د. محمد حبش

هل يجب تمييز الدين عن السياسة؟

 

تعبير تمييز الدين عن السياسة وليس فصل الدين عن السياسة ليس شطارة لغوية أو فذلكة هروبانية من الجدل الجديد القديم، بل هو أسلوب أصدقائنا الإسلاميين الرائعين في #المغرب في حزب العدالة والتنمية، وهم الحزب الإسلامي الوحيد في البلاد العربية الذي استطاع قادته أن يجنوا لشعبهم ثمرات #الربيع_العربي دون أن يغرقوهم في كوارثه.

فهل كان الجدل في هذه المسائل جدلاً بلا معنى، وهل كنا نمارس ترف القول حين كنا نخوض الجدل الصارخ بين الشعارين المتلاعنين: شعار حاكمية الشريعة وشعار فصل الدين عن السياسة؟

مع التدخل الروسي في الأرض السورية وقيام الروس بالضرب في المليان في المدن السورية وسقوط قذائفهم الأكثر توحشاً وتدميراً على رؤوس السوريين، عاد المشهد ليرسم التناقض المريع فوق رأس السوري التائه مرة أخرى.

المرجعيات الدينية في تناقض مذهل، يعصف بما تبقى في خيال السوري التائه من وهم دور العمائم القيادي في الأزمات، ويفرض على المسلم مراجعة عميقة للموروث التقليدي في فتوى المشايخ ومناطها وضوابطها.

المجلس الإسلامي الأعلى الذي يضم مائة وعشرين فقيهاً من رجال الدين، منهم الشيخ كريم راجح شيخ قراء الشام وأكبر فقهائها يعلنون بصوت واحد وجوب الجهاد ضد الروس على كل مسلم وجوباً عينياً، ووجوب قتال الكفرة الروس وضرب مصالحهم حيث وجدتموهم.

ولكن في الموقف المقابل شاهد السوريون عدداً مماثلاً من العمائم يرأسهم المفتي #حسون والمفتي البزم والبوطي الابن والإدارات الكاملة للمؤسسات الدينية التقليدية في #سوريا فرفور وكفتارو والفرقان وهم يذهبون في حماس مثير أيضاً إلى السفارة الروسية للإشادة بالدور الروسي والطلب منه الضرب بيد من حديد على الإرهاب المارق، ويبدو أن خطيب الأموي ليس هو الاستثناء في جنون الإشادة بالدور الروسي واعتباره فزعة شهامة للشعب السوري المقاوم والممانع.

قد لا يعني هذا المشهد كثيراً من السوريين الذين فقدوا الأمل بكل ما في الوطن من عمائم ولحى وشوارب وشنبات، ولكنه يعني الكثير لأولئك الذين لا زالوا يبنون مواقفهم على أساس فتوى )السادة العلماء( الذين هم أعرف منا بمراد الله وأمره ونهيه.

لا أكتم موقفي بالطبع ضد التدخل الروسي، وقد كتبت بوضوح ردي على دعوة #لافروف وأشكر الله أنني لم أكن أبداً في الجوقة التي باعت السوريين الأوهام الكاذبة عبر الدور الروسي الإنقاذي.

ولكن المشهد اليوم هو صورة من أوضح صور التناقض، ففقهاء الشريعة في الشام منقسمون فيفتي فيفتي، حدو القذة والقذة، والوزن الاعتباري متطابق تماماً في أذهان السوريين بين جماعة النظام وجماعة المعارضة، ومشايخ الشام بالضبط هم المشايخ الذين تخرج من مدارسهم كل الأئمة والخطباء السوريين منذ خمسين عاماً، وهم المشايخ الذين تعود السوريون على سؤالهم في دينهم ودنياهم ابتغاء السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة وضمان عمل مقبول وتجنب الوقوع في الزلل والخطيئة.

ولا شك أن المشهد طافح بوجوه كاذبة خادعة داجلة عاملة ناصبة، ولكننا لا نستطيع أبداً أن ننكر أن كثيراً منهم قانعون بما يفعلون، ولقد استشهد الشيخ البوطي رحمه الله وهو يدافع عن قناعاته ولم يكن في رأيي طالب دنيا، ونكفر بعقولنا إذا افترضنا أن الضفة الأخرى بدون ضمير.

والفريقان اليوم متلاعنان للغاية، والخلاف بينهما ليس خلافاً في مسائل الوضوء والطهارة والصيام والصلاة، إنه في جوهر كل شيء، وما يعتبره نصف المشايخ كفراً وردة وإجراماً وخيانة، يعتبره النصف الثاني حكمة وجهاداً واجباً وجوب عين، ولا يملك العاقل أن يقول أكثر من صرخة البائس: فتنة تجعل الحليم حيراناً.

ولكن ما هو أشد دهشاً أن لدى كل فريق نشرة من الأدلة القرآنية والنبوية لا تنتهي لتصويب ما يفعله، وفي جعبة كل فريق منهما من الآيات والأحاديث وكلام السلف ما يرهق القلم ويضني العين، وتتحول منابر الجمعة إلى منصات أصولية وفقهية لتخريج النصوص على مقتضى الحال، ويقدم الأولون حججهم من آيات رفض الظلم والصراخ في وجه الظالم، ويقدم الآخرون أدلتهم من وجوب طاعة أولي الأمر منكم ولو أكلوا أموالكم وضربوا أبشاركم.

إنه ليس شيئاً خاصاً بالمسالة السورية، فهذا اللون من الانقسام الرهيب هو حال مؤسسة رجال الدين منذ أن بدأ الربيع العربي، ففي #مصر يستدل الأخوان بكتاب الله وسنة رسوله لمرسي، ويستدل الأزهر وحزب النور بكتاب الله وسنة رسوله للسيسي، وفي #السعودية كانت الأدلة متقابلة في حرب #العراق بين ألف شيخ وراء ابن باز وألف شيخ وراء الشعيبي وسفر الحوالي، وفي العراق وقفت آلاف العمائم في الأنبار تواجه آلاف العمائم في #بغداد، وحجج الكل كتاب الله وسنة رسوله، فهل بعد ذلك دليل على صحة كلام الإمام علي إن النص حمال أوجه؟

الجدل لا ينتهي وليس في وسع مقالة كهذه أن تحاكم الأدلة، ولكنننا نطرح هنا بكل شفافية ووضوح السؤال الذي يفرض نفسه: إلى أي مدى يتعين على المسلم أن يكون خلف فقيه في شانه السياسي؟  أليس أكرم لرجال الدين ان يصونوه عن جدل الدنيا والتباس المواقف:

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم…….. ولو عظموه في النفوس لعظما

ولكن أهانوه فهان وسودوا ……………  محياه بالأطماع حتى تجهما

إنني بالطبع لست ضد مشاركة رجل الدين في الحياة، بوصفه مواطناً صاحب رؤية، وليس بوصفه فقيهاً عارفاً بالله، أو مرجعاً حجة يمتلك حكم الله في المسائل السياسية، فهذا ما أعتقده إساءة بالغة للدين وللدنيا معاً.

حتى في عصر النبوة فقد كان الرسول حريصاً أن لا يكون قرار السياسة مزبرجاً بالنصوص المقدسة، وحين أرسل بريدة بن الحصيب في سرية قال له: وإن أرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تفعل… ولكن أنزلهم على حكم نفسك، إنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا….!!

لقد كان هذا هو موقف النبوة في ابتعاث سرية محددة لموقف محدد وغاية معلومة بإشراف النبي نفسه بشكل مباشر، ومع ذلك لم يشأ الرسول أن يجلل مبعوثه حلل القداسة وإنما أمره أن يتصرف كإنسان وأن يبدي رأيه بصراحة كمحارب وسياسي وليس كقائد للملائكة محفوف بالنص الإلهي في الحكم بين العباد.

فكيف يسوغ إذن نقل تلك المواجيد السماوية التي تلقاها الرسول من ربه في غار حراء في مراقي الأذواق والأشواق على أرض الحجاز قبل أربعة عشر قرناً لتكون هي الموقف السياسي المناسب للرد على قرار بوتن السياسي والعسكري وتأييد تصريحات لافروف اليومية أو لردها، وتحليل الموقف المناسب من تدخل أطماع الدول الكبرى في الوطن السوري المنكوب.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.