“من المعروف أنه في الحروب المقاولون يجنون الأرباح، إلا أن ما حصل في سوريا هو العكس”، تواتر هروب المقاولين في بعض المدن السورية بنظر ناصر المصطفى، وهو أحد المقاولين في دمشق، يدل على أن هناك حلقة مفقودة، فمدى صعوبة تبدد الآمال، ومدى صعوبة تلاشي التطلعات، ومدى صعوبة إفلات المذنبين من العقاب أو المساءلة، فضلا عن عدم طرح الحلول كلها اجتمعت لتنهي مستقبل البناء العمراني في سوريا.

قطاع العقارات في سوريا يشهد اضطرابا منذ نحو سنتين، حيث تتراوح بين الركود، والحركة في البيع والشراء وذلك نتيجة لارتفاع الأسعار غير المسبوق، الذي بات يصل إلى مليار وأكثر للعقار في بعض الأحيان، وخاصة في العاصمة دمشق والمحافظات الرئيسية، ودائما المبرر يكون بارتفاع الأسعار عالميا، علما أن ارتفاع الأسعار لم يقتصر على تجار مواد البناء فقط، وإنما انسحب إلى عدد من أصحاب المكاتب العقارية.

منذ دخول عام 2018، حذر نقيب المقاولين في سوريا، محمد رمضان، من أن قطاع المقاولات تضرر كباقي القطاعات، ما أدى إلى تراجع عدد المقاولين، مشيرا إلى أن عدد المقاولين في سوريا انخفض من 12 ألفا إلى 4500 مقاول، أي بنسبة 40 بالمئة، والذي رافقه انخفاض في عدد الشركات التي كانت تزاول المهنة أيضا.

هجرة جماعية

“في السابق كانت الأرباح تغطي التكاليف الحقيقة وتكاليف المقاول، ويستطيع أيضا ادخار جزءا كبيرا منها”، يشير المصطفى في حديثه لـ”الحل نت”، إلى أن القرارات الأخيرة حول رخص البناء التي ارتفعت إلى 200 بالمئة بعد أن أقرتها وزارة الأشغال العامة والإسكان، والتي أثارت عاصفة من الجدل في قطاع المقاولات، كانت كفيلة بأن تحافظ على وضعهم المتوقف وتفاقم الأعباء المادية على المقاولين في سوريا، وأدت إلى هجرة الغالبية العظمى من البلاد.

وفي حديثه، يقول المصطفى، إن “الهجرة الجماعية إلى دول كالعراق ومصر كانت سببها الهواجس التي أحاطت بالعديد من المقاولين، من عدم قدرتهم على إكمال المشاريع، إلى ضعف القوة الشرائية، وارتفاع الأسعار المحموم في الأسواق التي تفرضها سلاسل التوريد والشحن”.

قطاع البناء والتعهدات في سوريا يشهد ظاهرة غريبة، فبالرغم من الأضرار الكبيرة بالبنية التحتية والمناطق السكنية، إلا أن إعطاء هذه الصناعة الأولوية على غيرها لعدد من الأسباب، أولها إعادة الحياة للمجتمعات السكنية، وإنقاذ المواطنين من شبح الغلاء وقلة المساكن لم يكن على أولويات مؤسسات الدولة.

ومع الإصرار على الفصل بين مقتضيات العدالة ومتغيرات المرحلة؛ كان السبب الأبرز في هذه الهجرة التي اعترف بها رئيس فرع نقابة مقاولي الإنشاءات في اللاذقية، طارق أبو دبوسة، لصحيفة “الوطن” المحلية، اليوم الاثنين، هو جمود حركة البناء، وارتفاع المتطلبات على المقاولين، سواء من قبل الحكومة أو من تجار مواد البناء.

أبو دبوسة، خلال تصريحه كشف عن شبه جمود بحركة عمل المقاولين في سوريا حاليا، حيث خسرت النقابة في اللاذقية وحدها نحو 2500 مقاول منذ عام 2011، مبينا أنه قبل التاريخ السابق كان لدى النقابة 3 آلاف مقاول، ليبقى منهم اليوم 520 مقاولا فقط.

إحباطات وتحديات

بحسب ما يقوله المصطفى، فإن نقابة المقاولين طالبت الحكومة منذ سنوات، بالعودة إلى منح القطاع العام 30 بالمئة من المشاريع، خصوصا وأنه على أرض الواقع، تشكل الرسوم العالية التي تفرضها الوحدات الإدارية، إضافة إلى القضايا الاقتصادية التي يعاني منها هذا القطاع نتيجة الارتفاع المستمر في تكاليفه، وعدم أو ندرة بعض احتياجاته من الإسمنت والوقود مقابل الانخفاض المستمر في مستويات الدخل، حال دون تلبية أي عرض قائم بأصغر عرض في هذا القطاع، وأيضا على من يفكر مجرد التفكير في العمل ضمن هذا القطاع.

أبرز ما يجابهه المقاول من تحديات، وفق ما يصفه تاجر مواد البناء، علي الكاكوني، لـ”الحل نت”، هو ارتفاع رسوم انتسابه للنقابة، وزيادة أسعار مواد البناء، التي ارتفعت خلال العام الجاري إلى نحو 200 بالمئة بسبب ارتفاع تكاليف الشحن خصوصا للمواد التي يتم استيرادها من الخارج، والذي ترافق بذات الوقت مع انخفاض قيمة الليرة التي كبدت المقاولين في سوريا أعباء إضافية.

من وجهة نظر الكاكوني، فإن استقرار العملة المحلية، وعدم إجبار المقاولين على الدفع بالدولار للبنك المركزي من أجل استيراد المواد، له السمة الأبرز في إنعاش القطاع داخل البلاد، لكن على العكس تماما، كان هذا العامل الأبرز في هجرة المقاولين من داخل البلاد إلى خارجها.

من جهته، ذكر أبو دبوسة، أن هناك منغصات وصعوبات عدة أمام عمل المقاولين، ما أدى لسفر بعضهم، وبعضهم الآخر بدّل عمله وآخرون لم يجددوا انتسابهم بسبب عدم قدرتهم على دفع رسوم متراكمة ومنها الرسم السنوي نحو 175 ألف ليرة، تصل إلى ما يقرب نصف مليون ليرة عن 3 سنوات تأخير.

رسوم تتجاوز المليار ليرة

الرسوم المرتفعة التي تدفع مقابل الحصول على رخص البناء، وصفت بأنها “إيرادات ممتازة للوحدات الإدارية”، لكن هذه الرسوم بنظر المصطفى وحتى الكاكوني “لا ترحم المواطن والمقاول على حد سواء من ارتفاع أسعار العقارات في البلاد”.

في منتصف تموز/يوليو الفائت، رئيس دائرة الرخص والبناء في مجلس مدينة طرطوس، بسام شاهين، أكد أن الدائرة منحت 30 رخصة بناء في المحافظة، برسوم بلغت مليار ونصف المليار ليرة سورية، في حين كانت سابقا لا تتجاوز رسوم هذه الرخص 50 مليون ليرة.

هذا الارتفاع في رسوم البناء، يعود إلى التعليمات التنفيذية للقانون 37، حيث تحدد رسوم رخصة البناء، وفقا للقيمة الرائجة لسعر متر الأرض الذي تحدده المديريات المالية، لمساحة البناء والشرفات ومتغيرات أخرى، وهذه الرخص منوعة شملت، إما بناء جديد أو استكمال لبناء طابق إضافي.

نقيب المقاولين، وضح أن من الأعباء الكبيرة التي تواجه المقاولين في سوريا عموما وفي اللاذقية على وجه الخصوص، هي نقص فرص العمل في تنفيذ المشاريع لمصلحة شركات القطاع العام، والتي باتت تنفذ مشاريع بقيمة أقل من 100 مليون ليرة ومنها مشاريع بقيمة 25 مليون ليرة. 

هذه المشاريع التي كان يعتمد عليها المقاولون في سوق العمل ليصبحوا اليوم خارجه من دون الحصول على أية مشاريع، ما يعد إجحافا بحق المقاولين، علما أن هذا الموضوع مخالف لقانون التصنيف حول آلية دخول الشركات لتنفيذ المشاريع حسب القيمة لكل مشروع.

وأكد أبو دبوسة، أهمية إعادة العمل في مقالع الحصويات بسبب تكبّد المقاول مبالغ إضافية لقاء استجرار البحص والرمل من منطقة حسياء، ليدفع نحو 600 ألف ليرة عن كل شاحنة، إضافة إلى دفع رسوم وفق مبدأ النسب والتناسب للمؤسسة العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية.

على سبيل المثال، عن كل مشروع بقيمة 25 مليون ليرة يستوجب دفع رسم للمؤسسة نحو 700 ألف ليرة، في حين لو تتم إعادة تشغيل مقلع “رسيون” بمنطقة الحفة لكانت الرسوم غير مستوجبة على المقاول وإنما تبقى من المقلع إلى المؤسسة، كما كان الأمر سيخفف أعباء أجور نقل المواد من حسياء لمعدل 30 إلى 40 بالمئة كأجورها من ريف اللاذقية، منوها بأن هذه المبالغ ستكون وفرا لزيادة إنتاج المقاول في مشاريع إضافية بشكل عام.

وحول المشاريع المتوقفة والمتعثرة منذ بداية 2011، بيّن أبو دبوسة، أن عددها نحو 200 مشروع مجمّد، منها مشاريع إنشاء مدارس وفتح طرقات ومشاريع صرف صحي وقنوات مائية إضافة لجمعيات سكنية، مشيرا إلى مشكلة فروقات الأسعار والعمل على تعديل آلية السعر بآلية ميسرة تنعكس على حركة العمل وتنفيذ المشاريع من جديد.

شلل في قطاع العقارات

بسبب العرض الكبير مقارنة بضعف الطلب الناتج عن انخفاض القدرة الشرائية للأفراد السوريين، نتيجة انخفاض الدخل وانخفاض قيمة الليرة مقابل الدولار، تشهد صناعة العقارات في سوريا، ركودا حادا، حيث وصلت نسبة الانخفاض في البناء إلى 60 بالمئة، وباتت مقتصرة على الشركات العقارية الكبيرة.

بحسب ما أكده رئيس نقابة البناء والإسمنت، إحسان قناية، لصحيفة “تشرين” المحلية مؤخرا، فإن السبب وراء ذلك، ارتفاع أسعار مواد البناء من الإسمنت والحديد والبلوك، ومواد الصحية والكهرباء بنسبة أكثر من 100 بالمئة، عما كانت عليه في العام الماضي، فيما ارتفعت بنسبة 15 بالمئة، في الأيام القليلة الماضية.

ووفقا لحديث قناية، فإن تكلفة طن الإسمنت الرسمي ارتفعت إلى 416 ألف ليرة، بدلا من 180 ألف ليرة في العام الماضي، في حين ارتفعت تكلفة طن الحديد إلى 3.5 مليون ليرة، بدلا من 225 ألف ليرة، كما أن تكلفة اليد العاملة قد زادت أيضا بسبب غلاء المعيشة، حيث وصلت يومية العامل المساعد إلى 18 ألف ليرة.

من المفارقة أن وزارة المالية السورية، كشفت في تموز/يوليو الفائت، أن عدد مبيعات العقارات المسجلة في الدوائر المالية تجاوز 362.6 ألف عقد، منذ دخول القانون رقم 15 لسنة 2021 الخاص بضريبة مبيعات العقارات حيز التنفيذ، ما يعني أن المستفيد في هذه الدائرة المغلقة، هي جهة واحدة.

الوزارة أوضحت أن إجمالي الضريبة على المبيعات التي نفذت خلال عام 111.7 مليار ليرة، أي ما يعادل 0.8 بالمئة من مخصصات الميزانية لعام 2022، والتي تبلغ 13325 مليار ليرة، وتعادل 1.2 بالمئة من إجمالي الإيرادات الكلية لعام 2022، والتي تبلغ 9200 مليار ليرة، وتعادل 2.5 بالمئة من الإيرادات الحالية البالغة 4400 مليار ليرة.

على وقع الهجرة المستمرة، قطاع المقاولين وبقية القطاعات في سوريا، تعاني من نزيف مستمر، فبالنظر للهجرة الجماعية سجلت نقابة الأطباء بقاء 20 ألف طبيب من أصل 70 ألفا، في حين أن قطاع المقاولين بقي فيه أقل من 4500 مقاول، عدا عن قطاع المهندسين والمحامين، وهو ما ينذر بالخطر القادم الذي بات يهدد مستقبل البلاد عموما.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.