طيران1

مع انطلاق حملة التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام(داعش) ثار نقاش حول سبل القضاء على هذا الاخير ومدى كفاية استخدام القوة العسكرية لتحقيق الهدف المنشود. وقد تعددت التصورات والأفكار والاقتراحات لكنها جميعها انصبت على الفضاء الاسلامي وتركزت حول ما يجب فعله في دول العالم الاسلامي وبين المسلمين دون الالتفات الى الضفة الأخرى: الغرب، لاستكشاف دوره في ما حصل في الاسلام والمسلمين فقاد الى ولادة هذا النبت الشيطاني.

ما هو دور الغرب في ولادة التطرف الاسلامي وما عليه فعله للمساهمة في القضاء عليه؟.

لم يكن المسلمون دعاة عنف، حتى بعد نشوء حركات سياسية إسلامية (الاخوان المسلمون وحزب التحرير الاسلامي)، فقد كان المزاج العام سلميا خاصة بعد انحسار الاستعمار المباشر عن معظم دول العالم الإسلامي، وكان تطلّع الشعوب الى التعاون مع الغرب طاغيا في ضوء احتياجاتها الى الخبرات في معظم مجالات الصناعة والزراعة والإدارة والإنشاءات من طرق وجسور وسدود وأنظمة ري وإنارة … الخ، كون مجتمعاتها ودولها خرجت للتو من مراحل ركود وانحطاط مديدة.

غير ان هذا لم يستمر بفعل سياسات الاستعمار الجديد ونهبه لثروات هذه الشعوب، وتوجهاته للتحكم بقرارات وسياسات دول العالم الثالث بمن فيها دول العالم الاسلامي خاصة تلك التي تعوم على بحار النفط والمواد الاولية اللازمة للصناعات الغربية فعقود التنقيب عن النفط وتسويقه كانت مجحفة الى حد يمكن وصف العملية بالنهب الصريح. ولما تحرك بعض قادة هذه الدول لاستعادة الحقوق كانت الردود الغربية تنظيم انقلابات عسكرية ضدها، الانقلاب على مصدق في ايران عام 1953، ناهيك عن التحكم بمستوى تسلح هذه الدول كما ونوعا، وقد كان ذلك شديد الوضوح في التعامل مع الدول العربية المحيطة بفلسطين حماية لإسرائيل، لمنعها من الاحساس بالقوة او بالقدرة على تحقيق استقلالية تامة.

تبنى الغرب في تعاطيه مع دول العالم الاسلامي سياسة انتهازية قائمة على احتكار موادها الخام وتحويلها الى اسواق لفائض انتاجه الصناعي والزراعي وامتصاص السيولة التي تتأتى من بيع المواد الخام والإبقاء على الميزان التجاري في صالحه، وهذا تطلّب السيطرة على الحراك السياسي عبر الاتفاق مع الانظمة السلطانية والاستبدادية بتعاقد يقايض حماية الانظمة وغض النظر عن اضطهادها لشعوبها وانتشار الفساد في دولها باحتكار اقتصادي شامل، وخلق بؤر توتر وصراع لإشغال الشعوب واستنزاف طاقاتها كما في قضيتي الشعبين الفلسطيني والكردي. فكان “الاستقرار” شعار عقود طويلة وقد اعترفت السيدة كونزاليسا رايس، وزيرة الخارجية الامريكية ايام بوش الابن، بـ “تأييد واشنطن للأنظمة الديكتاتورية طوال ستين عاما”، علما ان اعترافها جاء على طريقة “كلمة حق اريد بها باطل” حيث جاء لتبرير تبني سياسة الفوضى البناءة كمدخل لتنفيذ مشروع الشرق الاوسط الكبير.

في السياق اقامت الدول الاستعمارية دولة اسرائيل على ارض فلسطين، على الضد من قرار عصبة الامم القاضي بإلغاء حق الفتح عام 1918، ضمن تصور استراتيجي لاستنزاف العالم العربي/الاسلامي والإبقاء على حالة التوتر والحرب قائمة في ضوء تقديرها لأهمية المنطقة والمخاطر الكبيرة على المصالح الاستعمارية في حال تحررها ونهضتها، ولم تكتف بإقامتها بل وتعهدتها بالراعية والحماية ودعمتها بحيث تبقى متفوقة عسكريا على دول الجوار وسيفا مسلطا على حراكها السياسي والاقتصادي، وحين اصدرت الامم المتحدة قرار تقسيم فلسطين لم تعمل هذه الدول جديا على اقامة دولة فلسطينية، ولم تعترض على احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وأراض من سوريا ومصر عام 1967 وتجبر اسرائيل على الانسحاب منها رغم معاهدات الامم المتحدة التي تمنع احتلال ارض الغير بالقوة، وها هي ذا تدعم توجهات اسرائيل وعدوانها المتكرر على الشعب الفلسطيني خاصة في غزة، حيث لم تكتف واشنطن بتجاهل جرائم الحرب التي ارتكبتها خلال عدوانها الاخير بل وأدانت رئيس السلطة الفلسطينية لأنه تحدث عن هذه الجرائم في خطابه امام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتتغاضى عن سرطان الاستيطان الذي سيجعل حل الدولتين الذي تزعم تبنيه حبرا على ورق.

لقد غدت مظلمة فلسطين مظلمة القرن وجرح العرب والمسلمين النازف ومازالت تُشعر كل عربي ومسلم بالذل والمهانة والاستفزاز الدائم.

ترتب على ذلك كله حالة شك وعدم ثقة بالغرب وقيمه وسياساته واحتقان اجتماعي عميق لكنه بقي مضمرا في ضوء القمع الذي سلط على المواطنين وتواطئ الدول الغربية الذي غض الطرف عنه. ولما افرزت الصراعات الداخلية انظمة سياسية تنادي بالتحرر والاستقلال السياسي والاقتصادي تحت راية القومية العربية، وعزز موقفها الدعم الذي قدمه الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، لجأت الدول الغربية الى استثمار الدين في احتواء انطلاقتها فأوحت بتشكيل “الحلف الاسلامي” في ستينيات القرن الماضي للتصدي لعبدالناصر والمد القومي العربي، فكانت اول ظاهرة استخدام للدين في السياسة في العصر الحديث، وقد تكرر ذلك الاستخدام ابان الاحتلال السوفياتي لأفغانستان حيث تم توظيف العامل الديني من قبل الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين(السعودية والباكستان) لحشد المقاتلين والممولين وراء حركات الجهاد الأفغاني وما ترتب عليه من نتائج: ولادة تنظيم القاعدة وما يمثله من ثقافة وسياسة تكفير الحكام والمذاهب الإسلامية غير السنية، وخاصة الشيعة، وانطلاق نشاطات تنظيمية وعسكرية في عدد من الدول العربية والإسلامية على خلفية تحريرها من الحكام الكفرة وتطبيق الشريعة قبل تبنيها لاستراتيجية محاربة العدو البعيد (الكفار واليهود) أولاً عبر تأسيس “الجبهة الإسلامية العالمية لمواجهة الصليبيين واليهود والأمريكان” بدمج تنظيم الجهاد الإسلامي المصري في الخارج بتنظيم القاعدة، وتنفيذ عمليات إرهابية كثيرة وكبيرة في عدد من دول العالم ضد المصالح الغربية بعامة والأمريكية بخاصة بما فيها “غزوة” نيويورك في 11 أيلول عام 2001.

عندما انقلب السحر على الساحر بدأت الحملة الغربية ليس على الحركات الاسلامية فقط بل وعلى الاسلام كدين، وبدأت عمليات استفزاز المسلمين بالتصريحات والمواقف والممارسات حيث تعددت التصريحات التي تتهم الدين الاسلامي بالإرهاب، وتعتبر الارهاب جوهريا في العقيدة الإسلامية، وعمليات حرق القرآن او القائه في المرحاض، وإنتاج افلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية ضد الدين الاسلامي ورموزه، ورسوم كاريكاتورية تسخر من نبيه، ناهيك عن ابراز حالة النفور من المسلمين وسلوكهم الاجتماعي بدءا من اسمائهم(اضطر مسلمون كثر في دول الغرب، وخاصة فرنسا، الى استبدال اسمائهم الاسلامية بأسماء غربية) الى طريقتهم في الأكل الى رفع شكاوى ضد المسلمين في الدول الاوروبية لأنهم قاموا بذبح اضحية العيد على الطريقة الاسلامية( في الغرب تصعق الذبيحة بالكهرباء قبل ذبحها وتعتبر طريقة انسانية) والضغط للتحكم بسلوكهم الديني، فقد دعا توني بلير، عندما كان في رئاسة الوزارة البريطانية، الى اكتفاء المسلمين بممارسة الصلاة والصوم وسماه “الاسلام العادي”، ناهيك عن منع الحجاب في فرنسا والدعوة الى تقييد الهجرة والى طرد المهاجرين.

تقوم نظرة الغرب التقليدية الى الاسلام على اعتباره هرطقة مسيحية وقد صعّدت في تسفيهه عبر اعتبار النبي محمد ارهابيا والقرآن الكريم ليس كتابا سماويا منزلا.

ان السعي الى تطويق التطرف والقضاء على تشكيلاته السياسية والعسكرية وإعادة روح الاعتدال والتسامح الى ربوع الاسلام يستدعي تغييرا واضحا في موقف الغرب من الدين الاسلامي اولا بالاعتراف به كدين سماوي، وليس هرطقة مسيحية، والاعتراف بخصوصيته واحترام توجهاته وخياراته الاجتماعية وأخذها بعين الاعتبار في التعامل والعلاقات البينية، والاعتراف ثانيا بحقوق شعوب الدول الاسلامية في حياة حرة كريمة وتمكينها من اختيار قادتها والتحكم بموارد بلادها واستخدامها لردم الهوة الاقتصادية والتغلب على الفقر والحرمان والعمل على اقامة دولة فلسطينية. فالاعتراف بالهوية والخصوصية الاسلامية نقطة جوهرية في خرق جدار العداوة والكراهية وجسر الفجوة مع الغرب وامتصاص الشعور بالاحتقار والغبن والإجحاف وما يترتب على ذلك من ردود فعل وممارسات عنيفة وغير عنيفة.

علي العبدالله ـ المدن

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.