في محافل الحرب الأهلية تقول السردية التاريخية أنه مع تمدد الحرب تتوضح القوى النهائية في ميدان المعركة مع ملاحق عسكرية خاملة تستفيق عند الطلب. هذه الملاحق التي لا تلتزم بالقواعد العسكرية، ولا تملك انضباط عسكري للحد الأدنى لقواعد الاشتباك، وتمايلها يكون دوماً للجهة الراعية التي تلعب دور رئيسي في ميدان الحرب الأهلية الرئيسية، ولا هدف مستقل لها أكثر من كونها هدف لتأمين التمويل الذاتي لعناصرها الذين لا يبحثون عن مستقبل بقدر ما يبحثون عن شعور بالسلطة في بقعة جغرافية تافهة.

بالإضافة إلى بحثهم عن تأمين مصدر رزق لا يعتقدون أنه من بديل له سوى السلاح. هذه المجموعات العسكرية التي تُصنف في خانة المليشيات تسير في ركب الظهور مع الاهتمام من الراعي المحلي أحياناً، ويُحبط مع اندثار قوة الراعي أو هبوب رياح قوية عليه تجعله ينشغل بعيد عن الخطوط التي تجد فيها تلك المليشيا دورها ووزنها المفروض.

في محافظة الحسكة بشمال شرق سوريا تقوم ما يُسمى ب “الدفاع الوطني” بهذا الدور بشكل مثالي. تتورم عضلات تلك الجماعة مع الحُقن التي تحصل عليها مع هزيمة الأطراف المُجاورة لها في جبهة ما، أو مع انتصار الراعي الرسمي لها في معركة ما، أو بعد ظهور توصيات لها بإن كل تورم في القوة لديها يعني زيادة في التغذية لها، وبالتالي، تمدد في العمر. وهكذا دواليك حيث لا تسمح القوى الرئيسية لتلك الجماعات الهامشية بالتطور لتصبح تشكيل يُعتد به، ولا تسمح لها بالتحول إلى بديل للجماعات الرئيسية، ولو بشكل مناطقي حتى.

كما هناك من حيث المبدأ داخل تلك التشكيلات، وبين قادتها، ذهنية عائمة تصر على إيجاد نفسها تحت ظلال القوات الرئيسية في الحرب. شيء من التقبل لواقع الصنف الثالث من جبهات مليئة بالتضاد، وتصارع النفوذ. أي أن انبعاث التفكير لديها بالتحرر أو الانحلال أو حتى الابتعاد من البقاء في تلك الدائرة غير المُحببة، والمثيرة للشفقة، والبغيضة في نفس الوقت لدى الجماعات البشرية المحلية والمُحيطة بها هو انبعاث عديم.

خلال الأيام الفائتة تحولت مدينة القامشلي المعروفة بتوافق الكثير من القوى الدولية المؤثرة في الحرب السورية على تحييدها من صراعات مباشرة إلى ساحة مناوشات بين قوات الأمن الداخلي “الأسايش” التابعة للإدارة الذاتية من جهة وجماعة الدفاع الوطني من جهة ثانية، ولأسباب واهية يظهر من خلال التمحيص فيها أن الدفاع الوطني ينفذ أوامر مباشرة قدمت له. مصدر هذه الأوامر من الواضح أنه يدور بين ثلاث جهات رسمية هي دمشق، وموسكو، وطهران.

هذه الأوامر التي لم تسفر عن أي تغيير على الأرض بقدر ما زادت من التوتر في المدينة، ونكشت ملف الجماعة الخاملة من جديد في محافظة تتداخل فيها النفوذ لدرجة أننا شاهدنا العربات العسكرية للقوتين العظمتين في العالم، وهي تتدافع، وتتسابق على الطرق العامة في أرياف المحافظة بصورة تدعو للسخرية. شيء من الحراكات الواضحة عن ضياع أمريكي عن هدفها بعد قرار ترامب الأخير بالانسحاب من سوريا، وعن حذر روسي من أمريكا مُكلل ببعض التجارب في اللعب بملعب النفوذ الأمريكي الذي تحجم إلى الشرق أكثر.

استفاقة هذه القوى بهذا الشكل بعد سنوات من محاولة (قسد) تحييد ذاتها عن التداخل معها رغم كل شيء هو دليل على مدى بساطة تقبل تلك الجماعة للأوامر التي تستلم، وهي دليل راسخ عن كون قراءات ذاتية لها فيما يبدو هي قراءات قاصرة، ومرحلية، ومُجزئة، هذا ان كانت فرضية القراءات “البعيدة عن التقبل” هي فرضية حقيقية.

لم يقم الجيش الروسي بأي محاولة جدية للميل إلى الدفاع الوطني مع زيارة دوريتها العسكرية إلى موقع التفجيرات التي تركزت في مناطق سيطرتها في المدينة. هذه الدورية الزائرة كانت حريصة على إظهار ذاتها بدور المُحايد الحريص على لململة خلافات ثانوية في المدينة.

هذا دليل آخر على أن الروس لم يتجاوزوا حياديتهم المُريبة، ولا يرغبون في إنهاء دورهم كمُعالج لمشاكل الفوضى المُختلقة. شيء من التظاهر أكثر منه حقيقة على الأرض. وهذا بحد ذاتها نقطة قد تدفع تلك الجماعة على التوازن والانضباط أكثر أن رغبت في الرؤية بمنظار عقلاني رغم ان الرؤية لهكذا مجموعات عسكرية هي رؤية مشوهة، وغير واقعية عادةً.

في المعارك الأخيرة في مدينة القامشلي لم يحصل الطرف الغاضب وغير المنضبط على شيء سوى بعض الخسارات، ولم تصل رغبتها المُتمحورة على ولادة جديدة للخلافات القومية المحلية إلى السطح. هذه الهجمات التي تزيد من هشاشة الاستقرار في المنطقة هي عنوان جديد لمحاولة بعض القوى الرئيسية في المحفل العسكري السوري على دفع (قسد) للتفكير تحت الضغط.

(قسد) نفسها التي هي تحت الضغط أصلاً ليس بسبب بعض التحرشات الصادرة عن جماعة الدفاع الوطني، والتي لا يمكن ان تقارن كمقابل عسكري أو معنوي أو حتى سياسي لها، عليها إدراك هذه الحقيقة، وعليها أن تفهم ان عملية استفاقة الخاملين هي عملية لتشتيتها أكثر لذا فلملمة تلك الجهات، والتشبث بالاستقرار قدر الممكن دون غطرسة مُصاحبة مُحتملة، هي أفضل الردود على الرعاة الرسميين للطرف المهاجم.

الهدوء، والاحتواء، والتواصل على المستوى المحلي، ورسم القواعد، وتعيين نقاط التمركز، هي أفضل صور تثبيط المُحرضيين، وأنجع الطرق على إبقاء خمول هؤلاء التائهين خمولاً مديداً أقرب إلى النوم المُحبب، والمُعزز ببعض الأحلام عن نفوذ قادم لن يأتي فيما يبدو من حقيقة الوقائع المُحيطة، والقائمة على الأرض.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.