محمد حبش

لن يكون ما قبل #فيينا كما هو بعده، فقد انتصر المكر على العدالة، وأصبح من المؤكد أن #سوريا اليوم تحت الوصاية الدولية، وهي وصاية من النوع الرديء، فهي ليست تحت قرار أممي موحد يعهد بالوصاية إلى دولة كبرى لها مصالح حقيقية في البلد القاصر، بل هي وصاية اثنتي عشرة دولة تختلف اختلافاً حاداً في تقويم الواقع وتفسير الحلول، وما إن تنتهي لقاءاتهم في القاعات المغلقة حتى يبدؤون كزعران الحارة في شقاقهم ومشاكستهم، ويقدم كل وزير تفسيره لما أصدروه من بيان في واقع يتمزق من التناقض والهبل، ويستدعي دون أدنى شك قرارات متناقضة من كل دولة فيما ينتظر منها من التزامات.

 

وهي ليست وصاية من النوع الذي يرسل الجيوش المحترفة المنظمة إلى مواطن النزاع وفق عقيدة عصبة الأمم بقبعات زرق تكون مهمتها حماية السلام والفصل بين المتحاربين وضبط الحدود، بل هي طائرات من الموت تحمل ذخائرها فوق التراب السوري وتدير التوحش بين السوريين، يتحاربون بنا وعلى أرضنا ومآسينا، ويمارسون مكر الفضاء والدبلوماسية فقط وهم غير مستعدين لتغبير قدم محاربيهم في عباب العجاج السوري.

لا مبالغة أبداً إن قلت إننا بالفعل كالأيتام على موائد اللئام، على أننا مع ذلك نتحمل وزر خيبتنا أثر مما يتحملون، ولولا أننا محكومون بالأمل لكان من العبث والضياع أن تنتظر حلاً من هذه المآتم الكئيبة.

ولكن بعيداً من هذا المشهد التراجيدي للكارثة السورية والأفق الأسود الذي تنحرف إليه فإن الواجب اليوم أن نلتفت إلى مسؤوليتنا العاثرة أمام سخرية الأمم، فمن المؤكد أن السوريين سيذهبون الآن للمشاركة في لعبة الحل وفق اختيار العصبة الدولية المسؤولة عن الوصاية على السوريين، ومن المؤكد أن المجتمع الدولي سيدعم تشكيل حكومة بائسة تحظى بدعم الطائرات الغاضبة روسية وأمريكية وبريطانية وفرنسية، ولكنها فيما أعتقد لن تحظى بأي احترام في الشارع السوري المثكل بالجراح والكدمات والمآسي واللعنات.

والمحاربون في حال أشد بؤساً وتمزقاً وشيزوفرونية، ويكرسون حلول اللامعقول واللامنطق، وهم غير مستعدين للحوار لا مع النظام ولا مع دول الوصاية ولا حتى مع المعارضة التي تدعمهم في كل المحافل الدولية وتدافع عنهم، وربما تزودهم أيضاً ببعض المال والسلاح، ومع ذلك فهم يرفضون حتى السماح لهذه الحكومة بالدخول إلى الأراضي السورية (المحررة) وفي الأيام الأخيرة شاهد السوريون رئيس الحكومة المؤقتة ووزراؤه يلوذون بأبواب وطنهم في خيبة مفجعة ويعودون إلى عنابر الاغتراب حزانى بائسين.

كيف سيتشكل وفد الحوار من أجل إطلاق عملية السلام الموعودة؟

من الواضح أن قوائم الدول المتحاربة تتلاطم الآن في حقيبة المفوض الأممي #ديمستورا، وسيخرج من هذه القوائم البائسة نحو ثلاثين اسماً يختارهم ديمستورا على قاعدة حكرا بكرا، وفق مطابقات الكوتشينة المؤسسة على التراضي بين أعضاء فريق الوصاية، ولا أعتقد ان في أي منها اعتبار الفريق الأكثر مصداقية أو موثوقية أو حتى قبولاً من الناس، وستوجه لهم الدعوات ليبدؤوا عملية إعداد لفريقهم الموعود الذي سيبحث عن إبرة الحل في كومة القش والخراب الممتد على طول الوطن المنكوب.

بدون أدنى شك لن تفرز التصفيات فريق الطهارة والعفاف والنزاهة السوري، ولن تؤدي التصفيات الكارثية إلى وصول التكنوقراط الحكيم الموصوف بالنزاهة والطهارة ولا كاريزما القيادة وثقة الجماهير، ولكنها على أي حال ستفرز فريقاً من السوريين الذين نفترض أنهم رفضوا أن يكونوا جزءاً من الظلم، وانحازوا إلى الشعب المكلوم.

وبالتأكيد فإنه ليس بوسع هذا الفريق إن تشكل أن يقول إنه يمثل السوريين بأي معنى، بل يمكن القول إنه لو رأى النور يمثل فريق الوصاية الذي حكمته الأيام بالشعب السوري المنكوب، ولكنه على كل حال يجب ان يعبر عن الشعب المقهور.

إنها لحظة الحقيقة، مع أن آمال الحل وفق رؤية فيينا لا تتجاوز عشرة بالمائة ولكننا محكومون بالأمل ولا نملك خيارات أخرى، واللحظة تحتم على فريق المعارضة الموعود أن يكون بصيراً بما تتطلبه الأيام، والرسالة الأكثر نبلاً وتضحية هي أن يبادر السوريوين الذين ألقاهم قمار الأمم في موقع المسؤولية التاريخية هذا إلى تغليب مصالح وطنهم على مصالح أنفسهم وأحزابهم، وأن ينظر كل سوري إلى الجانب الملآن في كأس أخيه، وأن ينظر إلى الجانب الإيجابي على مبدأ رحم الله عبداً شكر المليح وستر القبيح وعفا وغفر، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

إنها لحظة تفرض علينا محاربة الأنانية والنرجسية في الذات بكل تفاصيلها وتدعونا للعمل معاً لرفع العذاب عن السوريين المعذبين في الأرض وعودة اللاجئين والنازحين والمهجرين.

تماما كما لو كنا ذاهبين إلى بناء مسجد، وسنتوازع أدوارنا في البناء الموعود، إننا جميعاً نطمح أن نكون مئذنة يراها الناس ويحمدونها، ولكن المسجد له مئذنة واحدة، فإذا لم تكن مئذنة فمن الواقعي أن تكون قبة أو محراباً أو منبراً أو سجادة أو بوابة، فكل هذه التفاصيل مطلوبة وضرورية وقد تكون أكثر نفعاً لرسالة المسجد نفسه من المئذنة، ولكن الخيبات تجعلنا دوماً نبحث عن المظاهر الموعودة التي يستنزفها الرياء وحب الظهور.

من الناس من يريد أن يكون المئذنة ولا شيء آخر إلا المئذنة، وإلا فإنه سيكون هبل الأقرع في المعبد الوثني، ولن يرضى أن يكون الثاني هنا ولا هناك، وقديماً قال #نابليون: أن أكون مختار قرية أحسن من أكون الرجل الثاني في #روما.

إما أن أكون موسى أو فرعون، إما محمد أو أبو جهل ولا شيء آخر….
هذا هو في الواقع العقل المسيطر على مجموعات المعارضة السورية، وهو ليس بالضرورة شأناً فردياً .. بل هو في كثير من الأحيان شأن حزبي، فهناك آخرون يمارسون الإخلاص لجماعاتهم وطوائفهم وأحزابهم ولأجل ذلك يمارسون العند ويباسة الراس في رفض أي حل لا يكون تحت راية الجماعة أو الطائفة أو الحزب، ولا يرى في الآخرين إلا أنداداً غاصبين، نتقرب إلى الوطن والله بعنادهم وإفشالهم.

إنني آسف أن تأتي مقالتي على هذا النسق من الوعظ الذي صار السوريون يمقتونه بعد أن سئموا الواعظين، ولكنه على كل حال خطاب اللحظة ومواجع الساعة.

إن الفريق الذي ستفرزه المعارضة بعد هذا العبث لن يكون إلا إفرازاً عشوائياً لقمار الأمم، ولكننا لا نملك في هذه اللحظة خياراً آخر، فهل نستطيع خلال شهرين قادمين أن نبلور أسماء زعماء سوريين يتقدمون الصفوف ويحظون باحترام الناس ويفاوضون بثقة ومسؤولية لصالح إنهاء الحرب ورفع الظلم عن الناس ووضع سوريا على سكة الخلاص؟

إن أنبل رسالة يمكن أن نحملها هي دعوة الجميع إلى التخلي عن حظوظ الذات والانخراط في الممكن والمتاح من عقلية الجماعة والبحث عن خلاص يذكرنا فيه التاريخ دعاة سلام ووئام نسهم في خلاص شعبنا المنكوب.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.