الديون هي واقع لا مفرّ منه في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للناس. فهي تمثل وسيلة للحصول على السلع والخدمات التي تفوق الدخل المتاح، أو لتغطية النفقات الطارئة والضرورية. كما أنها تعبّر عن علاقة ثقة وتعاون بين الدائن والمدين، وتشكل جزءاً من التضامن والتكافل بين الأفراد والجماعات.

لكن ماذا يحدث عندما تصبح الديون عبئا لا يطاق على كلا الطرفين، وعندما تتأثر قيمة الديون بالتضخم والانهيار العملة، وعند فشل الآليات القانونية والمؤسسية في حماية حقوق الدائنين والمدينين، هنا تظهر طرق جديدة وغير تقليدية لتسجيل وتحصيل الديون، تعكس حالة من الفوضى والانحلال.

في لحظات الضباب الاقتصادي والتحديات المالية المتلاحقة، تتسلل مشكلة الديون إلى خيوط الحياة اليومية بشكل ينذر بأزمة مالية محتملة. بالنسبة للباعة في سوريا هذه المرة يعرضون لتسجيل الديون بطريقة جديدة ومُبتكرة. ولكن هل هي مجرد طريقة للتكيّف مع التحديات أم جذور لأزمة مالية أعمق.

سعر الصرف يدفع لتسجيل الديون كسلعة

إن قصة الديون في الوقت الراهن داخل سوريا تبدو أكثر تعقيدا وتعمّقا مما يمكن تصوّره. المشكلة لا تنحصر فقط في حجم الديون المتزايد والضغوط المالية المتنامية، بل تمتد أيضا إلى عدم توفر سُبل قانونية محددة للتعامل معها. فالديون تراكمية على الأفراد والشركات، والدائنون يبحثون عن طرق لتحصيل حقوقهم في ظل تفاقم التضخم.

في هذا السياق المتردّد، تبدو صورة صاحب المتجر وهو يحمل لوحة “الدين ممنوع الرجاء عدم الإحراج” وكأنها تُلخص واقعا مؤلما. هنا يتعامل البائع مع زبائنه وحاجاتهم ويسعى للبقاء على قيد الحياة في سوق مليء بالتحديات والمتغيرات في حالة دائمة. فالأسعار تتأرجح وتتغير مع وتيرة غير مسبوقة، وتلك التحديات المتعددة تُلقي بظلالها على العلاقات الاجتماعية والاقتصادية.

في تقرير لصحيفة “الوطن” المحلية، ذكر صاحب متجر أن ظروف العمل أصبحت جدا معقدة، والإحراج سيد الموقف من الجيران والأقارب الذين يضطرون لشراء بعض الحاجات وليس لديهم القدرة والسيولة المتوفرة للشراء، والأسعار في تغيّر مستمر، وأحيانا يتم تعديلها أكثر من مرة في اليوم الواحد.

حتى لا يقع البائع في خسارة ولا يحرج زبائنه، يقوم بتسجيل الدين كسلعة بشرط تسديده حسب السعر وقت التسديد وليس الشراء، وبهذه الحالة لا يخسر البائع ويكون قد لبّى حاجة الزبون ريثما تكون تبدلت حالته وتوفرت السيولة في يديه.

الديون تتحول إلى لعبة محظورة

رحلة الديون في سوريا تحوّلت من كونها مجرّد مسألة سلع إلى كبوة مالية تؤرق الأوضاع، وفي سياق هذا الاتساع، تبرز الديون القديمة التي أصبحت مجرّد أثر لا قيمة له، مشوّهة بسبب التضخم المستمر وتراجع قيمة العملة الوطنية. وكما أشار الدكتور والمحامي بشير بدور، هذه الديون أصبحت من بين الجرائم المتكاثرة في الفترة الأخيرة.

مع هذا السياق المعقّد، يأتي دور القاضي ليُقدّر قيمة هذه الأموال المتضررة من التضخم فقط، خصوصا في الحالات التي يتعثر فيها نقل الملكية أو يتم التراجع عن عمليات البيع كأمور مؤثرة. ومع ذلك، هناك حالات أخرى للديون التي تبدو خالية من أي مستندات رسمية، حيث تُمنح هذه الديون بناء على معرفة شخصية أو حتى بناء على مبدأ الجيرة والمحبة.

على ضفاف هذا الواقع المالي المعقّد، ألقى الدكتور بشير بدوره الضوء على مشاكل وتشابكات نابعة من سلسلة الارتفاعات المتصاعدة في سعر الصرف. وهذه المشكلات تبيّنت على شكل مضاعفات سلبية، فأثّرت في البُنى المالية وخلقت ضغوطا على نظام القضاء. وليس ذلك فحسب، بل أدت أيضا إلى تزايد عدد القضايا المرتبطة بالديون والاحتيال والسرقة، وارتفاع نسبة الفقر المتزايد في مواجهة القضاء، وهو أمر يشكل تحدّيا جديا.

في هذا السياق الكئيب، يبدو أن الواقع الاقتصادي القاسي قد فرض سيطرته على العديد من المواطنين الذين وجدوا أنفسهم في دوامة الديون والمشكلات المالية. ويجد الكثيرون أنفسهم أمام دعاوى قضائية، ولكن بلا نيّة جرمية للاحتيال، بل إن الوضع الاقتصادي منعهم من تسديدها. 

الديون بالليرة أصبحت عبئا

من الجدير بالذكر أن هناك فئة من المواطنين كانت ديونهم قد تراكمت بقيم بسيطة في السابق، ولكن مع تفاقم التضخم، تحوّلت هذه الأموال إلى أعباء ضخمة. كمثال واضح، فإن شخصا كان يدين بمبلغ 500 ألف ليرة قبل بداية الأزمة، لا يمكنه اليوم سوى تخيل أن هذا المبلغ قد تحوّل إلى مبلغ يقارب 150 مليون ليرة، وهذا الارتفاع المفاجئ يضاعف من توتر الوضع لديه ويفاقم من مشاكل الدائنين والمدينين.

الأزمة الاقتصادية تجاوزت حدود الأمور المالية، حيث انعكست سلبا على البنية الاجتماعية بأكملها. إذ أثّرت سلبا في إدارة الأزمة الاقتصادية على مستويات متعددة، حيث ارتبطت ارتفاعات معدلات الجريمة وتصاعد حالات السرقات بصورة لا يمكن تجاوزها. بل وتوسّعت هذه الظاهرة لتشمل جميع أرجاء المجتمع. وعلى نفس النحو، زادت نسب البطالة بشكل ملحوظ، مما أفقد المواطنين الاستقرار الاقتصادي وغرقوا في غمر الديون المتراكمة.

في هذا السياق الحرج، أوضحت القاضية دانيا زيتونة، رئيسة النيابة العامة المتخصصة في مكافحة الجرائم المعلوماتية، أن انتشار الجرائم وتنوعها أضرت بشدة بالاقتصاد الوطني وخلقت همسات مؤلمة تتناقلها الشركات والمؤسسات. 

هذه الجرائم زعزعت الثقة بين المتعاملين في الساحة التجارية، حيث يسعى المجرمون للاستفادة من التباينات والضعف في النظام. وعليه تكاثرت قضايا الاحتيال وأصبحت تشكل جزءا كبيرا من سجل القضاء، مما يعكس حجم التحدي الذي نواجهه في تأمين الاقتصاد وحماية حقوق المواطنين.

سعر صرف الدولار في دمشق، انخفض بمقدار 50 ليرة خلال الساعات الماضية أي بنسبة تقارب 0.36 بالمئة وفقا لموقع “الليرة اليوم”. واستقر عند سعر شراء يبلغ 13900، وسعر مبيع يبلغ 13950 ليرة للدولار الواحد، بمدى يومي بين 13650 و 13700 ليرة.

مع هذا الواقع الملموس لتحول تحصيل الديون في سوريا والذي يذكر بأزمة الرهن العقاري العالمية، ومع تزايد الضغوط الاقتصادية وتعقيد الأوضاع المالية، تثار تساؤلات حول هذه الطريقة الجديدة لتسجيل الديون بأنها ستمثل مخرجا وحلا مؤقتا لمشكلة مستعصية، أم أنها مؤشر على تفاقم الأزمة المالية والتي تنذر بتداعيات واسعة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات