غاب عن سيل تجديد الولاء والعهد “للثورة السورية” الذي دأب عليه أغلب المعارضين السوريين منذ الـ15 من آذار/مارس الفائت، أي دعوات لإجراء مراجعات نقدية لمسيرة المعارضة وخياراتها السياسية والعسكرية، وما مرت به البلاد نتيجة لذلك خلال السنوت العشر الماضية.

وكان من الأجدى أن تكون الذكرى فرصة لمختلف الأطراف السياسية السورية من أجل إجراء محاسبة وتقديم جردة حساب حول الأخطاء التي ارتكبتها وأحالت دون امكانية الالتفاف حول مشروع وطني جامع، وكيف تحولت الأوضاع إلى أبعد ما تكون عن تصور اولئك الشبان الذين خرجوا للمطالبة بـ”الحرية والكرامة”.

فالحراك السوري كان ممكناً أن يعتبر البداية النموذجية لثورة وطنية، فيما لو أفرز معارضة ذات مشروع وطني؛ تراعي به حقوق مواطنيها على اختلاف انتماءاتهم المتعددة، وتحتاط من حجم الهشاشة في الهوية والانتماء الوطني بين المكونات؛ أقله كقضية لم يجرِ العمل لأجلها منذ تأسيس البلاد، أعوام العشرينات وحتى يومنا هذا، وما يعني ذلك من سهولة تحوير أي حراك شعبي إلى حرب أهلية أو صراع طائفي.

لكن تحولات الحدث السوري عسكرياً وسياسياً، أظهرت أن هذه المعارضة و”مشروعها الثوري” المفترض، لا يزالان يتجاهلان بصورة فجة تاريخ هذه البلاد؛ الحديثة النشأة وحقائقها الراسخة، كما يُظهران عجزاً عن الإحاطة بما تعيشه من أزمة مركبة؛ هي في حقيقتها مكونة من 4 أزمات على الأقل؛ تتداخل مع بعضها و تتفاعل، لتنتج واقعاً بالغ الصعوبة والتعقيد، ما يجعل من إمكانية إيجاد حل أو حلول لها، أمراً بعيد المنال في المدى المنظور على أقل تقدير.

فرغم أن استمرار نظام مستبد لنحو60 عاماً، كان سبباً كافياً لتأزيم حالة البلاد، ودفع شرائح واسعة من مختلف المكونات إلى المطالبة برحيله، إلا أن الوقائع أثبتت أن سقوط هذا النظام ما كان ليؤدي إلى واقع أفضل من الحقوق والحريات، وذلك يرجع إلى بروز أزمة أخرى، دأب ولا يزال النظام السوري على استثمارها، فيما ساهمت المعارضة على استفحالها إلى درجة أنها باتت تترك أثرها ليس على مجمل البلدان التي وصلها الحراك الاحتجاجي في منطقتنا فحسب، بل تتعداها إلى تشكيل خطر على الأمن الدولي برمته.

هذه الأزمة عكسها ظهور تنظيمات كداعش والنصرة وغيرها من التشكيلات الطائفية المتطرفة، والتي لم تكن إلا انعكاساً للأزمة التي يعيشها العالم الإسلامي، كنتاج لموروث فكري؛ يقوم على تقديس أحكام فقهية وتفسيرات لرجالات “غير معصومين”، وسيطرة تيار فكري يقوم على فكرة الإجماع، ويجير ما يقول إنها حقيقة ناجزة مكتملة، لإقصاء بقية المدارس الفكرية وتكفيرها. الأمر الذي يُكسب الدعوات إلى إعادة قراءة هذا الموروث ومن خلاله التاريخ الإسلامي من جديد مشروعية راهنة.

ولا شك فإن التدخل الدولي والإقليمي في سوريا، خلق بذاته أزمة ثالثة لابد من مراعاتها، كما الأزمتين سابقتي الذكر( بقاء النظام على عقليته، والتنظيمات المتطرفة)، في أي مشروع سياسي يتوسم انقاذ البلاد من واقعها الحالي.

و لا يخفى مدى تأثير التدخل الخارجي هذا، وكيف أدى إلى تحول القوى السورية إلى مجرد بيادق في لعبة حرب بالوكالة إلى درجةٍ لم يعد فيها للسوريين أية امكانية للقبض على مصائرهم ومستقبل بلادهم من دون مراعاة مصالح هذه البلدان، التي تبدو متضاربة ومتناقضة.

ففي ظل استحالة توصل السوريين إلى توافقات وحلول وسطية، يبدو من الصعب بأي حال أن يؤدي أي حسم للصراع من جانب القوى الدولية، إلى نتيجة لصالح مجموع المكونات السورية، التي خرجت مجتمعة من أجل الحرية والكرامة بدايةً.

وأما الأزمة الرابعة والتي كشفت عن نفسها في مناسبات عديدة، حتى بات من الاجحاف تجاهلها في أي مشروع سياسي يهدف لإيجاد حل طويل الأمد، هي تلك الأزمة التي خلفها وجود قضية كردية تنتظر حل ينهي عقوداً من مشكلة بناء دولة، تمت على أساس ملتوي، وأريدَ لها أن تنهار يوماً ما.

الأسوأ وبدل أن تلتقط المعارضة السورية الإشارات التي يرسلها المجتمع الدولي، بعيدا عن الفيتو التركي، حول ضرورة مشاركة الكرد بجميع أطرافهم في مفاوضات الحل، خاصة وأن العامل الكردي بات حقيقة سياسية في الوضع السوري،  لكن على العكس نجد أن واجهة المعارضة التي يقودها تيار الاخوان المسلمين لا تزال تعول على تركيا أردوغان في تصفية الكرد وجودياً، عبر دعم المشروع الذي يدعو إليه تحت مسمى “ممر سلام”، وهو في الواقع ليس إلا مشروع إعادة توطين لملايين السوريين اللاجئين في تركيا.

إن هذا المشروع فيما لو قيض له أن ينجح، سيؤدي بالنتيجة إلى تصفية القضية السورية لصالح النظام عبر إقرار التغيير الديمغرافي الذي بدأه في مناطق سورية كانت حاضنة للمعارضة، مقابل تصفية القضية الكردية، وذلك بعد أن يتم إيجاد موطن بديل لهؤلاء اللاجئين في الشمال السوري. وهنا يبدو مدى تكامل مصالح نظام دمشق مع مصالح نظام أنقرة، وتضاربهما مع مصالح ومستقبل مجمل السوريين.

ورغم أن كثير من المعارضين السوريين لا يرون من الكرد بمختلف أطرافهم السياسية، سوى أنهم حاولوا “ابتزاز الثورة السورية” عبر المطالبة بحقوقهم. إلا أننا نجد في المقابل أن المعارضة_ ومن واقع ما مررنا به من أحداث_ لم تتمكن من المحافظة على أكثرية الشارع الكردي الذي شارك في الاحتجاج السلمي، بل إن هذه المعارضة ومن خلال ارتمائها في أحضان الدول الإقليمية وفقدانها للإرادة تحولت في نظر الغالبية الساحقة من الكرد السوريين إلى الخطر الوجودي الأول الذي يهدد باقتلاعهم من الجذور٬ لدرجة فيما لو انحصرت خياراتهم على المفاضلة ما بين سقوط مناطقهم بيد تركيا والفصائل الموالية لها، وبين عودة النظام، فالمرجح أنهم سيقبلون بعودة النظام كخيار أقل كارثية على اعتباره أهون الشريّن.

ولا يخفى ما تركته تجربة عفرين من قطيعة بين الكرد السوريين والمعارضة، حيث لا تزال المنطقة رغم مرور عامين على احتلالها، تشهد انتهاكات واسعة النطاق لا تقل وحشية عما عانته حواضن تلك المعارضة وتلك المجموعات المتطرفة من جيش النظام وأزلامه.

صورة المعارضة في نظر الكرد السوريين اليوم، هي تلك التي ترفع علم استقلال الجمهورية السورية، و لكنها لا تزال تحتفظ بـ”الجمهورية العربية السورية” كترويسة من تركة البعث في مراسلاتها و خطاباتها الرسمية، وهي تلك التي خرجت على حكم عائلة الأسد و”نظام الأقلية العلوية” من أجل السلطة وحكم “أكثري طائفي”، كما لا تستطيع الخروج من عباءة البعث وثقافته التي أورثت المجتمع السوري خراباً معمماً في مختلف مناحي الحياة.

وهي تلك المعارضة التي تتحدث عن مشروع مواطنةٍ في خطاباتها، يثير الكثير من التساؤلات حول مصداقيته و امكانية ترسيخه لأية طمأنينة لدى الكثير من المكونات السورية، ذلك أن كل تجارب حكم فصائل المعارضة المحلية، فشلت في توفير أدنى هوامش الحرية والكرامة في مناطقها.

وعلى الرغم من أن الالتزام بحل القضية الكردية  قد يكون البوابة الحقيقية للوفاء بحقوق الأقليات السورية بشكل عملي، وليس الاكتفاء بإقرارها نظرياً في الدستور، ما يبقي على أمكانية تعطيلها قائماً. إلا أن المعارضة تتخذ من “مشروع المواطنة” ذريعة لتقزيم الحقوق الكردية، عبر طرحه في سياق محدد تضع من خلاله الأقليات وحقوقهم في مواجهة الكرد وقضيتهم.

في النتيجة  تبدو المعارضة أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما الاستمرار مع تركيا في إقصاء الكرد سياسياً في المحافل الدولية إلى جانب إنهائهم وجودياً عبر تغيير ديمغرافية المنطقة في مقابل إنهاء مشروعها “الثوري” الذي بات ورقة مساومة بيد تركيا في بازارات السياسة الدولية، وإما تحرير قرارها والعمل على وضع القضية الكردية  كأحد المحددات الأساسية لمشروع حل وطني جامع. وإشراكهم بشكل عادل في مفاوضات الحل.

عدا ذلك سيعني أي تجاهل آخر للكرد وحقوقهم، تأخير بناء هوية وطنية قائمة على المساواة والشراكة الحقيقية، واستمرار الأزمة في البلاد عقود أخرى. إذ تشهد صفحات التاريخ أن الحقوق الكردية لطالما شكلت زمن التحولات المفصلية في تاريخ العراق وتركيا وإيران، الامتحان الحقيقي لقوى المعارضة في هذه البلدان، إذ أنها كانت تكشف مدى مصداقية ما تطالب به من ديمقراطية وحرية.

ودون شك لن يكون هناك أي تحول ديمقراطي حقيقي في منطقتنا، دون إيجاد حل للقضية الكردية فيها؛ كونها المؤشر الأكثر دلالة على انتصار ثقافة تقبل الآخر، وبدء صفحة تاريخية جديدة فيها.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.