د. محمد حبش

حين قدمتها #زينة_اليازجي على #سكاي_نيوز كانت تتحدث عن امرأة فريدة استطاعت أن تحول خيمتها في #البقاع اللبناني إلى مدرسة حقيقية ينتظم فيها عشرات الطلاب، كانت زينة يازجي بارعة في انتقاء ضيفتها، ولكن الأشد دهشاً وروعة كان ماما فاطمة.

 

كانت ماما فاطمة تتحدث عن خيمتها بثقة واقتدار كما لو كانت مديرة ومالكة لإحدى مدارس المونتيسوري أو جيمس ولينغتون أو الشويفات، وكانت حريصة أن تشرح الاستراتيجيات التربوية التي تقوم بها في الخيمة وخطط إدارة الصف والمناهج ومطابقتها لقواعد علم النفس التربوي، واعتمادها منهج النشاط والمنهج المحوري وطريقة العصف الذهني والبيان العملي وغيرها من استراتيجيات التعليم الحديثة.

راقبتها بدقة، لم يكن في صوتها أدنى قلق أو ضعف، كانت تتحدث عن السنتين اللتين امضتهما في هذه الخيمة ولا تزال، كما يتحدث أي أستاذ جامعي عن منصبه كعضو في الهيئة التدريسية يقوم بعمله على أتم بصيرة واقتدار وينتظر الترقيات.

لم تتلكأ فاطمة وهي تصف نشاطها الدؤوب في الخيمة، ولم يكن ينقصها من الثقة شيء فهي تحمل إجازة الأدب الإنكليزي ولديها خبرة طويلة في التدريس، وهي سعيدة أن تضع خبرتها وقدراتها في خدمة الجيل الشريد في خيام اللجوء.

لم تقدم خلال عرضها الطويل أي عبارة شكاية أو تسول، ولم تظهر في عباراتها أي لغة منٍّ أو أذى، لقد كانت تتحدث بثقة وأمل عن خيمتها العظيمة، والقدرات المعقولة التي تتوفر لها، وعن المستقبل المنشود لهؤلاء الأطفال وهم يبدؤون حياتهم من جديد تحت الخيام وقد فقدوا أحبتهم وأهاليهم واستطاعت ماما فاطمة أن توفر لهم شبه صف وشبه كتاب وشبه مدرسة وشبه طفولة!

حين سمعت ثقتها ويقينها قرأت في عينيها قول الله تعالى: “إذا ابتليت عبدي فصبر ولم يشكني إلى عواده استحييت يوم القيامة أن أنشر له ديواناً أو أنصب له ميزاناً”!!

حين دخلت الكاميرا #مدرسة_فاطمة التي تعج بعشرات الأطفال الضاحكين، لم تكن مدرستها العظيمة إلا خيمة من خيام الشتات، ليس فيها مرافق ولا ملاعب ولا قاعات صف ولا قاعات إدارة ولا غرف توجيه ولا مدرج أودوتوريوم ولا قاعة سينما ولا مختبر… أنها خيمة وكفى!!..

خيمة ولكنها بدت واسعة رحبة، زاخرة بالرسومات والأقلام والدفاتر، وفيها أكثر من عشرين بالون وخيوط تمسك البوالين وأقلام ملونة وأوراق أشغال وجدران خيمة غنية تزخرف بكل ما تبدعه أنامل الأطفال وأفكارهم وعجائبهم.

لم تقل فاطمة شيئاً عن تآمر المجتمع الدولي وتمزق المعارضة وشتاتها وتوحش النظام، ولم تقل شيئاً عن خطط الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين وعن محاولاتها للحصول على هذه المنح والمساعدات، لقد بدت كمديرة حازمة لا تحتاج من هذا العالم التائه صدقات ولا أعطيات، لقد كانت تتحدث بكل ثقة ورضا عن رسالتها التي تمنحها السعادة، وعن جيل المستقبل الذي تقوم بإعداده بثقة ورضا، رغم أنها لا تقصد أكثر من أطفال المخيم البائسين في الشراد والحسرات.

كم نحتاج إلى عزيمة هذه الأم الرائعة ويقينها وقلبها الأبيض لننجح في مواجهة المأساة ونحول آمالنا البائسة الى مشاريع أمل وحياة.

هيئات تلتقي وتجتمع وتعقد المؤتمرات والندوات، وتقدم الدراسات والاقتراحات والرؤى والتصورات حول تعليم اللاجئين، مرفقة بالإحصاءات والجداول البيانية المعدة بإتقان على برامج السمارت آرت والاستاتستيك، ولكنها تنتهي في الغالب ببيانات من الرثاء والاتهام والغضب ضد #النظام و #المعارضة و #الأمم_المتحدة والدول الكبرى والدول الصغرى والدول الوسطى، وضد الأغنياء والوجهاء والسياسيين والمنظرين والإعلاميين، وفي النهاية لا شيء يتغير على الأرض إلا أعداد الأميين والمشردين والمحرومين من المدارس.

لقد تواصلت مع عدد من الأصدقاء، وقدرنا تكاليف مدارس من نوع ماما فاطمة بنحو ألف دولار شهرياً، بما في ذلك أجر الخيمة والمعلمة ومساعدتها وكتب الطلبة المستعملة، وبقدر طاقتنا المحدودة قمنا بالتواصل مع عدد من الفواطم لإقامة مدراس بهذا النوع الملهم، وأعتقد أنه أفضل شيء واقعي يمكن أن نقدمه لشعبنا المنكوب في شراده وشتاته.

ما زالت فاطمة متماسكة وواثقة حتى ظننت أنها تؤدي مسرحية كاميرا خفية، أو تؤدي دوراً في (الصدمة) في رمضان، فكيف لامرأة أن تعيش هذا الواقع الأسود المرير من القهر والظلم أن تنسى كل هذه الجراح، وأن لا تستغل فرصة وصول قناة هامة لتوجه رسائلها للعالم ممزوجة بالدموع والحسرات والشكاية وما من طفل في قاعات خيمتها المدهشة إلا وهو نكبة ومأساة!!

كانت ماما فاطمة تريد أن تبدو أمام أطفالها قوية، وتريد أن يشعروا أن نظامهم المدرسي ينافس البرامج المتقدمة، فلديهم أوراق أشغال وسبورة ذكية وجدران كبيرة ودبابيس كثيرة وهي مستعدة لتعليق صورهم وإبداعاتهم ونجاحاتهم، وأن لديهم حرية في برامج النشاط لا تتوفر في تلك المدراس المحاطة بالجدران والأبواب الحديدية..

لست أدري سر قوتها وعزمها ويقينها وكيف استطاعت أن ترسم ابتسامتها الطاهرة على وجهها الطافح بالأسرار وهو يحكي قصة شعب منكوب لا يعرف التاريخ قهراً ولا هواناً ولا شقاء كالذي كابده من الهول.

لم تتحدث فاطمة طول المقابلة عن ظروفها القاسية وقهرها وعنائها الذي أجبرها أن تكون في الخيام بدلاً من المدارس النموذجية التي تطمح لها كل خريجة أدب انكليزي تمتلك هذه الطلة وهذا الحضور وهذا الجمال وهذه الثقافة.

لم تتحدث عن ربيعها ونعيمها المنكوب وأحبتها التائهين في الأرض وحطام بيتها المدمر وأحلام أطفالها تحت التراب، ولم تتحدث عن رحلة العذاب والقهر وطريق الجلجلة التي ركبتها من دار عزتها إلى دار شرادها وقهرها!!

لقد منحت بدلاً من ذلك كله فرصة الابتسامة الواثقة واليقين بالمستقبل والأمل بالحياة أمام وجوه الأطفال.

كم من درس عطاء وأمل تعلمه هذه السيدة الهائلة للناس وهي تصرُّ في غربتها وشرادها أن تقول اضحكوا أيها الاطفال وتعلموا وعلمونا، وغنوا لنا وغنوا معنا، أيها الأطفال… لا تيأسوا ولا تبأسوا.. هذا هو شكل العالم: كوخ يضحك قصر يبكي……..

في آخر المقابلة انهارت فاطمة وبكت، وأمام الكاميرا شعر الناس أنها في النهاية إنسان!!

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.