مع مرور الوقت، تنكمش حركة التنقل والترابط بين الكيانات الرسمية في العالم، ويتوسع هذا الانكماش بتوسع قضية الفيروس التاجي لتشمل الجماعات البشرية التي تقطن تلك الدول.


هذا التباعد الاجتماعي، وهذا التوقف الاقتصادي والتواصل الرسمي الذي وضع قادة دول كثيرة خلف ستار السكايب والتواصل عبر الشاشات يُصعب مُهمات مُرافقة حياتية لجهات تبحث عن تثبيت أقدامها ضمن صخب الصدامات في الشرق الأوسط.


كيانات لم تجد لنفسها بعد؛ المنفذ الدستوري لتتأطر رغم بنائها لهياكل موازية، ورغم أنها توصلت لتشكيلات سياسية وعسكرية، تحاول من خلالها التسرب لتثبيت ذاتها.


هذه الهياكل، ومنها الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا ستعاني كثيراً مع هذا الانكماش السياسي والاقتصادي العالمي بسبب تبعثر الضوء عن قضايا عامة مصيرية ستتحول مع هذه الظروف إلى قضايا ثانوية.


القضية السورية ككل، تتبعثر في هذه الأيام مع رؤية الجميع خلف الحدود السورية أنهم مُهددين من عدو غير تقليدي، وغير مكترث للمقابل ككورونا.


ومع تحول الأنظار إلى القضايا الداخلية في الدول ذات الثقل منها إلى القضايا الخارجية التي تهم السياسات الخارجية للدول ذات النفوذ. القضية السورية بحد ذاتها تُهمش فكيف بقضية هي جزء من أجزائها، وإن كان ذلك الجزء يحتوي في داخله على عدد من المفاعيل ذات الثقل محلياً.


إن هذه الكيانات التي ظهرت على السطح بعد دماء كثيرة، وتتبعثر هذه الأيام مع تزايد أرقام الضحايا لدى سكان العالم بسبب التاجي، لا بد أن تدرك أن المسارات السابقة في السياسة لن تفيد في الوقت المنظور.


يقفز الجميع حالياً عن تلك المسارات، ويتقوقعون على ذاتهم. هذا التطور السريع تحت يافطة الاستجابة لن يفيد في احتمال أن تلعب الأدوار الدولية والإقليمية في تظهير حل لمشاكل مهمشة تاريخياً.


المخاطر السابقة لم تنتهي بالطبع، فداعش مازال يتنفس في أرياف ديرالزور، ومازالت القضايا العدائية للمحيط المجاور مستمرة، ولاتزال المصاعب الحياتية مترسخة في عموم سوريا، وفي مناطق الإدارة الذاتية بالطبع، وإن كانت أخف بوجود بعض المداخيل القادمة من مصادر مختلفة.


إن هذه المخاطر، لن تساهم في تعزيز  قوة القضايا في وجه العدو التاجي. لم تعد قضية محاكمة العناصر الأجنبية من تنظيم داعش أو عودتهم إلى أوطانهم قضية ذات وزن أوروبياً. ولم تعد رؤية قوافل عسكرية تركية تدخل إلى إدلب مثار قلق للأطراف التي تميل للإدارة الذاتية.


هذا الفيروس الذي عزل جماعات بشرية متنوعة الهويات عزل الكيان نفسه. عزله عن قدرته من توريد مظالمه للآخرين. مخاطر أن يتم استثمار هذا الجو العام من الهامشية على الكتلة البشرية الممتدة من الريف الغربي لتل أبيض إلى منبج من قبل جماعات معارضة، لنشوء هيكل إداري ودستوري لسكان تلك المنطقة؛ في ازدياد.


لا يمكن تصور أن هذا الجو، إن تمدد مثير للراحة. الوباء الذي يظهر هنا وهناك يفيض بالفرص على الجهات الأكثر نفوذاً إقليمياً في وجه الكيانات التي تبحث عن بصمة وتسعى لتثبيت حقوق مسحوقة تاريخياً. هذا الفيضان التابعي للفيروس التاجي يُصعّب الوقائع على الأرض، ويزيد التساؤلات في حال تمددها.


حراكات سياسية تجديدية كانت من المفترض أن تبدأ تمهيداً لمفاوضات جديدة قد تبني القاعدة الصلدة للحل في سوريا.

هذه الحراكات التي كانت تعاني المخاض من جهة هدفها، والأطراف المشاركة بها، ومن جهة فاعليتها، أصبحت معزولة عزلاً أقرب من الجمود نتيجة سياسات العزل الموازية والمتبعة لردع الضيف التاجي على البشرية.


هذا العزل لم يشمل فعلياً خطوط التماس العسكرية بعد. دعوات “غوتيرس” والمنظمات الدولية لم تتحول إلى اتفاقيات حقيقية بقدر ما هي بيانات تعتمد على مراكز قرار قادة القوى على الأرض.

وهذا عامل خطر إضافي. أن يُستثمر هذا الهدوء في توسيع مساحات السيطرة لبعض القوى هو خطر لا يمكن تجاهله.


خطوط الخطر المتوقعة لمناطق سيطرة الإدارة الذاتية هو في ما تبقى من منطقة الشهباء، وكذلك في محافظة الرقة. في الأولى الخطر هو خطر عسكري بحت، وفي الثانية هو خطر إداري، ونفوذي، وتنفيذي حتى. هذا كله يرافق عالم العزل الدولي.


عليه، الرؤية التي تعمل بها الإدارة المحلية في شمال شرق سوريا تحتاج ان تتوسع. التوسع المطلوب أكبر من مجرد إظهار التزام بمواكبة محاربة الفيروس من خلال البيانات عن تحديد الحركة بين المدن أو مواكبة في نشر فيديوهات عن عمليات تعقيم لبعض الساحات في القامشلي والرقة.


بل هي مواكبة تحتاج إلى وضع كل التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ترافق هذه الجائحةـ، والتي قد تتهول مع توسع الفيروس في النظر. مراجعات واسعة للاقتصاد الداخلي، وللعلاقات السياسية والاجتماعية، ورؤية أوسع للمنافذ الحدودية، واللغة الإعلامية والسياسية المطلوبة.


قد يمر ضجيج التاجي مرور الكرام، وهو احتمال كبير، ولكن، التجربة التي خلّفتها أيام العزل، هي فرصة لفهم أكثر لمدى محدودية الفرص التي تظهر.


وهي بدورها فرصة لفهم مدى احتمالية ان تتحول ما يؤمن به الكثيرون على كونه مركز الكون إلى هامش صغير في المحفل الدولي، وخاصة إن كان إدارة هذا الهامش بكلمات كبيرة، وخطابات مكررة، وروتين لا يزيد إلا المنهك إنهاك.


في هذه البقعة من العالم، الجائحة لا تركز على مصير المرضى بقدر ما تركز على الكيانات الموجودة بشكل عام، والتي يعيش فيها الناس على حلم جديد قد تكون الجائحات واحدة من مثبطاتها وليس القلق الرئيس الوحيد فيها في تضاد تام مع ما يهم الناس في الكيانات التقليدية في العالم؛ بل هو واحدة من قلاقل كثيرة محيطة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.