مع الاتصالات والتقارب المتزايد بين السلطة الجديدة في سوريا وعلى رأسها الرئيس الانتقالي، أحمد الشرع، وروسيا، ثمة تساؤلات ملحة حول تداعيات ذلك على طبيعة الوضع الداخلي، وانعكاسات العلاقة بين موسكو ودمشق على السياسات المحلية، فضلا عن العلاقات مع الغرب والولايات المتحدة. فموسكو التي شاركت في قمع الحراك السوري ضد نظام بشار الأسد المخلوع، وساهمت في إطالة أمد الصراع عبر عسكرة الثورة ومطالبها الحقوقية والمدنية، كانت ضمن الاحتلالات التي تسببت في تقويض السيادة السورية، وعزلها، وفاقمت أزماتها الأمنية والاقتصادية، لا سيما مع فرض العقوبات الاقتصادية.
بالتالي، فاستمرار الوجود الروسي في سوريا والذي هو عبارة عن تواجد عسكري محض، سواء من خلال الميلشيات “فاغنر” والقوات الروسية في عدة مناطق تمثلها نفوذها الاستراتيجي كما في القواعد العسكرية بطرطوس وحميميم، ربما يجعل استبعاد “الأسد” من المشهد السوري غير مكتمل، بل يبدو مثل شبح في وجود حليفه القديم، أو بعبارة أخرى، سوف يتسبب هذا الوجود في استمرار السياسات المتشددة تجاه سوريا من الغرب وواشنطن، وبقاء العقوبات.
كما تباعد بين سوريا واستحقاقاتها في وضع جديد، إقليميا وخارجيا، وعلى المستوى السياسي والأمني والاقتصادي، وذلك لا يمكن حدوثه إلا بالبحث عن شركاء استراتيجيين، وتصفية السياسات القديمة ومجالات ارتباطها في الفضائين الروسي والإيراني، والمتسبب في عزلة دمشق دوليا.
“تهدد المرحلة الانتقالية بسوريا”
ليس ثمة شك، أن الوجود الروسي في المنطقة ارتبط بسياسات قمعية محلية، وسجل حقوقي مأزوم، فضلا عن تشكيل تحالفات لمعاداة الغرب والولايات المتحدة، في مناطق نفوذها التقليدية، وتهديد مصالحها، الأمر الذي برز بوضوح في ليبيا كما سوريا.

ورغم التنافس الذي شهدته الساحة السورية مع إيران إلا أن العلاقات بينهما كانت تتجدد تلقائيا على أساس تقاطع مصالحهما في مواجهة العدوين ذاتهما، كما هو الحال في أوكرانيا. فالضربات التي طاولت طهران وميلشياتها من قبل إسرائيل في دمشق، كانت تتم بتنسيق مباشر مع القواعد الروسية عبر “خط اتصال ساخن”، بينما لم يتسبب ذلك كله في انحراف العلاقة بينهما، واستمرت المسيّرات الإيرانية تصل للقوات الروسية في حربها على كييف.
ويمكن القول إن الوجود السياسي والعسكري الذي يبحث عن فرص لتعزيزه وجوده مع سلطة الشرع الجديدة في سوريا، تهدد المرحلة الانتقالية وتجعلها أمام تناقضات جمّة لا تحتملها تلك الفترة وهي تحتاج لشروط أكثر توافقية، لتجسير العلاقة بين المكونات كافة، فضلا عن علاقات طبيعية بالأوروبيين وأميركا.
ولا تبدو جرائم روسيا في حق المدنيين بسوريا وبنيتها التحتية التي دمرتها بطائراتها أقل فداحة عن ما ارتكبه نظام الأسد وبراميله المتفجرة. وعليه، فإن استمرار هذا التواجد يبعث بانقسام وغبن شديدين داخل المجتمع السوري الذي يسعى إلى الخروج من الحقبة السابقة، وطي صفحة الماضي، وبناء دولة طبيعية لها سيادتها، ومصالحها.
احتمالية تدشين روسيا حلف مع إيران
أما القاعدة الروسية في حميميم الجوية وطرطوس البحرية، فإنما تعكس أوضاعا غير طبيعية واستثنائية تراكم من خلالها موسكو نفوذا استراتيجيا بشرق المتوسط، وبما يمنحها فرصة لمراقبة أو مشاغلة التحركات العسكرية الغربية، ولحلف الشمال الأطلسي “الناتو”.
هذا التهديد الروسي للغرب والولايات المتحدة، يمتد إلى دول المنطقة، وبخاصة الخليج، مع احتمالية أن تكون إيران أحد الجيوب التي تشقها موسكو في إطار بناء تحالف إقليمي لمواجهة هيمنة القطب الواحد كما تروج، وتعاود تعويم وجودها بسوريا.
وفي ما يبدو أن سوريا تبدو بالنسبة لموسكو مجرد دول وظيفية، تحقق من خلالها جملة من المصالح، مثل الالتفاف على العقوبات الغربية، وتأمين نقل الأسلحة والمعدات العسكرية والموارد المطلوبة في الحرب الأوكرانية، وذلك عبر طرق مشبوهة وغير معلنة، بينما المقابل هو استمرار عزلة سوريا، وإعاقة انفتاحها على العالم، لا سيما مع استمرار العقوبات التي هي بحاجة لرفعها التام والنهائي ليستعيد الاقتصاد عافيته وبنفس الدرجة المواطن السوري، ويشعر بالاستقرار.
هيمنة موسكو على بعض المناطق الغنية بالموارد الطبيعية كحقول الغاز والنفط والفوسفات، يفاقم من أزمة ملف العقوبات، كما يتسبب في تعقيدات جمّة لحلحلة هذا الأمر، وقد تسببت العقوبات الدولية في شلل تام بقطاع النفط، بداية من عمليات الاستكشاف والإنتاج والتطوير، وحتى التكرير والتوزيع، وفق “بلومبرغ”.
وتردف: “أصبحت سوريا، حتى قبل سقوط نظام بشار الأسد، تعتمد بشكل كامل على الخام الإيراني. كما توقفت عمليات الاستكشاف، باستثناء بعض المحاولات غير المثمرة من الشركات الروسية والإيرانية”.
في ظل سوريا الجديدة المفترضة، فإن الحاجة تبدو ملحة وضرورية لأن تكون أقدام البلاد ثابتة في المحيط الجيواستراتيجي الحيوي لها إقليميا، وبعيدا عن روسيا التي تحشد نفوذها حول أماكن حيوية، لتهديد مصالح الغرب وحلفائه في جيوب استراتيجية متاخمة لشرق المتوسط.
ولم يخف رئيس لجنة السياسة الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي جيم ريش، شروط تخفيف العقوبات على سوريا، وقد حددها، أمس السبت، بالتزامن مع اتصالات جرت بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والشرع، منها القضاء على أي نفوذ روسي وإيراني بسوريا. فضلا عن ضمانات بأن لا تكون سوريا بيئة حاضنة لتوليد هجمات إرهابية ضد واشنطن وشركائها.
وقال ريش: “دعونا نرى كيف ستتصرف الحكومة المؤقتة الجديدة في سوريا”. وتابع: “الوقت هو جوهر المسألة… دعونا نرى كيف ستتصرف الحكومة المؤقتة الجديدة، وإذا حدث ذلك، فسوف نستمر في رفع تلك العقوبات”.
ضرورة خروج سوريا من عزلتها
فيما كشفت وزارة الخارجية الروسية أن موسكو تسعى إلى تطوير العلاقات مع دمشق، وأن مسألة الوجود العسكري الروسي هناك ما تزال “قيد النقاش”. وصرحت الناطقة بلسان الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا: “ملتزمون ومعنيون بالتطوير المستمر والنشط للعلاقات الثنائية الروسية السورية في مختلف المجالات”.
وقال زاخاروفا: “اتصالاتنا مع الجانب السوري تهدف إلى تحديد فرص ومجالات التعاون الثنائي في المرحلة الحالية. كما أن الوجود العسكري الروسي في سوريا قيد البحث” مع الإدارة السورية الجديدة.
وتعد هذه الجهود الدبلوماسية لروسيا ضمن محاولات عديدة لتوطيد العلاقات مع السلطة الجديدة بدمشق، والاحتفاظ بالامتيازات التي راكمها بوتين في سوريا، وضمان البقاء كلاعب مؤثر في الشرق الأوسط، وبين عدة ملفات مهمة، بعضها سياسي أمني وإقليمي (مثل الصراع في غزة والملف الفلسطيني الإسرائيلي)، والبعض الآخر اقتصادي (غاز شرق المتوسط، إعادة الإعمار بسوريا)، الأمر الذي يحتاج استمرار تواجد نفوذه في المرحلة المقبلة، لا سيما مع معادلات التغيير الجديدة المتوقعة والاستراتيجية.

ووصلت هذه الجهود ذروتها مع الاتصال بين الرئيس الروسي وأحمد الشرع، مؤخرا، وقد سبقه وصول نائب وزير الخارجية الروسي مطلع الشهر الجاري إلى دمشق لإجراء أولى المحادثات مع القادة الجدد بعد فرار “الأسد”.
في ظل سوريا الجديدة المفترضة، فإن الحاجة تبدو ملحة وضرورية لأن تكون أقدام البلاد ثابتة في المحيط الجيواستراتيجي الحيوي لها إقليميا، وبعيدا عن نفوذ إيران الذي يقوضها لحساب مشروع أيديولوجي، فتنقسم البلاد إلى نقاط تماس مع حدود “الهلال الشيعي”، وتخوض صراعا أو تتحول إلى منصة لتهديد بلدان حولها في الخليج وعربيا، والأمر ذاته بالنسبة لروسيا التي تحشد نفوذها حول طرق التجارة والمناطق الغنية بالطاقة والموارد الطبيعية، لتهديد مصالح الغرب وحلفائه في جيوب استراتيجية متاخمة لشرق المتوسط.
وليس الأمر هو خيار بين الاتجاه شرقا أو غربا، كما روج نظام “البعث”، إنما التماس الوسائل الممكنة السياسية والأمنية كما الدبلوماسية لاستعادة الدولة سيادتها وحدودها وتحقيق مصالحها، وتتعافى من الضغوط التي راكمها “الأسد” بدعاوى أيديولوجية و”حزبية” معتبرا التواجد في “محور المقاومة” والتحالف الروسي، إنما هو لصالح تفكيك الهيمنة الأميركية، في حين أن النتيجة هي عزلة سوريا، ودولة رخوة ونظام هش وحدود تعاني من سيولة أمنية وفساد متغلغل نجم عنه ثروات ونفوذ في قبضة فئة على حساب الأغلبية التي تعاني التهميش والإقصاء.
بالمحصلة، الوجود الروسي في سوريا يتسبب في تعقيد حسابات الغرب وواشنطن، ويقلل من فرص التعاون والشراكة الاستراتيجية، كما يجعل ملف العقوبات مأزوماً بتداعيات السلبية، على الوضعين الاجتماعي والسياسي.
- شبح الإفلاس يهدد شركات الصرافة.. ومخاوف بشأن تحكم مُقربين من “الشرع” بالسوق
- هل تنقذ اتفاقية “الأمم المتحدة” البنوك السورية؟.. وخطة مساعدات ضخمة خلال 3 سنوات
- 13 هجوما لـ “داعش” في نيسان.. هل يستعيد التنظيم نشاطه؟
- دبلوماسي بريطاني: الشرع يعتزم الاعتراف بإسرائيل نهاية 2026
- محمد يسر برنية: خبير اقتصادي في قلب التحول السوري فهل ينجح؟
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
مقالات ذات صلة

لقاء سري برعاية أمير قطر: ماذا دار بين السوداني والشرع؟

محمد البشير: من حكومتي الإنقاذ وتصريف الأعمال إلى وزارة الطاقة.. السيرة الكاملة

أنس خطاب من قائمة “الإرهاب” لوزارة الداخلية.. إليكم تاريخ “الرجل الغامض”!

الشرع يصل الدوحة ويلتقي أمير قطر.. ماذا ناقشا؟
الأكثر قراءة

وفد من “رجال الكرامة” يلتقي وزير الدفاع بدمشق.. ومحافظ السويداء يزور الهجري والحناوي

وصفوها بأنها “كبرت”.. نادين نجيم تردّ بقوة على منتقديها

وسط تحديات رئيسية.. ما السيناريوهات المتوقعة للاقتصاد السوري؟

هل يمكن أن تلعب الإمارات دورًا محوريًا في تعافي الاقتصاد السوري؟

نجل ممثل مصري يدهس شاباً.. وسعد الصغير أمام القضاء من جديد!

نادين الراسي بـ “فستان النوم” في الشارع وتنتقد جرأتها.. ما القصة؟
المزيد من مقالات حول في العمق

اختراقات تُقلق “الحوثيين”.. ما دور كتائب “العائدين” وطارق صالح؟

تحوّل في شرعية التمثيل السوري: واشنطن تُعيد تعريف العلاقة القانونية مع دمشق

لردع تركيا.. العمليات الإسرائيلية في سوريا بداية لحرب مفتوحة؟

أكراد سوريا يخطون نحو وثيقة سياسية موحدة.. و”اللامركزية” شعار المرحلة القادمة

تفاهم حلب بين “قسد” ودمشق.. خطوة نحو اللامركزية أم تسوية مؤقتة؟

التصعيد الإسرائيلي: هل باتت سوريا ساحة خلفية للصراع الإسرائيلي التركي؟

تفكك مالي: الصراعات الداخلية والاضطرابات المصرفية تنهش في جماعة الحوثي
