في الوقت الذي تشهد فيه سوريا استنكارا شعبيا بعد قرارات الحكومة السورية الأخيرة المتعلقة برفع الدعم عن المحروقات وزيادة الرواتب التي أدت إلى رفع الأسعار بنسبة 100 بالمئة، تشهد مدينة السويداء أحداثا ذات أهمية استثنائية. حيث انتفض الصمت من داخل أزقّة المدينة وتصاعدت حرارة التظاهرات في ساحة السير/الكرامة، تلك الساحة التي أصبحت مسرحا لتجمعات جماهيرية كمتنفس للتعبير عن آرائهم. 

ما يثير الاهتمام هو تزايد شجاعة المتظاهرين وتصاعد طموحاتهم في تحقيق التغيير. إذ أصبح النداء لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم “2254” وإسقاط الحكومة السورية ليس مجرد شعار، بل هو تعبيرٌ جريء عن حاجة المجتمع لتحقيق الحرية والديمقراطية وإصلاح ما أفسدته القرارات الحكومة؛ لإعادة تشكيل مسار البلاد وتحقيق العدالة.

في المقابل، تبرز قضية الأقليات الدينية والعرقية كأحد أبرز التحديات التي تواجه المجتمع السوري والمشروع الديمقراطي المنشود. فالأقليات في سوريا تعاني من التمييز والاضطهاد والتهميش بحسب بيان المتظاهرين، والذي تستخدمها النّخبة السياسية في دمشق كورقة ضغط في مواجهة المعارضة أو المجتمع الدولي، ما يثير التساؤلات حول ما إذا كانت هذه اللحظة هي التي ستشهد فيها سوريا تغييرا جذريا خصوصا في مسار تاريخ السويداء ومستقبل الأقليات في سوريا، وما هي التحديات التي قد تواجه تحقيق التغيير المطلوب في السويداء، لا سيما مع الأنباء التي تتحدث عن تهيئة رئيس إدارة المخابرات العامة السورية، حسام لوقا، للذهاب إلى السويداء ومقابلة رؤساء مشايخ “طائفة العقل” هناك.

الاهتراءات تصعّد الاحتجاجات

لليوم الثالث على التوالي، غصت ساحة “السير” وسط مدينة السويداء وعدة قرى بريف المحافظة، بأعداد المحتجين الذي نتج عنه إغلاقا تاما لمؤسسات الدولة، ومقار حزب “البعث”، بعد مطالبة المحتجين بالتغيير ورحيل المنظومة المتحكمة بقرار البلاد؛ نظرا إلى ما آلت إليه الأحوال الاقتصادية مؤخرا.

حتى منتصف اليوم الثلاثاء، 35 نقطة احتجاج سُجّلت في محافظة السويداء مع ملاحظة تزايد أعداد المشاركين في غالبية المناطق، لا سيما في مدينة السويداء، حاملين لافتات تدعوا لتطبيق القرار الدولي الخاص بسوريا “2245” والذي ينصّ على حلّ سياسي، لخروج البلاد من أزمتها.

“نحنا مش جوعانين، ومطالبنا سياسية” هي العبارة التي ترددت عبر الفيديوهات التي تواردت من ساحات التظاهر، والتي حمّلت الوجود الروسي والإيراني في البلاد أسباب الأزمة الاقتصادية، بعد سيطرتهم على مفاصل الاقتصاد في سوريا عبر توقيع اتفاقيات مع الحكومة، حيث أشار لها بيان حكمت سلمان الهجري، الرئيس الروحي لـ “طائفة المسلمين الموحدين”، بـ”غرباء استباحوا مقدراتنا وخيراتنا بطرق مشكوك بأمرها”.

على الرغم من أنّ محافظة السويداء شهدت تظاهرات شعبية مُستمرة منذ سنوات، تهدف إلى المطالبة بالتغيير، إلا أن الأحداث الجارية تمثل نقطة تحول غير مسبوقة في تلك السياق. فقد شهدت المحافظة هذه المرة تصاعدًا لافتا في حدة التحركات، حيث شُن إضراب عام واندلعت مظاهر عديدة من العصيان المدني.

هتافات المتظاهرين تكشف عن مدى تصاعد الغضب واشتعاله، حيث أكدت الرسالة التي حملها المحتجون اليوم أنهم قد بلغوا نقطة الانفعال القصوى. وعبَّروا عن قناعتهم بأن صبرهم قد نفذ تماما، وأنهم لم يعد لديهم خيار سوى التمرد على ما يرونه من ظلم واستبداد.

حسام لوقا إلى السويداء

وسائل الإعلام الرسمية، لم تعر اهتماما لما يهتف به المحتجون في المحافظة، بحسب حديث الدائرة الإعلامية لـ “مشيخة عقل طائفة المسلمين الموحدين الدروز”، بل وصفت ما يحدث أنه تسبب بحالة الشلل، وفرضهم حالة إغلاق كامل للفعاليات التجارية والمحال ومنع الموظفين من التوجه إلى عملهم في مؤسساتهم الحكومية، وهو عار عن الصحة.

حتى اللحظة لم تتحرك الحكومة بشكل جَدّي مع ما يجري في السويداء، لكن بحسب ما حصل عليه “الحل نت” من تسريبات، فإن حسام لوقا رئيس إدارة المخابرات العامة السورية برفقة اللواء سهيل فياض أسعد رئيس اللجنة الأمنية والعسكرية في المنطقة الجنوبية، سيبدأ بزيارة إلى مضافة الرئيس الروحي للطائفة الدرزية، الشيخ حكمت الهجري في السويداء، لمناقشة 12 بندا تطرحها السويداء، من ضمنها المطالبة بفتح منفذ حدودي مع الأردن وبداية حكم لامركزي.

الدائرة الإعلامية لـ “مشيخة عقل طائفة المسلمين الموحدين الدروز”، خلال حديثها لـ”الحل نت”، لم تُخفِ تخوفها من هذه الزيارة، فمن جهة، ترى أن المخابرات السورية تحاول تقويض سرديّة حامية الأقليات التي كانت تستخدمها لتبرير استمرار منظومة الحكم الحالية والحفاظ على ولاء الطوائف المختلفة.

مشيرة في ذات الوقت، إلى أن المظاهرات في السويداء، التي تُعد معقلا للطائفة الدرزية، أظهرت أن هناك جزءا كبيرا من الأقلية الدرزية يرفض الانصياع لقرارات الحكومة الأخيرة ويطالب بالحرية والديمقراطية. كما أظهرت المواجهات بين فصائل محلية ومجموعات مرتبطة بالمخابرات السورية سابقا، أن هناك صراعا داخليا داخل المجتمع الدرزي بين من يساند دمشق متمثلين بالمنتمين لحزب “البعث” ومن يخالفهم، وهذا يشير إلى أن سرديّة حامية الأقليات لم تعد قادرة على توحيد الطائفة حول مصير مشترك.

من جهة أخرى بحسب المشيخة، يمكن القول إن المخابرات السورية تحاول استغلال المظاهرات في السويداء لتبرير التدخل العسكري والأمني في المحافظة وفرض سيطرتها على شؤونها. فقد اتهم نشطاء وفصائل محلية المخابرات السورية بإثارة “الفتنة والفوضى” في المحافظة، وبالتّورط في عمليات خطف وقتل وانتهاكات لحقوق المواطنين. 

كما اتهموها بإشعال نار “التطرف والطائفية” في المجتمع، وبالتحالف مع مجموعات مسلحة تابعة لإيران أو روسيا. وهذا يشير إلى أن المخابرات السورية تستخدم سرديّة حامية الأقليات كغطاء لإضعاف المجتمع المدني والحركة التغييرية في السويداء.

تهديد للأقليات بحجج الإرهاب

مدينة السويداء تُعتبر مركزا للطائفة الدرزية في سوريا، التي تشكل نحو 3 بالمئة من سكان البلاد. وتشهد المدينة والمحافظة بشكل عام توتراتٍ أمنية منذ عام 2011، حيث تعرضت لهجمات من قبل تنظيمات مسلحة مثل “داعش”، وانتهاكات من الأجهزة الأمنية، وصراعات داخلية بين فصائل محلية. كما تشارك بعض المجموعات المسلحة بالمدينة في المقاومة ضد الجيش السوري، بينما تحافظ بعضها على حياد نسبي أو تؤيد التسوية مع الحكومة. فيما يطالب جزء كبير من المجتمع المدني بالحرية والديمقراطية والكرامة، وينظّم مظاهرات سلمية ضد الفساد وقرارات الحكومة.

طبقا للمحامي والسياسي المنحدر من مدينة السويداء، كمال عبد الهادي، فيمكن تفسير تصاعد الحدّة في التحركات في هذه المرة بعدة عوامل، منها الأساسي وهو الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي تضرب البلاد، والتي تفاقمت بسبب قرارات وسياسة الحكومة، والتي أثّرت سلبا على مستوى المعيشة والخدمات في السويداء.

كما أن هناك بحسب حديث عبد الهادي لـ”الحل نت”، عامل الضغط الأمني والعسكري من قبل المخابرات السورية، التي تحاول فرض هيمنتها على المحافظة وإخضاعها لقرارات إيرانية، والتي تواجه بمقاومة من قبل فصائل محلية مسلحة، تدعو إلى الحفاظ على استقلالية وهوية المجتمع الدرزي. 

إضافة إلى ذلك، هناك عامل التغير السياسي والاجتماعي، الذي ينبع من رغبة جزء من المجتمع في التخلص من نظام الحكم القائم، والانخراط في مشروع ديمقراطي جديد، يضمن حقوقهم وحرياتهم كأقلية محلية وهو مطلب تبعا لعبد الهادي، ليس في السويداء وحدها، بل حتى في شمال شرق سوريا، يطالبون بمشروع يحمي هويتهم وأصولهم.

دور حسام لوقا واللواء سهيل فياض أسعد في هذا السياق، هو دور متناقض ومتضارب وفق إشارة عبد الهادي؛ فحسام لوقا بالنسبة لأهالي السويداء هو قائد شعبة المخابرات العامة، وهو أحد أبرز رجالات العسكر السوري، والذي يُنفّذ سياساته في قمع أي أصوات معارضة. 

كما أنه مسؤول عن إجراء دراسة للملف الأمني في محافظة السويداء سابقا، وكانت أبرز اقتراحاته وحلوله هي إعادة السويداء إلى “القبضة الأمنية”. أما عن سهيل فياض أسعد، كانت له عدة زيارات لـ “شيخ عقل طائفة المسلمين الموحدين الدروز”، حكمت الهجري، في محاولة لتهدئة التوترات في المحافظة، وإقناعه بالتعاون مع دمشق. وأهمية زيارته المتوقعة تُظهر محاولة من قبل دمشق للاستفادة من علاقات سهيل فياض بالطائفة الدرزية، قبل اللجوء للحل العسكري كما حدث مع عدة مناطق في سوريا بحجة مكافحة الإرهاب.

الحل السياسي

المطالب المطروحة من قبل المحتجين في السويداء من خلال مشاركة عبد الهادي، تمثّل انفعالات وتطلعات الأقليات المحلية، التي تشعر بالظلم والاستبداد والتهميش، والتي تريد أن تكون جزءا من التغيير والديمقراطية في البلاد. وهذه المطالب تشمل؛ الحرية والكرامة والعدالة والمواطنة والمساواة وحق التعبير والتظاهر والتنظيم وتصحيح المسيرة الاقتصادية.

حسام لوقا السويداء

كما تشمل المطالب الاقتصادية والاجتماعية، تحسين الخدمات العامة وتوفير فرص العمل والتنمية والإصلاحات. وهذه المطالب يُمكن أن تشكل بداية لتغيير أو تحول في الوضع السياسي والاجتماعي، إذا ما حظيت بدعم وتأييد من باقي شرائح المجتمع السوري، وإذا ما تمكنت من تجاوز العقبات والضغوط التي تفرضها القوى المحلية والإقليمية والدولية المتحالفة مع دمشق على مسار التغيير.

تبنّي قرار مجلس الأمن رقم “2254” من قبل المحتجين برأي عبد الهادي لأنه يمثل جلّ مطالبهم، فهو قرار تم اعتماده بالإجماع في 18 كانون الأول/ديسمبر 2015، ويتعلق بوقف إطلاق النار والتوصل إلى تسوية سياسية للوضع في سوريا. ويطالب القرار جميع الأطراف بالتوقف فورا عن شنّ أي هجمات ضد أهداف مدنية، ويحثّ على دعم جهود الأمم المتحدة لإجراء مفاوضات رسمية بين الطرفين. 

أيضا يستثنى القرار مجموعات تُعتبر “إرهابية”، مثل تنظيم “داعش” و”جبهة النصرة” من وقف إطلاق النار، ويسمح بالاستمرار في الأعمال الهجومية والدفاعية ضدها. ويتضمن القرار خطة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة، في غضون 18 شهرا، والتحول السياسي بقيادة سورية.

دعوة المجتمع الدولي والعربي مؤخرا إلى تنفيذ قرار مجلس الأمن في سوريا، أعطت دفعة للحركة الاحتجاجية في السويداء، التي ترى في هذا القرار فرصة للتغيير السياسي والانتقال إلى حكم ديمقراطي يحترم حقوق وطموحات الشعب السوري. كما أن هذه الدعوة قد أثارت آمال المحافظة الجنوبية بإمكانية التوصل إلى حل سلمي للصراع، يضمن وقف إطلاق النار وإطلاق سراح المعتقلين وإنهاء التدخلات الخارجية والطائفية في شؤون سوريا.

لكن في المقابل، قد أثارت هذه الدعوة أيضا مخاوف المؤسسات الرسمية السورية في المدينة والمتنفذين فيها، والذين يخشون من فقدان نفوذهم وامتيازاتهم في حال تغير الوضع السياسي، ويرفضون أي تسوية تشمل مشاركة المعارضة أو تحديد مصير الرئيس السوري بشار الأسد. وهذا قد يؤدي إلى تصاعد التوترات بين الأطراف المختلفة في المدينة، وزيادة خطر حدوث اشتباكات أو عنف، بحسب عبد الهادي.

يبدو أن دمشق الآن أمام خيارين لا ثالث لهما، إمّا خلع عباءة حماية الأقليات ومواجهة طوفان السويداء بالقبضة الأمنية لضمان عدم توسع رقعة الاحتجاجات المناهضة لها خصوصا مع موقفها الذي لا تُحسد عليه في عدم تنفيذها بشكل جدي للمطالب العربية. أو الجلوس مع المحتجين على طاولة واحدة، وتنفيذ مطالبهم المشروعة، لإيصال رسالة مفادها أن ما قاله الأسد في آخر لقاء إعلامي له بأن “المعارضة التي أعترف بها هي المعارضة المصنّعة محليا لا المصنعة خارجيا” هو صحيح، ويبدو أن الخيار الأخير غير مطروح لأنه سيفتح الأبواب على دمشق من شرقها إلى غربها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4 2 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات