حينما تسيطر الطائفية على الأجواء السياسية يغيب الشعور بالوطن والمدنية والقانون ومع غياب المستباح للدولة وسيادتها، تتحول الدولة إلى مسرح لتنازع القَبلية والعصبيات الدينية، فالطائفية لا تعرف إلا صوتاً واحداً، ألا وهو صوت أتباعها، ويسيطر عليها الشعور الطائفي، والولاء الطائفي. 

وتتغذي الطائفية على وجود النُّخب السياسية الداخلية والخارجية المتنافسة في المجال السياسي والتي تسعى للحصول على المكاسب والمطامع السياسية. فالسياق السياسي الذي تبرز فيه الطائفية عاملٌ رئيسي في التحكم في إشعال الطائفية أو إخمادها. 

العراق بدوره يعاني من الصراعات الطائفية الداخلية وهو ما وجدته إيران مناخاً مناسباً لتمتد نفوذها الطائفية على الحياة السياسية في العراق وتتحكم في مجرياتها بشكل يتنافى مع السيادة العراقية على أراضيها. حيث تعمل القوات الإيرانية الموجودة داخل العراق على إشعال الصراعات الطائفية بين المواطنين مما يحقق لها البقاء والاستمرار في الهيمنة السياسية والعسكرية. 

وفي المقابل تدفع مدنٌ بأكملها ثمن هذه الصراعات من الاعتداء على أهلها أو تهجيرهم إلى مناطق أخرى بعيدة عن أرضهم، وتمثّل (جرف النصر) تلك المدينة العراقية، أحد ضحايا الصراع الطائفي الداخلي والخارجي الموجّه من إيران.

في 12 كانون الأول/ديسمبر الجاري، وفي اختراق جديد، كشف “الحل نت” عن معلومات سرّية تظهر مدى تورّط “فيلق القدس” التابع لـ “الحرس الثوري” ومن خلفه النظام الإيراني في هجمات طائرات بدون طيار التي استهدفت قواعد التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش” والقوات الأميركية في العراق وسوريا، التي انطلقت من منطقة (جرف النصر) جنوب بغداد، لكن ما قصة هذه المدينة؟

من جرف الصخر إلى جرف النصر

مدينة جرف الصخر هي مدينة استراتيجية تقع على بعد 50 كيلومتراً جنوب العاصمة العراقية. وهي جزء من الشريط ذي الأغلبية السّنية الذي يمتد جنوب بغداد، وكانت (جرف الصخر) ذات يوم عبارة عن أرض زراعية تميزت بوجود بساتين النخيل الوارفة المطلّة على نهر الفرات، وعدد سكانها كان 80 ألف نسمة.

جرف النصر العراقية كيف تحولت من واحة زراعية إلى قاعدة عسكرية إيرانية؟ (6)
عند زاوية الطريق الرئيسي في جرف الصخر توجد قطعة أرض فارغة كان يوجد بها مركز الشرطة ذات يوم. (تصوير نانسي يوسف/ غيتي)

تعني كلمة (جرف الصخر) بشكل فضفاض “الضفة الصخرية” نظراً لموقعها على منحنى نهر الفرات، ولكن تم تغيير اسمها إلى جرف النصر، أو بنك النصر، من قبل قوات الأمن العراقية في عام 2014 بعد الانتصار على مقاتلي تنظيم “داعش”. 

وتقع جرف النصر على طريق يسلكه عادة ملايين الحجاج الشيعة الذين يتّجهون بأعداد كبيرة أغلبهم من الإيرانيين إلى مدينة كربلاء المقدسة، وكان من المتوقع أن يحاول تنظيم “داعش”، الذي يعتبر الشيعة مرتدينَ، استهداف مواقع تجمّع الشيعة. ولهذا في معتقد البعض تمثّل جرف الصخر خطراً محدّداً على كربلاء وسكّانها ويُعد تطهير المنطقة أولوية رئيسية من قبل تنظيم “داعش”.

تهجير سكان جرف النصر برعاية إيرانية

في عام 2014، غزا تنظيم “داعش” العراق، إذ انهار الجيش العراقي وطلبت الحكومة في بغداد المساعدة من أصدقائها؛ إيران – هو ما وجدته إيران فرصة مناسبة لبسط نفوذها أكثر على مدن عراقية- والولايات المتحدة.

جرف النصر العراقية كيف تحولت من واحة زراعية إلى قاعدة عسكرية إيرانية؟ (1)
العائلات أُجبرت على مغادرة جرف الصخر في 27 أكتوبر/تشرين الثاني 2014 (رويترز)

واستجابت إيران بسرعة، فأرسلت مدرّبين وأسلحة وساعدت في تجنيد قوة عراقية تطوعية – عُرفت في النهاية باسم وحدات “الحشد الشعبي” – لمحاربة تنظيم “داعش”، وخلال القتال، قامت كتائب “حزب الله” العراقي بإفراغ كل قرية، وأخبرت الناس أنهم سيتمكنون من العودة بمجرد رحيل التنظيم. 

إلا أن هناك رواية مغايرة، بحسب ما تحدث بها أحد المسؤولين العراقيين لـ”الحل نت”، قائلا: “لم يتم ترحيل سكان المنطقة بشكل طوعي وإنما جُبر الأفراد على ترك بيوتهم وأرضهم أما نتيجة للخوف من الحرب الدائرة بين قوات الحشد أو كتائب حزب الله وبين داعش، وأما لأن قوات الحشد وجهت اتهام مباشر لسكان المنطقة بالتعاون مع تنظيم داعش حيث وجدت بيئة حاضنة له اجتماعياً، في حين أنه لم يثبت صدق هذا الاتهام أو كذبه”. 

وتم طرد السكان إلى بغداد وكربلاء والفلوجة، والبعض منهم يعيش في أماكن مهجورة لا تصل إليها الخدمات أو في أماكن عامة كالمدارس والمستشفيات. ولعل التصريح السابق يفسّر لنا ما قدّمته منظمة “هيومن رايتس ووتش” ومنظمة “العفو” الدولية بتوثيق مئاتٍ من حالات الاختفاء، معظمها من الرجال في المنطقة؛ وذكر تقرير حقوق الإنسان الصادر عن وزارة الخارجية الأميركية لعام 2019، أن 1700 شخص محتجزون في سجن سرّي خاضع لكتائب “حزب الله”.

إيران فرضت نفوذها على جرف النصر

بعد أربعة أشهر من المعارك بين تنظيم “داعش” والجيش العراقي، تدفق حوالي 10 آلاف من رجال الميليشيات الشيعية الموالية للحكومة إلى المنطقة للقيام بالدفعة الأخيرة، وفقاً لهادي العامري، الذي يقود فيلق “بدر” ومنسق العملية. 

عناصر شيعة من القوات الموالية للحكومة العراقية يقودون سيارة على طريق بالقرب من بلدة جرف الصخر، الواقعة بين بغداد ومدينة كربلاء المقدسة، في 30 أكتوبر 2014، بعد استعادة المنطقة من مقاتلي تنظيم “داعش”. (تصوير حيدر حمداني / وكالة الصحافة الفرنسية)

وشملت هزيمة المسلحين إخلاء جميع السكان وترك البلدة شبه مستوية بالأرض، مما يسلط الضوء على التحدي الذي تواجهه الحكومة التي يقودها تحالف شيعي في المناطق التي لا تعمل فيها التركيبة السكانية لصالحها. 

وبسطت القوات الإيرانية نفوذها بالكامل على المدينة بعد طردها لسكانها بطريقة وحشية تحت شعار “محاربة داعش”، وذلك لإزالة العديد من العبوات الناسفة وتطهير المنازل من القنابل التي تمّ قصفها، إذ قامت القوات العراقية بإبطال مفعول وتفجير حوالي 100 عبوة ناسفة تركها المتمردون أثناء انسحابهم من منطقة جرف الصخر. 

وبعد انتهاء الحرب بانتصار قوات “الحشد”، حاولت الحكومة العراقية إعادة السكان إلى المدنية وهو ما قوبل بالرفض من القوات الإيرانية حيث ذكر المصدر السابق لـ”الحل نت”، أن “إياد علاوي رئيس وزراء العراق سابقاً حاول محالات عديدة لأجل عودة المواطنين إلى أراضيهم، فسعى إلى التفاوض مع المسؤولين الإيرانيين بهذا الشأن، فكان ردّ الإيرانيين عليه بقولهم اسأل محمد الكوثراني – هو رجل شيعي لبناني ومكلّف بقيادة الشؤون الإيرانية المسلحة في العراق، هو قريب جدا من السلطة الإيرانية- وهو ما كان سبب في غضب العلاوي وفئة عريضة من العراقيين، قائل كيف لأمر عراقي يتحكم فيه رجل لبناني لا شأن له به”. 

ويبدو من المشهد السابق أن إيران كانت تخطط بشكل سابق للسيطرة على المدينة بعد التخلص من سكانها. فقد بات مستقبل هذه المدنية مجهول تماماً ولا يعرف أحد على وجه الدقة ماذا تفعل القوات الإيرانية المتمركز بها، فقد أصبح من المستحيل دخول هذه المدينة حتى أن الحكومة العراقية نفسها لا تستطيع دخولها. حيث ترفع نقاط التفتيش على الطرق المؤدية إلى المنطقة علم الجماعة – وهو أبيض اللون عليه رسم قبضة تمسك ببندقية كلاشينكوف منمقة ترتفع من كرة أرضية، وعبارة “حزب الله” بالخط العربي. 

أيضا في الشارع المركزي في بلدة المسيب القريبة، خارج نقاط التفتيش، تصطف على جانبيه “أعلام الشهداء” مطبوع عليها صور رجال الميليشيات الذين فقدوا أرواحهم وهم يقاتلون في العراق. ويذكر المصدر السابق “أن المدينة تحولت إلى قاعدة عسكرية لكتائب حزب الله حيث يوجد بها عديد من المصانع عسكرية”.

الميليشيا التي تسيطر على الأرض، كتائب “حزب الله”، وفق ما كشفه “الحل نت” تستخدمها لتجميع الطائرات بدون طيار والصواريخ التحديثية، مع الحصول على الأجزاء إلى حدّ كبير من إيران، والتي يُشرف عليها محمد جواد لطفي. 

ثم يتم توزيع هذه الأسلحة لاستخدامها في الهجمات التي تشنّها الجماعات المرتبطة بإيران في جميع أنحاء الشرق الأوسط – مما يضع هذه الأراضي الزراعية السابقة في قلب المخاوف من أن الحرب في غزة يمكن أن تتطور إلى صراع أوسع. 

الجنرال كينيث ماكينزي جونيور، الذي تقاعد العام الماضي كرئيس للقيادة المركزية الأميركية، التي تشرف على القوات الأميركية في المنطقة، قال: “لديهم صواريخ وقذائف هاون وقذائف”، وذكر أنه لا يعرف بالضبط النطاقات التي قد تمتلكها الأسلحة الآن.

قاعدة عسكرية في ظل حرب غزة

إن السيناريو الذي يتكشّف في العراق هو شهادة على رمال الشرق الأوسط المتحركة، حيث تتشابك التحالفات السياسية، والاستراتيجيات العسكرية، والديناميكيات الإقليمية لتشكل نسيجاً مخيفاً من الدوافع، والتواريخ، والمستقبل المحتمل. 

ميليشيا كتائب “حزب الله” الشيعية المدعومة من إيران تستعرض قواتها في جرف النصر – إنترنت

إن صعود الميليشيات المدعومة من إيران، والهجمات المكثّفة ضد المنشآت الأميركية والدبلوماسيات الغربية والعربية، والنفوذ السياسي المتزايد لإيران في العراق، كلها ترسم صورة لمنطقة في حالة تغير مستمر، مع تداعياتٍ تصل إلى ما هو أبعد من حدودها. 

وقد تصاعد الوضع منذ الشهر الماضي بتصاعد الهجمات التي تظهر التضامن مع الفلسطينيين. فيما تنفي إيران سيطرتها على الجماعات العراقية المسلحة التي هاجمت القوات الأميركية، لكن وزير خارجيتها، حسين أمير عبد اللهيان، قال في مقابلة أجريت معه مؤخراً، إنه يعتبر الولايات المتحدة متواطئة في حرب إسرائيل في غزة، مضيفاً أنه تم إنشاء الميليشيات لمحاربة ما أسماه الإرهاب والاحتلال. 

الجماعات العراقية شنّت ما لا يقل عن 100 هجوماً بطائرات بدون طيار وصواريخ ضد منشآت عسكرية أميركية في العراق وسوريا، مما أدى إلى إصابة 66 من أفراد الخدمة، وترى مصادر أمنية أميركية أن مصدر هذه الهجمات هو جرف النصر الخاضع للسيطرة الإيرانية.

ففي 21 و22 تشرين الثاني/نوفمبر الفائت، استهدفت الغارات الجوية الأميركية مقاتلي كتائب “حزب الله” و”عصائب أهل الحق” وحركة “النجباء” المدعومة من إيران في محافظة الأنبار الغربية ومنطقة جرف النصر في محافظة بابل، مما أدى إلى مقتل تسعة أشخاص. 

وجاءت هذه الضربات رداً على هجوم صاروخي باليستي شنّته ما تسمي نفسها “المقاومة الإسلامية” في 20 من الشهر ذاته، أدى إلى إصابة ما يصل إلى 10 جنود أميركيين في قاعدة “عين الأسد” الجوية. كما استهدفت طائرة حربية أميركية من طراز “AC-130” نقطة انطلاق الهجوم في منطقة أبو غريب، بينما استهدفت الطائرات المقاتلة الأميركية مراكز قيادة وسيطرة الميليشيات المدعومة من إيران في محافظة الأنبار وجرف النصر. 

ومع ذلك، فإن هذه الضربات لا تمثّل تحوّلاً في سياسة الولايات المتحدة تجاه الجماعات المدعومة من إيران في العراق، حيث ذكر نائب السكرتير الصحفي لـ”البنتاغون” أن الولايات المتحدة تشنّ ضربات انتقامية في المنطقة عندما تكون قادرة على تحديد نقطة انطلاق الهجوم. 

مركبات عسكرية متضررة في أعقاب الغارات الجوية العسكرية الأمريكية على منطقة عسكرية في منطقة جرف الصخر في محافظة بابل العراقية (جنوب العاصمة) التي تسيطر عليها كتائب حزب الله. (وكالة فرانس برس)

ومن المرجّح أن تهدف الضربات التي تستهدف مراكز القيادة والسيطرة إلى ردع ضربات صاروخية باليستية قصيرة المدى إضافية، حيث تشنّ جماعة “المقاومة” في العراق المدعومة من إيران هجمات انتحارية شبه يومية بطائرات بدون طيار وصواريخ تستهدف القوات الأميركية وقوات “التحالف الدولي” المتمركزة في العراق وسوريا منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر. ومع ذلك، أوقفت المجموعة هجماتها خلال وقف إطلاق النار المؤقت في غزة والذي دخل حيّز التنفيذ في 24 نوفمبر/تشرين الثاني.

وأخيراً، إن وجود القوات الإيرانية الطائفية في المنطقة العربية لا يمثّل إلا بيئة حاضنة لمزيدٍ من أعمال العنف والإرهاب والتهجير، مما يعني أن سيناريو جرف النصر مرشّح للاستنساخ والتكرار في مدن أخرى.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات