في تصريح جديد لرئيس مجموعة “فاغنر” المرتزقة الروسية، يفغيني بريغوجين، واستمرارا لسلسلة مواقف، تؤكد حالة الصراع والتخبط داخل المؤسسة العسكرية الروسية التي تكشّفت ما بعد قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في شباط/فبراير من العام الماضي، عندما قرر غزو أوكرانيا الواقعة شرق القارة الأوروبية، بمزاعم تهديد تمثلها محاولات انضمامها لـ “حلف شمال الأطلسي” (الناتو)، الذي يعتبره بوتين خصما استراتيجيا لبلاده؛ رفض بريغوجين، الأحد الفائت، توقيع مقاتليه عقودا مع وزارة الدفاع الروسي.

جاء ذلك سريعا؛ بعد أن أعلنت وزارة الدفاع الروسية، السبت الماضي، أن وزير الدفاع سيرجي شويغو، أمر جميع “وحدات المتطوعين”، بإشارة للجماعات المرتزقة التي تستخدمها روسيا في غزوها لأوكرانيا، بتوقيع عقود مع وزارته بحلول نهاية الشهر، وهي خطوة قالت الدفاع الروسية، إنها ستزيد من فعالية الجيش الروسي؛ بيد أنه على الرغم من أن الوزارة لم تشير إلى “فاغنر” في بيانها، إلا أن وسائل إعلام روسية ربطت ذلك بما وصفته، محاولة من شويغو لإخضاع المقاتلين لسيطرته.

بناء على ذلك، قال بريغوجين، مؤسس فاغنر ورئيسها، إن مقاتليه لن يوقّعوا أي عقد مع وزير الدفاع سيرغي شويغو، رافضا علنا محاولة وزارة الدفاع، إخضاع الشركة الروسية في هذا المجال لسيطرة الوزارة، وذلك بينما شنّ هجوما لاذعا عدة مرات على كبار قيادات الجيش الروسي، بسبب ما وصفها بالخيانة لفشلهم في إدارة الحرب بأوكرانيا على نحو صحيح.

صدام مسلح متوقع بين “فاغنر” والجيش الروسي

مقابل ذلك، وعلى الرغم من أن وزير الدفاع الروسي، ولا حتى رئيس الأركان العامة فاليري غيراسيموف، لم يعلّقا علنا على إهانات بريغوجين، الذي تقود قواته محاور بأكملها في الغزو الروسي على أوكرانيا، غير أن الحالة بدت كما لو أن الأزمة بين “فاغنر” والجيش الروسي، هي جزء من صراع أكبر من الحد المعلن، قد يتعلق بالتدافع على السلطة داخل “الكرملين”، فضلا عن محاولات “فاغنر” تقديم نفسها للرئيس الروسي على أنها حليف أوثق من المؤسسة العسكرية، الأمر الذي قد يدفع لحصول صدامات مسلحة بين الجانبين.

أزمة توقيع العقود التي دفعت رئيس مرتزقة “فاغنر” بريغوجين، المعروف بطباخ بوتين، بالهجوم على وزير الدفاع الروسي، ووزارته، تأتي في سياق حملة شعواء يشنّها على الجيش الروسي، وقادته الذين اتهمهم بالخيانة وتحويل الحرب إلى “ترفيه شخصي”، ليتسبّبوا بموت خمسة أضعاف ما كان من المفترض أن يموت من رجاله، كما شكك في قدرتهم على حماية روسيا، في مسلك غريب على دولة مثل روسيا اشتهرت بحكمها المركزي الاستبدادي.

الأمر الذي عكس ما يؤكده مختصون، وجود حالة من الصراع داخل روسيا، والتي بفعلها يظهر بريغوجين، متمردا على المؤسسة العسكرية، والتي دفعته أثناء قتال عناصره في معارك مدينة باخموت الأوكرانية، والتي سقط فيها الآلاف من عناصر “فاغنر”، للتهديد بالانسحاب من المعارك.

بريغوجين برر طلبه للانسحاب إلى نقص الذخيرة منذ وقت طويل، متهما رئاسة الأركان بتزويده فقط 32 بالمئة من الذخيرة المطلوبة منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي، حيث يتهم منذ أشهر، هيئة الأركان الروسية، بعدم إمداد مجموعته بكمية كافية من الذخائر لمنعها من تحقيق انتصار في باخموت يعجز عنه الجيش النظامي.

حالة التوتر هذه من سياق مشبع بعلامات الاستفهام بين “فاغنر” والجيش الروسي، دفعت موقع “الحل نت” إلى الوقوف على أبعاد “الصراع غير المعلن”، من خلال الحديث مع المختص بالشأن الأوكراني محمد فرج الله، رئيس تحرير “وكالة أوكرانيا بالعربي”.

فرج الله، قال إن ما يحدث يعد مؤشرا أكثر من واضح بأن هناك حالة من التناحر الداخلي الروسي، وأن الغزو لأوكرانيا لم يلقِ بظلاله على الوضع الاقتصادي فقط، بل فتح باب الصراع على السلطة، فيمكن القول إن الصراع على السلطة بروسيا قد بدأ، فهناك معسكر قدير أوف وبريغوجين قائد “فاغنر” من جهة، ومعسكر وزارة الدفاع والاستخبارات من جهة أخرى، بالإضافة لمعسكر الرئاسة، بالتالي هذا كله يؤشر حاليا إلى ضعف شديد في الدولة المركزية البوليسية.

فرج الله بيّن في حديث لموقع “الحل نت”، أنه عندما تكون دولة مثل روسيا، أو وزارة الدفاع الروسية، تقول بأنها تمتلك ثاني جيش عالميا، لكنها تلجأ لمرتزقة “فاغنر”، هذا يعني كأن روسيا أصبحت تقولها علنا بأنها تتمسك أو ترى خلاصها بيد معتقلي السجون، وأصحاب السوابق، مشيرا إلى أن روسيا أدركت هذا الخطأ الذي أوقعت نفسها فيه، لذلك حاولت التخلص من هذه المجموعة من خلال دفعهم نحو الهلاك في معركة باخموت، من خلال إيقاف الذخيرة والسلاح عنهم وكل الدعم.

سيناريوهات صراع “فاغنر” والجيش الروسي

لهذا السبب، أيقن بريغوجين محاولات التخلص من رجاله، وهو ما أدى إلى تصاعد الخلاف والمعركة إلى العلن، وهو ما دفع بقوات “فاغنر” للانسحاب من باخموت، الأمر الذي أثبت أن المدينة لم تسقط بعد بل لا يزال الصراع يدور حولها بين القوات الروسية والأوكرانية، كما يرى الخبير في الشؤون الأوكرانية، ويشير إلى أنه، قد ثبت لدى بريغوجين، أن الجيش الروسي عاجز ليس فقط عن هزيمة الجيش الأوكراني، بل عن السيطرة الداخلية للمدن أيضا، حيث نرى أن الوحدات الأوكرانية قد دخلت للعمق الروسي في إقليم بلغراد.

قائد قوات “فاغنر” بريغوجين/ إنترنت + وكالات

فرج الله لفت إلى أن بريغوجين يرى المرحلة سانحة لفرض شروطه على وزارة الدفاع، وهو ما دفعه لرفض توقيع الاتفاقية بين مقاتليه والوزارة، مبينا أن المشهد منفتح على عدة سيناريوهات، حيث قد تكون روسيا ذاهبة باتجاه تقنين “فاغنر” كميليشيا، وهذا يكون المكسب الأقل لقائد “فاغنر”، أما أن يحصل على مكاسب سياسية وتنازلات رسمية ليتحول لشخص رسمي، مثل نائب وزير الدفاع، بيد أن كل هذه الحلول بمثابة تجرع السم للدولة الروسية، مؤكدا أن رفض “فاغنر” توقيع اتفاقية مع وزارة الدفاع يعني أنها حالة تمرد واضحة داخل العسكرة الروسية.

 بالمجمل، أن ما يحدث حاليا بين مجموعة “فاغنر” والجيش الروسي، سينعكس على مستوى استمرار حالة التخبط الروسي، بحسب فرج الله، الذي نوّه إلى أن، روسيا اليوم لا تشبه روسيا في أول انطلاق الغزو، مبينا أن العام الماضي تمكنت روسيا من السيطرة على مدينة ماريوبول التي يبلغ عدد سكانها نصف مليون نسمة، بـ87 يوميا، في حين لم تتمكن خلال عام كامل من السيطرة على مدينة باخموت التي يبلغ عدد سكانها 70 ألف نسمة، ومساحتها 41 كيلومتر، ما يؤشر حالة ضعف ووهن شديد داخل الدولة الروسية.

إن ذلك ينعكس بشكل مباشر على مجريات الغزو، كما يؤكد الخبير في الشؤون الروسية، حيث أصبح القادة العسكريين في روسيا الآن يعلمون ويدركون بشكل واضح، أن ما تسميه بلادهم بالعملية العسكرية لم تحقق أيّا من أهدافها، وفشلت فشلا ذريعا، حيث تحولت المجريات كلها إلى حرب استنزاف للموارد، لافتا إلى أن، ما يحدث بين “ُفاغنر” والجيش الروسي، يصب في صالح أوكرانيا، ويؤكد ما قالته كييف للعالم منذ بداية الغزو، بأنه يجب ألا يخشى روسيا وأن يتعامل معها بحجمها الطبيعي.

وسط ذلك، تتحدث تقارير عن وقوع اشتباكات غير معلنة بين قوات “فاغنر” التي ذاع صيتها لقيامها بما قالت الولايات المتحدة الأميركية، بزعزعة استقرار بلدان في إفريقيا ونهب الموارد الطبيعية بل التدخل في انتخابات البيت الأبيض عام 2016؛ والجيش الروسي.

حيث باتت “فاغنر” أداة التأثير الروسي في إفريقيا، إذ نشرت قواتها في ليبيا وإفريقيا الوسطى، وأبرمت علاقات وثيقة مع ميليشيات العقيد الليبي المتقاعد خليفة حفتر، وقوات “الدعم السريع” السودانية، شبه العسكرية، كما تتورط المجموعة المصنّفة “إجرامية” في تهريب الذهب بالمنطقة وتوريد السلاح، لدرجة أن الولايات المتحدة تتهمها بتوريد صواريخ مضادة للطائرات لقوات “الدعم” التي تحارب حاليا الجيش السوداني.

تحقيق أجرته شبكة “سي إن إن” العام الماضي كشف عن مدى قيام روسيا بتهريب الذهب من السودان واستخدام مجموعة “فاغنر” التي تأسست عام 2014، كأداة غير رسمية للسياسة الخارجية للكرملين الروسي؛ للمساعدة في نهب الموارد الطبيعية للبلاد. ووفقا للمسؤولين الأميركيين يبدو أن “فاغنر” تدير الكثير من أعمالها في مجال التعدين من خلال شركة “مروي جولد” المعاقبة أميركيا.

خسائر “فاغنر” في أوكرانيا

إلى ذلك، تشير تقديرات مسؤولي الولايات المتحدة، إلى أن مجموعة “فاغنر” لديها حوالي 50 ألف جندي يقاتلون في أوكرانيا، بيد أن أكثر من 30 ألفا من مقاتليها، تعرض إما للقتل أو الجروح منذ بداية الغزو، بحسب ما نقلت مجلة “بيزنس إنسايدر” عن مسؤولين أميركيين.

وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو/ إنترنت + وكالات

“فاغنر” اعتمدت على إرسال قوات ضعيفة التجهيز في موجات متوالية لإنهاك العدو وإشغاله، لكن هذه الخطة ألحقت بقوات المجموعة خسائر فادحة، في حين قالت مصادر استخبارية غربية، إن 90 بالمئة من الوحدات القتالية التابعة لـ”فاغنر” في أوكرانيا، تتكون الآن من سجناء جنَدتهم المجموعة من السجون والمؤسسات العقابية، وقد ورد أن عملية التجنيد بدأت في شباط/فبراير 2023.

لكن مؤخرا، توسعت فاغنر في تجنيد القوات من خارج وداخل روسيا، حيث اشتكى بريغوجين، مرات عدة في خضم توترات مع وزير الدفاع، من أنه لم يعُد قادراً على تجنيد مقاتلين من السجون الروسية.

خسائر “فاغنر”، وصلت إلى ما يقرب من 65 بالمئة من مجنديها الجدد، كما أنها عانت نقصا في المقاتلين، ومشكلات لوجستية وأزمات في سلاسل الإمداد، بحسب ما كشفت مصادر لموقع “ميدل إيست آي” البريطاني، في 28 نيسان/أبريل 2023، مشيرة إلى أن أحد أسباب الخسائر هو نقص الإمدادات والدعم من الجيش الروسي.

العداء بين فاغنر والجيش الروسي قديم، فانتقادات يفغيني بريغوجين لقادة الجيش، تأتي بناء على مرارات سابقة تصل لشبهات خيانة، حدثت خلال المشاركة الروسية في حرب سوريا، حسبما ورد في تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال”، الأميركية، نقله موقع “عربي بوست” في تقرير له.

فقد هاجم قائد “فاغنر” في مرات عديدة قادة الجيش الروسي، ففي أول أيار/مايو 2023، حذر بريغوجين، من أن إطلاق أوكرانيا هجوما مضادا قد يمثل “مأساة” لروسيا، كما كرر شكواه من شح الذخيرة لدى مقاتليه، وسبق أن وجّه ما اعتُبر تهديدا مبطنا للكرملين. 

في آذار/مارس 2023، ظهر بريغوجين، في فيديو مسجل من غرفة مظلمة، ليحذر بنبرة رسمية من العواقب الدموية على روسيا إذا انسحب رجاله الآن، كما ادّعى أن الجيش الروسي سيُجبر على ترسيخ الجبهة، بينما ينهار القرم، و ستكون هناك كوارث أخرى عديدة.

من الواضح أن، حجم الصراع بين “فاغنر” والجيش الروسي أبعد مما يُرى ويُسمع، إذ يبدو جليا أن هناك صراعا داخليا يهز تماسك المؤسسة العسكرية التي كثيرا ما اعتمد الرئيس بوتين في ترسيخ نظامه وتنفيذ مشاريعه عليها، الأمر الذي قد ينعكس على استقرار روسيا الداخلي، وصورتها الخارجية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات