كشفت وثائق سرية مسرّبة أن حكومة دمشق منحت إيران بشكل غير مباشر ميناء اللاذقية للاستثمار فيه لمدة 30 عاما، وهو ما فسّره المحللون على أنه بداية تحرك إيراني لإحكام سيطرتها على سوريا أكثر ولفترة زمنية أطول، ولكن هذه المرة من البوابة الاقتصادية بعد أن توسّعت عسكريا وتغلغلت في المجتمع إلى حدٍّ ما عبر نشر عقيدتها في العديد من المناطق في سوريا.

رغبة إيران في الاستحواذ على سوريا والعديد من المناطق بالشرق الأوس ليس بأمر جديد أو مباغت، فمشاريع طهران العدائية بالمنطقة باتت معروفة للجميع، كما المشاريع الصينية والروسية، وتحديدا في سوريا.

ميناء اللاذقية وإيران

طبقا للمعلومات والوثائق التي نُشرت لأول مرة اليوم الجمعة، تبيّن أنه بعد 20 يوم فقط من زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، لسوريا خلال شهر أيار/مايو 2023، تم تمديد عقد شركة “CGM-CMA” الفرنسية لاستثمار ميناء اللاذقية بسوريا لمدة 30 سنة.

هذه الوثائق السرية نشرها الدكتور كرم شعار، أحد زملاء معهد “نيو لاينز” للأبحاث ومقرّه واشنطن، على صفحاته الشخصية على منصات التواصل الاجتماعي. وأضاف “باعتبار أن إيران كانت موعودة للحصول على ميناء طرطوس بموجب الاتفاقية الشاملة للتعاون الاقتصادي السوري الإيراني عام 2015، لكنه ذهب إلى روسيا لمدة 49 عاما لصالح شركة ستروي ترانس غاز، المملوكة لـ الأوليغارشي غينادي تمشنكو، وتم ترضية طهران بميناء اللاذقية الأقل استيعابا وحداثة”.

ووفق وثائق إيرانية مسرّبة مؤخرا، فإن الجانب الإيراني كان يحصل على ما لا يقل عن 15 بالمئة من إيرادات ميناء اللاذقية منذ عام 2019 وحتى أواخر عام 2021. وكان عقد الشركة الفرنسية للاستثمار في ميناء اللاذقية لمدة 10 سنوات لأول مرة وتم التوقيع عليه عام 2009 بالشراكة مع شركة “سوريا القابضة”.

لاحقا تم تمديد العقد عام 2019 لمدة إضافية 5 سنوات فقط وتحت ضغط إيراني، على اعتبار أن الأخيرة تريد السيطرة المباشرة على الميناء الساحلي السوري، أما اليوم فقد تم تمديد العقد لمدة 30 عاما وتحت السيطرة الكاملة التابعة للشركة الفرنسية وبرأس مال لا يُذكر يبلغ 1.5 مليون يورو فقط، بحسب الخبير الاقتصادي السوري.

الشركة الفرنسية “CMA-CGM” مملوكة لعائلة جاك سعادة، وتنشط في مجال نقل الحاويات والشحن في البحر الأبيض المتوسط. وهي مجموعة شحن رائدة عالميا، تستخدم 200 طريق شحن بين 420 ميناء في 150 دولة مختلفة، وتحتل المرتبة الرابعة خلف شركة “ميرسك” وشركة البحر الأبيض المتوسط ​​للشحن (MSC) وكوسكو. ويقع مقرها الرئيسي في مرسيليا.

الاستحواذ على الخيرات السورية

في المقابل، لا يستبعد كرم شعار، أن يكون العقد قد تم توقيعه مقابل مبلغ مالي غير معلن تم دفعه للقصر الجمهوري بدمشق، أسوة بالعديد من الاستثمارات الأخرى التي قام بها تجار ورجال الحرب بسوريا، مشيرا، في رأيه، إلى أن الاتفاقية يمكن اعتبارها بمثابة توافق لإبقاء الشركة الفرنسية في المقدمة وتقاسم الأرباح بينها وبين الإيرانيين وذلك بغية تجنب العقوبات الغربية.

مرفأ اللاذقية، وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء، تم تفريغ 2.3 مليون طن من البضائع فيه خلال السنوات الخمس الأخيرة التي تحتوي على بيانات للأعوام 2016-2021. في حين لا يزال مرفأ طرطوس أكثر استيعابا ونشاطا بمعدل 3.4 مليون طن سنويا.

وبعد خروج شركات النفط الغربية ولاحقا شركة الإسمنت الفرنسية “لافارج” من سوريا، أصبحت الشركة الفرنسية حاليا أكبر شركة غربية في سوريا. الوضع في سوريا، وتحت حكم الرئيس السوري الحالي بشار الأسد، يشبه حال إيران، حين باع ناصر الدين شاه قاجار، بلاده للروس والبريطانيين ليبقى في العرش. وهو قُتل بعد 5 عقود من الحكم، وفق ما يضيفه كرم شعار.

وفي وقت سابق، كشفت وثائق مسّربة من قِبل جماعة “الانتفاضة حتى الإحاطة” المقربة من منظمة “مجاهدي خلق” الإيرانية المعارضة، لتظهر بيانات تؤكد سيطرة إيران فعليا على الأرض السورية، وذلك في مجال الاستثمار الزراعي والسيطرة على ميناء اللاذقية وتسلّمها مشروعا آخر لبناء ميناء الحميدية من جانب دمشق كبديل وتعويض عن هيمنة الروس على ميناء طرطوس، وأحدث التطورات المتعلقة بمشروع مشغل الهاتف الثالث وقضايا متفرقة أخرى، وفق تقارير صحفية.

حول أهمية ميناء اللاذقية، يشير الملف المسرّب إلى أنه بالإضافة لتحقيق المصالح المالية لإيران، يوفر ميناء اللاذقية موضع قدم وهيمنة وإشراف استراتيجي على سواحل المتوسط.

هدف إيران من ميناء اللاذقية؟

ثمة آراء مغايرة تقول، إن لإيران أهداف أخرى في الهيمنة على ميناء اللاذقية، وهو تمرير المشروع الإيراني المعروف باسم “الهلال الشيعي”، الذي يمتد من طهران مرورا بالعراق وسوريا وصولا إلى لبنان وشواطئ المتوسط.

قصف إسرائيلي سابق لميناء اللاذقية، كانت تستهدف شحنات أسلحة إيرانية مخزّنة في ساحة الحاويات- “سبوتنيك”

ولذلك فإن هذا الأمر يثير مخاوف من مساعي وخطط إيرانية معادية للسيطرة على مناطق واسعة في الشرق الأوسط عبر حلفاء طهران والجماعات والميليشيات الموالية لها، خاصة أن هذه المخاوف تتزايد مع تغلغل طهران بميليشياتها ووكلائها في العراق وسوريا ولبنان، وهي اليوم تسعى إلى الدخول إلى الأراضي الفلسطينية عبر دعم حركة “حماس”.

هدف طهران بحسب مراقبين يكمن في سعيها من خلال تواجدها في سوريا والعراق إلى تحقيق مبتغاها بالتوسع في المنطقة من خلال فتح ممر بري بامتداد جغرافي متواصل يربط طهران بسواحل شرق البحر المتوسط، خاصة أن ميناء اللاذقية يمثل استراتيجية جغرافية مهمة، تطمح طهران من خلاله للوصول إلى المياه الدافئة، بديلا عن موانئها في الخليج العربي، لنقل الأسلحة والمعدات والبضائع والمخدرات وما إلى ذلك.

تدعيما لهذه الفرضية، فقد نشرت صحيفة “ذا تايمز” البريطانية، تقريرا في آذار/مارس 2019، تحت عنوان “طهران تنظر إلى ميناء اللاذقية كمدخل للبحر المتوسط” تحدثت فيه عن أطماع إيران في السيطرة على أهم مرفأ تجاري في سوريا، خاصة وأن تقارير وتحقيقات صحفية عدة، أكدت أن  طهران عبر الشركات التابعة لـ”الحرس الثوري الإيراني” كانت تنقل البضائع عبر الميناء السوري، وقد تكون ضمن هذه الحمولات أسلحة.

إلى ذلك، كشف تحقيق استقصائي أجرته “OCCRP وIRPI Media” نُشر عام 2021، أنه في مساء الثاني من كانون الأول/ ديسمبر 2018، أبحرت السفينة “نوكا” من ميناء اللاذقية السوري، متجهة إلى شرق ليبيا، وأن حمولتها الحقيقية لم تظهر في أي دفاتر رسمية، بل كانت وسط البهارات والقهوة ونشارة الخشب وفي حاويات شحن مزدوجة، كانت هناك حمولة تزيد قيمتها عن 100 مليون دولار من الحشيش و”الكبتاغون”، وهو منشط صناعي منتشر في أجزاء من الشرق الأوسط، والحكومة السورية متهمة بالتجارة بالتعاون مع الميليشيات الإيرانية.

في أواخر عام 2018 داهمت السلطات اليونانية سفينة شحن تحمل ما قيمته أكثر من 100 مليون دولار من الحشيش ومخدّر “الكبتاغون”، المشابه لعقار الأمفيتامين المعروف باسم “سبيد”، في إشارة إلى تنامي تجارة المخدرات في البحر الأبيض المتوسط بعد الحرب في سوريا. ويكشف تحقيق حول السفينة “نوكا” عن شبكة إجرامية مرتبطة بالشحنة، على صلات بعائلة الأسد وعصابة في ليبيا وشركات وهمية مسجَّلة في لندن، وفق تقارير صحفية.

وتشير العديد من التحقيقات إلى أن مرفأ اللاذقية تحوّل خلال السنوات الماضية وحتى اليوم إلى أكبر مصنع لمادة “الكبتاغون” في العالم وتحديدا الشرق الأوسط. وبالتالي غير مستبعد أن تستخدمه طهران اليوم كممر لتمرير الأسلحة لميليشياتها، وتصدير المخدرات للخارج.

لكن عموما وفي حال حدوث ذلك فعلا وهو الأمر الأكثر ترجيحا، فإن ميناء اللاذقية سيواجه حتما حزمة من العقوبات الغربية، إضافة إلى تزايد الضربات الإسرائيلية كما حدث عدة مرات في السابق، ونظرا لأن هذا الميناء يُعتبر مصدر دخل رئيسي لدمشق فإن الأخيرة ستقع في دوامة اقتصادية مظلمة. الأمر الذي سيضع الحكومة السورية أمام العديد من التحديات الاقتصادية، وبالتالي ستدخل سوريا في مراحل أخرى، قد تتسع رقعة الاحتجاجات الشعبية فيها بشكل كبير تشمل قبل كل شيء المناطق الساحلية، الحاضنة الشعبية للأسد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة