو سليمان فرنجية إلى الرئاسة “مهما كانت التضحيات”، فقد اعتبر أن أي مرشح لـ”حزب الله” سيؤدي بالبلاد إلى المزيد من التدهور. ولا يملك أي فريق سياسي أكثرية برلمانية تتيح له فرض مرشحه.

إزاء ذلك، دعا رئيس “مجلس النواب”، نبيه بري، في 8 كانون الأول/ ديسمبر الجاري إلى جلسة حوارية بالمجلس، حول انتخاب الرئيس للمرة الثانية بعد رفض دعوة أولى من قبل أكبر تكتلين مسيحيين يمثلهما “التيار الوطني الحر” الذي يتزعمه باسيل ورئيس “القوات اللبنانية”، جعجع.

وفق تقارير صحفية، تهدف دعوة بري إلى تضييق مساحة الخلاف بين الكتل البرلمانية لتسهيل عملية التوافق وانتخاب رئيس للجمهورية. وبحسب مصادر سياسية فإنه “حين تحين ساعة التوافق على انتخاب رئيس فهناك مرشحان جديان فقط هما؛ سليمان فرنجية مرشح “حزب الله” الذي لم يعلن عن دعمه رسميا حتى الآن وقائد الجيش الحالي جوزيف عون”.

المصادر ذاتها أضافت وفق تقارير صحفية، أن “تعطيل حزب الله نصاب الدورات الثانية في الجلسات التسع التي عقدت يهدف إلى الضغط على النواب للقبول بمرشح الحزب سليمان فرنجية”.

هذا ويرى الكثيرون، أن الأزمة اللبنانية ليست وليدة الفراغ السياسي الحاصل الذي تزداد إرهاصاته يوما بعد يوم، بل نتيجة لصراع المحاور الذي يحدث في لبنان منذ فترة طويلة، والذي تجسد عبر هيمنة فريق من اللبنانيين ممثلا بـ “حزب الله” التابع لإيران على القرار السياسي، لاسيما بعد التسوية الرئاسية عام 2016،

أيضا وهذا ما أشار إليه المحامي والمحلل السياسي أمين بشير، في تصريحات سابقة لـ”الحل نت”، بأن “حزب الله” أفشل وعطل انتخابات اختيار الرئيس لأكثر من سنتين ونصف، حتى يفرض الرئيس الذي يشكل حليفه المسيحي الذي أعطاه الغطاء المسيحي، وبالتالي جاء بالرئيس ميشال عون كتكريس لهذه الهيمنة على القرار السياسي في لبنان.

في ظل هذه الأزمة أدخل “حزب الله” لبنان بشكل كامل في المحور المسمى محور “المقاومة والممانعة”، وبالتالي وبحسب رؤية بشير، فصله عن واقعه العربي وحتى عن المجتمع الدولي ووضعه في صِدام مع هذه المجتمعات، سواء من حيث القرار السياسي وحتى الاقتصادي.

تحميل المسؤولية لـ “حزب الله” ليس اعتباطا أو حتى نكتا سياسية، وفق بشير، بل واقع جسده الحزب بدخوله في عدة حروب خارج لبنان، وأن هذه الحروب أثرت على لبنان إن كان دخوله الحرب في سوريا كرأس حربة في محور الممانعة، ومن ثم حرب اليمن وحروبه السياسية وتصريحاته العنيفة بوجه الأشقاء العرب لاسيما السعودية، وفق تعبيره.

قد يهمك: “استراتيجيات طويلة الأجل“.. لماذا تسعى بريطانيا لتعزيز علاقاتها في إفريقيا؟

هذا كله أدى لتكريس عزلة لبنان ودفع أثمان هذه السياسة لاسيما اقتصاديا، لأنه بعد الحرب السورية تم تعويم دمشق، إقليميا وفرض العقوبات العالمية، وأخذ “حزب الله” يحمل الاقتصاد اللبناني أكثر من طاقته، وأصبح الاقتصاد السوري يقوم على أكتاف الاقتصاد اللبناني، الذي لم يكن باستطاعته أن يحمل كل هذه التكاليف، وتجسد هذا بالتهريب الممنهج والمفتوح على الحدود مع سوريا.

في المجمل، فإن استمرار أزمة الشغور الرئاسية في لبنان سيؤثر بشكل أكبر على الوضع العام في البلاد، وسيزيد من الوضع الاقتصادي سوءا أكثر مما هو عليه، الأمر الذي سيكون له عدة تداعيات سلبية على المستوى الإقليمي أيضا، ذلك لأن التسويات الإقليمية تترجم إلى تسويات داخلية، خاصة بظل هيمنة “حزب الله” في أجزاء واسعة من البلاد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.