عمّار ديّوب

رفضت الأوساط الدينية الأمريكية حصول برتراند راسل على كرسي الفلسفة في جامعة #نيويورك في 1941، وحجتهم في ذلك أنه ملحد وغير أخلاقي ويشجع على الانحلال في العلاقات الجنسية، وغيرها. مجلس الجامعة كان قد أرسل للفيلسوف للتدريس، ولكن تلك الأوساط وبعد محاكمة له وتشهير به وتهديد بقطع الأموال اللازمة لفتح الجامعة عادت وتبرأت من الأمر، ولم يحصل راسل على ذلك الكرسي.

 

يُعرف عن راسل رفضه للنظام الرأسمالي وجشعِه، وللنظامِ الاشتراكي وشموليتِه وقهرِه للإنسان، وأنه محارب صلب من أجل السلام العالمي والحرية، وفي هذا الإطار أنشأ محكمة ضد التدخل الأمريكي في #الفيتنام وشهّر بتلك الحرب القذرة وما فعلته في ذلك البلد الفقير وقبلها الامبريالية الفرنسية.

في كتابه “لماذا لست مسيحياً”* وهو دراسات مختارة وتعالج المواضيع ذاتها التي حوكم بسببها ويتضمن ملحقاً تفصيلياً عن “كيف مُنع رسل من التدريس في كلية مدينة نيويورك”، يتقدم راسل فيه بأفكار صدامية بخصوص الدين والجنس والله والعلاقات خارج قيد الزواج والتعليم وقضايا أخرى، ويُعلي من شأن كل من سقراط وبوذا قبالة تعاليم السيد المسيح، والتي تتضمن تأسيساً للشمولية، فباسم المسيحية لطالما قتلت الشعوب، وبالتالي، للمسيح دورٌ في بثّ الخوف والفردية وتعظيم شأن الإثم وتكريس الكراهية وفق ما يقول راسل.

ما يتقدم به راسل هنا يعاكس مفهوم التسامح – والمحبة- الذي لطالما اقترن بالمسيح، فهو لا يكتب عن مرحلة ما بعد المسيح فقط بل ما ورد في الأناجيل ذاتها، فيتساءل مثلاً: لماذا لعن شجرة التين ولم يكن موسم ثمارها، ولماذا سمح لإبليس بالاستقرار بأجساد الخنازير وسقوطها غير المبرر من جرف عال لتموت فوراً، ثم أن كثيراً من عبارات الأناجيل تبدو وكأنّ عودة المسيح قريبة، وهناك نَهرُه لوالدته وكأنّها لم تلده وكأنّه ليس نبياً! وهناك دعوته لتلاميذه لمقاطعة الأهالي والالتحاق به، فأية رسالة سماوية في الدعوة للديانة الجديدة قائمة على مقاطعة المجتمع؟!.

ويرى راسل أن الكنيسة عارضت إلغاء العبودية وكل حركة تطالب بالعدالة الاجتماعية، وأن البابا أدان الاشتراكية رسمياً، وكذلك كانت ضد تحديد النسل والطلاق. وما حصل لاحقاً من تطور في مواقفها إزاء هذه القضايا لا يعود لها الفضل فيه إلى إنسانية الديانة المسيحية ومسألة التسامح  والمحبة المدّعاة بل إلى تطوّر الحداثة الأوربية والفكر الحر، فله الفضل في التخلص من إذلال الإنسان وتعزيز حقوقه، والمواطنة والحق في ممارسة الجنس في إطار النظام العائلي وخارجه وفقاً لحق الفرد بالتمتع بجسده.

لا يكتفي راسل بالعودة إلى نصوص الأناجيل، بل يقرأ الدين انطلاقاً من التطور المجتمعي. فلا معنى برأيه لقراءته كنص منفصل عن التاريخ، بل هو يُقرأ وفقاً لممارساته في التاريخ. فتنزيه النص الديني وتبرئَته مما حدث باسمه ليس من العقلانية بشيء، وكون راسل شهير بمناقشة الفلسفة من الزاوية العاطفية فقد كان رأيه بتعاليم المسيح أنّها أسّست لكل الجرائم التي نُسبت إلى الدين، وبالتالي يتحمل الرسول مسؤوليةً مباشرة عن كافة الجرائم التي خيضت باسم المسيحية. ربما في هذا الرأي ما هو صادمٌ للسائد بخصوص المسيح وربما يكون فيه قليل من التعسف، ولكن ممارسات الكنسية والكوارث التي أحدثتها كما تحدثها بقية دور العبادة، وتشريعها للقتل وللكراهية وضد الآخر، يمكن القول بمسؤوليتها عن كل ذلك.

في موضوع ممارسة الجنس، والذي أصبح من حقوق الإنسان، فقد أوضح راسل أنّ المسيحية تثير شعوراً مستمراً بالخوف والإثم. ويضيف أن للبشر الحق بممارسة الجنس، وليس فقط ضمن نظام العائلة فهو أمر شخصي ويساعد على التكيف الطبيعي مع المجتمع ويساعد على الإبداع، وأن الاستمرار باعتباره من القضايا المحرمة وضمن الشروط العائلية كان كارثة تلحق بالمسيحيين، ولا سيما النساء.

راسل فيلسوف علمي بامتياز، فهو يَعرض للنظريات العلمية بخصوص الطبيعية والإنسان، ويرفض مسلمات الكنيسة الخاص بهذين المجالين. وفي نقاشه لحجج وجود الله، يقابلها بحجج العلم. طبعاً يرفض التسليم والسكوت إزاء مفهوم الله، وكان ناقداً صلباً لدور الكنيسة تاريخياً ولأية تجليات جديدة في كامل القارة الأوربية وأمريكا والعالم، ولا سيما بعد تحولها إلى دولٍ حديثة؛ أي أن الرجل يُعدّ وريث العقلانية الأوربية بامتياز، بخصوص علمانية الدولة وتحييد الأديان عنها بشكل كامل.

قراءة الكتاب، تصدم القارئ العربي، والذي يرزح مقموعاً من قبل الدولة المُمالئة للدين، والمُسخرة له لديمومتها وتأبيد نفسها. والمتابع لقضايا الجندرة والمطالبة بالمساواة الكاملة، سيتذكر فوراً الاعتراضات التي أبّدتها أغلبية الدول العربية بخصوص الموقف من الحرية الجنسية أو تغيير الهوية الدينية للفرد، ومقدار التدخل الدولتي والديني بحريات الأفراد، ولا سيما حقوق المرأة.

في سوريا وفي ظل تفكك الدولة وانبعاث دولة “الخلافة” والإمارات الإسلامية والفصائل المسلحة بالسلاح والدين، يعيش الشعب بغيابِ الحقوق بشكل كامل. الحقيقة الأمر ذاته في أغلبية الدول العربية، ليتراءى لنا، أن ما جادل ضده راسل ومحاكمته وما نعيشه، لازالت تتحكم بشعوب كثيرة، وأكثر من يعاني من انعدام الحريات هو الشعب السوري، وربما السعودي كذلك.

كان الأمل بالثورات أن تدفع بمنظومة حقوق الإنسان لتكون مرجعية في الدساتير العربية؛ ولكن تجري الرياح بما لا يشتهي البشر، ولتعود القضية القديمة ذاتها وتتغلب الدولة العميقة مجدّداً. كذلك دخل الدين إلى السلطة المليشياوية بقوة وبعنجهيّة غبية، وساد القتل في سوريا لأبسط الأسباب، ولأمور لا علاقة لها سوى بالشخص ذاته. إذاّ وبعيداً عن الطوباوية وبغض النظر عن المسبب، ونقصد دور النظام في إعادة إنتاج الواقع بشكل مأساوي، فإن كافة أهداف الثورة في الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية قد تراجعت، والمثال الأوربي أو الأمريكي للمواطنة وحقوق الإنسان ما زال بعيداً عن حياة السوريين. هو بعيدٌ في هذه المرحلة، ولكن يظل هدفاً إنسانياً لكافة السوريين كما بقية شعوب الدول المخلفة.

هذا الكتاب ربما سيعتبر  دعوة للانفلات لدى المتعصبين دينياً، وربما سيعتبرونه ضد الدين، ولكنه دعوة من أجل الإنسان والدين وإنصافاً للعقل. راسل ناصرَ العاطفية ولكنه كذلك ناصرَ العقل؛ هذا الكتاب أقلها يقول ذلك.

*الكتاب ترجمة عبد الكريم ناصيف، وصادر عن دار التكوين في دمشق، ومنشور في عام 2015.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.